كتب الرئيس الأمريكي باراك اوباما لجريدة الشرق الأوسط الصادرة في يوم الاثنين الموفق للعاشر من يناير عام 2011 و في اليوم الثاني من بداية عملية الإستفتاء تحت عنوان (لحظة السودان الحاسمة)، ما يلي:- (أخيراً، لا يمكن ان يكون هناك سلام دائم بمعزل عن سلام دائم في دارفور، فهناك مئات الآلاف من أهالي دارفور الأبرياء و محنة اللاجئين من أمثال أولئك الذين التقيتهم بمخيم في تشاد المجاور عام 2005، يجب اللا يغيبا عن ذاكرتنا. و هنا أيضا فان العالم يرصد الأحداث. و حكومة السودان يجب أن تفي بالتزاماتها الدولية. الاعتداءات على المدنيين يجب أن تتوقف. كما ينبغي أن تتاح لقوات حفظ السلام الدولية و العاملين في مجال المساعدات الاغاثية حرية الوصول إلى المحتاجين. و كما أبلغت القادة السودانيين في سبتمبر، فان الولاياتالمتحدةالأمريكية لن تتخلى عن أهالي دارفور، و سنواصل مساعينا الدبلوماسية لإنهاء الأزمة هناك إلى الأبد. و يجب على الأمم الأخرى أن تستخدم نفوذها لجمع جميع الأطراف حول المائدة و ضمان أنها ستتفاوض بنية حسنة. و من جانبنا سنواصل الإصرار على أن يشمل السلام الدائم في دارفور المحاسبة على الجرائم التي اقترفت، بما فيها الإبادة الجماعية التي لا مكان لها في عالمنا) و من جوبا قال جون كيري (مسئول العلاقات الخارجية بالكونقرس و مرشح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية في مواجهة الرئيس بوش الابن)، لقد انتهينا من مسالة الجنوب و سوف نتفرغ الآن لحل مسالة دارفور. الولاياتالمتحدةالأمريكية طويلة النفس عندما تخطط لأمر استراتيجي. فهي تقوم بكثير من الأعمال ليجني ثمارها أحفادها. إن أمريكا تغرس شجرة الصنوبر اليوم ليتم قطعها بعد مائة و خمسين عاما. و قد قال الزعيم السوفيتي السابق نيكليتا سيرجستيف خروتشوف في كتابه (العرب و البترول) الذي صدر في أوائل الستينيات من القرن الماضي إن الولاياتالمتحدة تفكر منذ الآن في التخطيط لوجود عسكري دائم في الخليج، الأمر الذي نجحت فيه الولاياتالمتحدة بعد أكثر من أربعين عاما بعد ذلك التاريخ. و بالطبع كلنا يعلم كيف ساقت أمريكا العراق إلى حرب دامية مع جارته إيران، لتستدرجه بعدها لغزو الكويت، و تجبره على الخروج منها، ثم تضعه تحت حملة من التفتيش الدولي استمرت أكثر من عشرة أعوام لتجمع ما تبقى للعراق من أسلحة بعد أن ضربته بتحالف من 33 دولة، لينتهي الآمر أخيرا بدخول القوات الأمريكية إلى بغداد دون مقاومة. و المثال الأقوى وضوحا هو برنامج تفكيك الاتحاد السوفيتي، و الذي نجح فيه الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان نجاحا منقطع النظير ليهدم تماما الدولة الشيوعية النموذج. وضعت أمريكا عملية تفتيت السودان ضمن اجندتها، عمليا في عام 1973، مستهدية بفكر عرابها و فيلسوفها فوكوياما، الذي بنى فكره على أن إفريقيا لم تأخذ شكلها السياسي و الديمغرافي النهائي. بمعنى آخر فإن فوكوياما – كما أشرنا في مقال سابق - يرى إن الحدود السياسية في