مدير الإدارة العامة للمرور يوجه باستمرار تفويج البصات السفرية يومياً للحد من الحوادث المرورية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م(دِموكتاتورية) (فزاعة طير) الشمولية .. بقلم: أمين محمّد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 13 - 01 - 2011


(1)
ونبدأ بتعريف عبارة فزاعة الطير، الواردة فى عنوان المقال – ويقال لها (الهامبول) فى عامية أهل السودان، و (خآل المآتة) عند المصريين – و هى كما يعلم أهل الزراعة، عبارة عن مجسم خشبى فى شكل آدمى، يصنعه المزارع ويحشوه بالتبن والسعف والقش، ليضعه فى الحقل، على هيئة إنسان يقف على قدميه، مجلبباً ومعمعماً، لمنع الطيور والحيوانات آكلة الحشائش، من الإقتراب من الزرع و إتلافه أو إتلاف ثمره. وهناك أيضاً لفظة (دِموكتاتورية) و رمزنا بها، لزئف ديمقراطية الدستور الإنتقالى، و يراد بها نقيض الديمقراطية أو مسخهها المشوَّه، و (مستعارةً من وصف أحد الكتاب الأفاضل، هو على الأرجح د. الأفندى، لسناريو مهزلة إنتخابات إبريل 2010 م، و ما تمخض عنها من نتائج سياسية ودستورية). أما كيف يصبح هامبول الديمقراطية هذا، (فزاعة طير)، لشمولية حكم المؤتمر الوطنى القابضة، فهذا ما يبيَّنه المقال، بإستعراض بعض الملامح الرئيسية للدستور، فى إيجاز بالغ، مع عرض موجز أيضأً لما تمخض عن نفاذه و سريانه، من نتائج عملية تعكس ما قصده منه صانعوه،على وجه الدقة والتعيين. فالعبرة من التشريعات ليست فى نصوصها و أحكامها، المضمنة فى متونها الباردة، بل فى تطبيقاتها العملية، التى تحوِّل هذه النصوص إلى ممارسات و أفعال حيّة ومحسوسة. فما يهم المواطن من التشريع ليست نصوصه المدونة فى الورق، أو كلماتها وألفاظها كما تقبع فى مخيلة صانعيه، بل ما تحققه على أرض الواقع المعاش من تجسيد لمضامينها سواء كانت كفالة حقوق أو فرض قيود عليها أو ترتيب إلتزامات أو واجبات أو سن قواعد ناظمة لممارسة السلطة العامة، أو و ضع قيود علي تلك الممارسة.
و بعد هذه المقدمة التعريفية الضرورية، نلخِّص فى إيجاز ظاهرة التناقض، بين الخصائص الإيجابية المائزة، للحركة السياسية السودانية، و إخفاقها و تعثرها فى ترجمة تلك الخصائص إلى طاقة إيجابية فاعلة، تمكنها من إنجاز صياغة إرادتها الجماعية، فى شكل وثيقة دستورية، ناظمة للعلاقات السياسية والإدارية والحقوقية، لمكونات الدولة السودانية، من شعوب وقوميات و طبقات و شرائح إجتماعية مختلفة. أما من حيث ما تقدم ذكره، من ملامحها و مميزاتها الإيجابية اللافتة للنظر، فثمة عاملان رئيسيان فى تقديرنا، أكسبا الحركة السياسية والإجتماعية، المعاصرة فى بلادنا، وعياً ذاتياً مبكراَ و مرموقاً، بصفاتها و خصائصها النوعية المائزة، المتمثلة فى قدراتها الخلاقة و طاقاتها الحيوية وعبقريتها الفريدة، فى إحسان إنجاز مشاريعها الوطنية الكبرى، كثورة الإمام المهدى التحررية، و ثورة 1924م، و مبادرة مؤتمر الخريجين، و معركة تحقيق الإستقلال و تفجير ثورة أكتوبر الشعبية 1964م وإنتفاضة مارس/إبريل 1985م المجيدة، و مقاومة شمولية دولة الإسلام السياسي الحالية... إلخ، وهى مآثر سياسية و إجتماعية تاريخية مايزت حركة شعبنا بحق – و باعتراف الآخرين - عن مثيلاتها و أضرابها فى محيطيّها المحلى و الإقليمى، والدولى أيضاً إلى حد كبير:-
أولهما: فى تقديرنا هو، استنادها إلى إرث تاريخى قديم، من التطور الحضارى و المعرفى، المقتدر و المؤثر والفاعل لشعوب السودان المتنوعة، ممتد منذ ما قبل التاريخ، مروراً بتفاعلها الإيجابى، مع كل عناصر التجديد الوافدة إليها، وإستجابتها لدواعى و ضرورات التجديد، و تطورها فى سياق جدل الحوار بين القديم والجديد، المفضى فى المحصلة إلى جدة و إغتناء و منعة، محتوى الناتج الحامل لجينات أفضل مكوناتهما أى القديم والجديد. وغنى عن الذكر بالطبع، أن هذا الإرث التاريخى - السند، عميق الجذور ومتعدد المصادر و المراجع و متنوع المنابت، و من ثم، غنى المحتوى.
والآخر: هو تزامن ميلاد ونشؤ الحركة الوطنية السودانية، بمنظماتها الحديثة من أحزاب سياسية ونقابات واتحادات و جمعيات و منظمات المجتمع المدنى المختلفة، مع ذروة النهوض الجماهيرى، الثورى العارم والجارف، الذى انتظم العالم بأسره، قبل وفى فى أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) و أعقابها ، ودشّنت به الشعوب عهد إنتصار إرادتها على النازية والفاشية ودحرهما، وإستشراف أفاق التحولات الثورية، تحت شعارات الإشتراكية و العدل الإجتماعى.
و معلوم أن ألوية هذا النهوض الثورى، حملها رأس الرمح المتمثل وقتها، فى تحالف شعوب المعسكر اللإشتراكى الوليد، ومنظمات حركة الطبقة العاملة فى البلدان الصناعية، وحركات التحرر الوطنى، فى البلدان المستعمرة، فى قارات آسيا و إفريقيا وامريكا اللاتينية. وبما أن حركة شعبنا التحررية، كانت ضمن مكونات الضلع الثالث، فى هذا التحالف الثورى الواسع، فقد كان من الطبيعى، أن يطبع هذا النهوض الجماهيرى العالمى، حركة شعبنا التحررية، من كل بد بطابعه الثورى، و يوسمها بالضرورة بميسمه التقدمى، و لو كره الرجعيون والظلاميون، لا سيما وأنها شكّلت حينها، كما أسلفنا القول، جزءا لا يتجزأ، من هذا النهوض والصعود الثورى الهائل. و يمكننا القول بأن الحركة الوطنية السودانية حافظت على جذوة مدها الثوري المتصاعد متقدة وحية، على مدى العقود الممتدة من قبيل منتصف أربعينيات القرن الماضي حتى بلغ منتهى ذروته وقمة عنفوانه، عشية الاستقلال. و بعده ظلّت هذه الجذوة متقدة وحية فى مأثرتي ثورة أكتوبر والإنتفاضة، و لا تزال وستظل هكذا و شعبنا يعد عدته لمنازلة شمولية الإسلامويين و هزيمتهم، وإجبارهم على التراجع النهائى والتام عن مشروع دولتهم الظلامية الخائب والبائر.