إفريقيا لم تتشكل بصورتها النهائية بعد. دعونا نرصد القليل من المناسبات التي تروج فيها أمريكا لنفسها في السودان كمهتمة بحقوق الإنسان و راعية لها من جانب، و كمخططة لتفتيت السودان من جانب آخر. لقد بثت شاشات العالم مقطع للرئيس الأسبق جورج بوش (الأب) عندما كان مديرا للمخابرات الأمريكية مقطعا يغرف فيه الطعام بنفسه ليوزعة على معسكر للنازحين في السودان جنوبالقضارف، في إشارة لا تخطئها العين إلى الدعاية السياسية. و في أوائل السبعينيات أيضا قبض النميري على خبير عسكري ألماني اسمه شتاينر، حيث كان يقوم بتدريب الثوار الجنوبيين على القتال و يمهد لهم الطرق التي تمدهم بالسلاح. و في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أخذت أمريكا أربعة ألف طفل جنوبي إلى أمريكا. رعتهم, علمتهم, غذتهم بفكرها،غسلت أدمغتهم و بهرتهم بالفارق الكبير بين الجنة التي يعيش فيها الأمريكان و العالم الخارجي و بين المستنقعات و البعوض و الذباب الذي كانوا يعيشون فيه بالجنوب. بين الطرق المعبدة و البنايات السوامق و المطاعم الراقية و بين الطرق الطينية الوحلة و بيوت القش و الطعام من جمع الثمار المتساقطة على الأرض. إنهم أربعة ألاف من الجنوبيين، لكن بصناعة و تربية يهودية خالصة. لقد أعطت أمريكا جنسيتها لهؤلاء الجنوبيين ليكونوا عينها و يدها في دولة جنوب السودان القادمة، و لا يخالجنى أدنى شك في أن القيادة السياسية القادمة للجنوب بما فيها الرئاسة هي من نصيب هؤلاء الشباب الأمريكي - جنوبيين. في خطوة جادة و مفصلية عين الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن القس دانفورث كمبعوث شخصي له للوصول لحل نهائي و إلزامي لمسالة الجنوب. توج مجهود دانفورث باتفاق ماشاكوس الإطاري، الذي مهد لنيفاشا التي وضعت حق تقرير المصير بندا أصيلا و قويا ضمن بنود اتفاقها. لنعطف على مسالة جانبية و لكن لها علاقة قوية بالسعي الغربي لتفتيت السودان. لقد رفعت الإنقاذ راية العداء لأمريكا كما هو معلوم للجميع. لكن القرار الصادم لأمريكا هو قرار الإنقاذ بإعطاء امتياز التنقيب عن البترول و الثروات المعدنية للصين و روسيا. كيف يتم ذلك و شركة شيفرون قد حفرت ستة و عشرين بئرا ناجحة في ابيي و المجلد. و مثلها فعلت شركة صن أويل في أبو جن بالجزيرة. لقد قامت أمريكا بالمسح عن طريق الأقمار الصناعية و حددت أماكن الحفر و نفذته بالفعل. لقد قالها بوش الابن في حديقة البيت الأبيض (إن بترول السودان جهد أمريكي خالص و لا يحق لغيرنا الاستفادة منه). اختارت أمريكا الطريق الأفضل و الأضمن. بدلا عن محاولة إقناع الإنقاذ بعودة أمريكا لغرب و جنوب السودان تحت ظل الإنقاذ، فإن الخبطة الناجحة هي الخروج الكامل للأراضي الغنية نفسها، خروجا كاملا عن سلطة الإنقاذ. لقد نجحت أمريكا في الشق الأول، إذ تم فصل الجنوب فصلا كاملا عن السودان. و لن يكون هذا الفصل سياسيا فقط، بل سيكون فصلا دينيا و لغويا و عرقيا و ثقافيا. و كما صرح رياك مشار أثناء عمليات