ومن الظاهر للعيان أن، طوفان هذا المد الثورى الجماهيري الوطني، قد ظلّ يشكّل مضمون الظاهرة الأكثر دلالة على فعالية وحيوية وديناميكية، الحركة السياسية والاجتماعية، فى التفاعل مع والانفعال بالقضايا المصيرية التى واجهها واقع السودان منذ ما قبل الإستقلال وحتى وقتنا الراهن. كما ظل تفاعل و إنفعال حركة الجماهير الحيوى والديناميكى بهذا المد الثورى يلعب الدور الأكثر تأثيراً فى حسم أمهات القضايا الوطنية. فإذا أخذنا معركة الإستقلال كمثال، نجد أنه وبدفع من هذا المد وبتأثيره، لعبت القوى السياسية المختلفة و التنظيمات النقابية والمدنية، التى تصدت وقتها لقيادة حراك القوى الوطنية بكل أشكاله، دوراً بالغ الأهمية فى تحديد الوجهة الأساسية، لمجرى تطور الأحداث نحو تحقيق حلم الاستقلال، من خلال تطويع توجهات القوى السياسية المتباينة الرؤى والمختلفة المصالح، وإخضاعها للالتزام بالإرادة الوطنية الغلابة. فاستجابت كلها لرغبة الشعب الداعية إلى توحد الحركة الوطنية، بأحزابها ومنظماتها المختلفة، حول مطلب حق تقرير المصير، والدفع بها للسير قدما للالتفاف حول مطلب إعلان الاستقلال، من داخل البرلمان، كما حدث بالفعل، مخالفاً لكل الإرهاصات والتكهنات التى سادت وقتها. فإعلان استقلال السودان من تحت قبة البرلمان، كما جرى فى أرض الواقع، حدث لم يكن يتوقعه أكثر المراقبين تفاؤلاً لحظة استقلال السودان، وذلك من فرط تباين و إختلاف روئ القوئ الفاعلة، والمساهمة فى الصراع ضد المستعمر، حول كيفية تحقيق و إنجاز الإستقلال. فلا غرو إذن أن سيطرت، خلفيات هذا التباين والاختلاف فى الرؤى، على أذهان المراقبين وقتها، على سند من واقع، إرهاصات الشعارين الأكثر استقطاباً لجماهير الأحزاب التقليدية، والمتمثلين فى وحدة وأدى النيل تحت التاج المصري، (الأحزاب الاتحادية)، والسودان للسودانيين مع ارتباط ما بالإنجليز، (ألأحزاب الاستقلالية). الأمر الذي أعتبر معه إتفاق الأقطاب المتنازعة، على هجر شعاريهما و إعلان الإستقلال من تحت قبة البرلمان، مأثرة من مآثر وطنية وثورية الشعب السوداني، المتميّز بحق وحقيقة. وقد أثبت تاريخ شعبنا الممتد من إنتصار الثورة المهدية، وما تلاها من إنجازات وطنية لاحقة، كثورة أكتوبر 1964م وإنتفاضة مارس/إبريل 1985م، وتشمل بالضرورة مقاومته الباسلة والعنيدة للشمولية الثالثة (1989م - ....) والممتدة بإذن الله، حتى النصر المؤزر، أن هذه المآثر العظيمة قيم أصيلة و باقية فيه وليست عابرة، كما يظن البعض توهماً.