الاستفتاء، إن أمريكا سوف تبني جنوب السودان. قصدت من كل ذلك أن أقول و بكل تأكيد، إن مهمة أمريكا لم تنته بعد في السودان. فما، مقال الرئيس الأمريكي باراك اوباما الذي خص به جريدة الشرق الأوسط و الذي أخذت مقتطفات منه أوردتها في مستهل هذا المقال، إلاّ الدليل القوي على ذلك. لقد قالها أوباما بوضوح، إن أمريكا لن تتخلى عن دارفور و لن تترك النازحين لمصير اسود، بل انه شدد على محاسبة من تسببوا في جرائم حرب و إبادة جماعية في دارفور. و لا ينطبق هذا الكلام إلاّ على شخص واحد هو رأس الإنقاذ الرئيس عمر البشير. إن كل الذين تسببوا في فصل الجنوب و كل الذين باركوا ذلك الانفصال و صفقوا له من وزراء و مستشارين و مشريين أو منتفعين، كانوا من المكابرين الرافضين للرأي الآخر. لم يستمعوا لغيرهم و لم يتيحوا لهم الفرصة على الأقل لتوصيل وجهة نظرهم للناس، على الرغم من وجود أكثر من رأي و أكثر من حل مقبول قادر على أن يفضي للسودان الواحد. عقدين من الزمان و أهل الإنقاذ هم فقط الذين يعرفون السياسة، و صحفيوها هم وحدهم القادرون على التحليل و التفسير للإحداث. نطالعهم كل يوم على الشاشات البلورية و الصحف المتشابهة كتشابه أفكارهم، يرددون كالببغاوات حديثا ممجوجا مجافيا للعقل مغالطاَ للمنطق و بعيدا عن أخلاق و ثقافة المجتمع السوداني. لقد ذهب الجنوب، و نأمل أن يضع انفصال الجنوب حداً للمكابرة و العناد. و نأمل أن يشكل انفصال الجنوب صدمة قوية تفيق أهل الإنقاذ من غفلتهم. و نتمني أن يستفيدوا من هذا الدرس القاسي الذي كلف السودان ثمنا لم ينفقه على خروج الأتراك و الانجليز من السودان. خطابات الرئيس البشير في القضارف و في نيالا و في الحلفايا هي خطابات الخط السياسي الذي ذهب بالجنوب، و لا تبشر إلا بالمزيد من التشظي. و إذا كان البشير مصراً على إن السودان أصبح عربياً خالصاً مثل أهل قحطان،أو أصبح كله مسلما كما الحجاز، فإنه بلا شك إما واهماً، آو أعمته السلطة عن رؤية أبناء وطنه، أو أنه ينفذ في برنامج آخر ليس لسودان المليون ميل مربع علاقة به. يا سيدي الرئيس، مهمة المجتمع الدولي لم تصل إلى نهايتها في السودان بعد. لقد وضع المجتمع الدولي (أمريكا)، جنوب السودان تحت إبطه، و يسعى الآن لوضع دارفور تحت الإبط الثاني. و لن تعدم أمريكا حيلة لخلق يد ثالثة و لو صناعية لتضع الشرق تحت إبطها. كيف لا يمكن تصور ذلك و جريدة حزبكم المحلية في الشرق و أسمها (برؤوت) في عددها الصادر يوم 11 يناير 2011، كتبت علناً جهاراً نهاراً و في صفحتها الأولى إن الشرق على أبواب الانفصال. أقول لك سيدي الرئيس كما قال مواطن عادي من الشارع اصطادته كاميرا البرنامج التليفزيوني (عدد خاص)، الجفلن خلهن، أقرع الواقفات. هذه استشارة كبيرة و قيمة لن تجدها عند مستشاريك الذين يعج بهم القصر الجمهوري. لقد ذهب الجنوب و نأمل أن تستفيد من هذه التجربة في الحفاظ على وحدة ما تبقى من السودان. م. عبدالله محمد أحمد الدمام ABDALLA F-ALMULA [[email protected]]