فإذا كان ما تقدم من صفات التميّزٍ و التفرُّد التى يتسم به شعبنا، و كان ما نواجهه الآن، من واقع سياسي و إجتماعى محتقن و إقتصادى متصدع، ناتج عن أزمة وطنية عميقة وشاملة وشائكة ومتشعبة، و يهدد بكارثة قومية وشيكة تعصف بوحدة البلاد تراباً و شعباً، أوليس من المفارقات المحيّرة والمربكة، ألا يزال شعب السودان ، بكل ما عرف عنه، من وعى وحيوية وديناميكية، حتى نهاية العقد الأول، من القرن الواحد والعشرين، عاجزاً عن الوصول للصيغة المثلى المقبولة لدى أوسع أقسام مكوناته، للتأسيس الدستورى و الإدارى و الحقوقي و السياسي لدولته. أو ليس غريباً و محيّراً، أيضاً، و الأمر كما بيّنا، أن يظّل شعبنا يراوح مكانه، دون معالجة قضايا ما بعد الاستقلال، وفى مقدمتها تعزيز الاستقلال السياسي بانجازه التحرر من التبعية لدوائر الاستعمار الحديث، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي والنهوض الثقافي .... الخ وهى القضايا المتعارف عليها بمهام التحول الوطني الديمقراطي. فبعد جلاء المستعمر فى أول يناير من العام 1956م، ونيل بلادنا استقلالها السياسي، ورغم تصرم العقود و الحقب المتتابعة، التى تجاوزت نصف قرن من الزمان، تعاقبت قوى وشرائح اجتماعية متعددة، خلالها على كراسي الحكم، بساستها وعسكرها وتيكنوكراتها، نخباً تلو نخب، فرادى ومؤتلفين، ممثلين لإرادة الشعب حيناً ومنتزعين الحكم، غلاباً واغتصاباً وتعدياً، على إرادة الشعب فى أغلب الأحيان، فلا يزال الملمح الرئيس للمشهد السياسي، فى حاضر السودان اليوم، هو أزمة الحكم المتطاولة المتفاقمة والعميقة، والشاملة والمستحكمة والمستعصية، فى آن واحد. وبالنتيجة تظل حركة شعبنا تراوح مكانها، فى أحسن الفروض، دون تسجيل أي تقدم يذكر، عما كان عليه وضعه عشية الاستقلال. مما يجعل الصراع السياسي الإجتماعى، الدائر بين مختلف القوى السياسية، ينصب على كل قضايا ومهام ما بعد الاستقلال، دونما أي استثناء يذكر. وينهض هذا دليلاً وبرهانا كافياً على أن نخب الحكم المختلفة، لا تعير قضايا بناء الوطن وتنميته وتطويره، إلتفاتاً أو إهتماماً بل تنصرف عن ذلك إلى إيلاء مصالحها الخاصة همها الأكبر. و يؤكد ذلك صراع النخب الحاكمة، فى أغلب الأحيان، على محض أسلاب و غنائم الحكم من سلطات و وظائف و مراكز و إمتيازات وموارد مالية.... إلخ. فالسلطة فى نظر بعض القوى السياسية، هى مصدر القوة والنفوذ، المفضيين إلى السيطرة على مفاتيح دنيا المال و إكتناز الثروة، فهما إذن وسيلة الثراء و أداة حمايته والحفاظ عليه معاً. أنظر كيف يفعل الإسلامويون اليوم لترى أسوأ نماذج، (الربح فوق الشعب)، كم يسميه الكاتب والمفكر الأمريكى نعوام تشوميسكى، لترى كيف إتخذ فقراء الأمس و معدميه جهاز الدولة كحصان طروادة إلى دنيا الإغتناء الثراء و الفاحش و العريض بالسلطة، وكيف يوظفون سيطرتهم و هيمنتهم المطلقة على ذات الجهاز لحماية ثرائهم الفالت و المشبوه. وهنا يكمن تفسير ظاهرة المنافسة المحتدمة، بين مختلف القوى السياسية، حول جهاز الدولة، بأذرعه المختلفة، والحرص البالغ الذى تبديه، كل فئة منها، لفرض سيطرتها و هيمنتها الكاملة عليه، بغرض الإنفراد به وتوجيهه لتحقيق مصالحه الفئوية الخاصة، سواء كانت النخبة الحاكمة حزبية منتخبة ديمقراطياً، أو عسكرية دكتاتورية سطت على الحكم بقوة السلاح.
و ما أن تفرض هذه النخب الحاكمة، سيطرتها وهيمنتها على جهاز الدولة، فسرعان ما تبدأ بالإنتهاك الفظ للمبادئ الدستورية، السارية والنافذة، و إهدار الحقوق التى تتضمنها، ثم الخروج على ما إستقر عليه العمل، من مبادئ الدستور، وسيادة حكم القانون (سابقة جوزيف قرنق و آخرين /ضد/ حكومة جمهورية السودان) نموذجاً للدكتاتورية المدنية. و فى حالة الإستيلاء على الحكم بالقوة فسرعان ما تبادر الطغمة العسكرية، بإعلان ما تسميها أوامر جمهورية/دستورية جديدة، تبدأ بإيقاف العمل بالدستور وإلغائه وإلغاء مؤسسات الحكم القائمة و فى مقدمتها السلطة التشريعية، و هى المناط بها منذ إستقلال البلاد، مهمة وضع دستور دائم اللسودان. ولهذا جاءت تسمية البرلمان السودانى المنتخب والشرعى، بالجمعية التأسيسية
.(The Constituent Assembly)
أنظر دستور الإنتقالى سنة 1956م.
ومقصود بها الهيئة نواب الشعب المنتخبين للتأسيس الدستورى والإدارى والسياسى للدولة السودانية المستقلة. أى أن مؤدى هذه التسمية هو، أن هذه الجمعية التأسيسية، هى السلطة التشريعية الممثلة لإرادة الناخبين السودانيين، و المخوَّلة بموجب هذا التفويض، لصياغة وإجازة الدستور التأسيسى والدائم لجمهورية السودان المستقلة. بيد أن هناك دائما من لا يطمئن للركون إلى نتائج خيارات الإرادة الجماعية للشعب، ويتوجس خيفة ألا تلائم هذه الإرادة خياراته، ويشك فى أن تتفق خيارات الشعب مع مصالحه الذاتية الموغلة فى الخصوصية، فيسعى دوماً للحيلولة دون تحقيق غايات هذه الإرادة، مدفوعاً بتناقض مصالحه الخاصة مع المصلحة الجماعية الكلية للشعب. الأمر الذى يدفعه لبذل كل طاقته و إمكاناته لمنع، هذه الهيئة من إداء مهمتها و وظيفتها الدستورية، و من ذلك حرص الإنقلابيين الدائم و المقيم، على إبتدار بيانهم الأول بحل و إلغاء هذه الهيئة المنتخبة من الشعب، رغم حديثهم الكاذب والخادع فى حيثيات البيان، بأنهم جاءوا من أجل من إنتخبها. و يلفت ما تقدم ذكره بعاليه، النظر إلى ما نسميه بالبروز الواضح للمحتوى الحقوقي والقانونى للصراع السياسي الاجتماعي، الدائر فى السودان، ويتجلى فى ثنايا ما يطرحه الصراع من أسئلة: مثل من يحكم السودان؟ بمعنى أى القوى السياسية (منفردة أو متحالفة) هى الأكثر تأهيلاً وقدرة على تولى إدارة شئون البلاد، بما يحقق مصالح غالبية أهلها. وكيف يحكم السودان؟ بمعنى على أى أساس من التشريع يمكن لهذه القوى أو تلك، أن تدير تلك الشئون؟ و هما سؤالان محوريان فرضا وجودهما فى مقدمة أجندة مختلف القوى الاجتماعية - السياسية المتنازعة، وشكلا مع غيرهما من إستفهامات، أهم وأبرز موضوعات الصراع الاجتماعى - السياسى والفكرى، عشيّة الاستقلال، وبعده فى سياق إجتهاد مختلف القوى لابتدار، مشروع التأسيس الدستورى، والقانونى للدولة السودانية المستقلة. و لا يزال هذان السؤالان يحتلان موقعهما المتقدم فى قائمة كبريات قضايا الوطن، ويشغلان أذهان المهتمين والمعنيين بتلك القضايا، ويلحان فى طلب التوفر عليهما، بالنظر والتمحيص والتدقيق، و من ثم، شحذ الفكر وكدح الذهن كدحاً فاعلاً و خلاقاً، لإيلائهما ما يستحقان من نظر و جهد وبذل، سعياً حثيثاً ومسئولاً للبحث عن إجابات شافية كافية لهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.