اين الرغيف و اللبن وأين تأمين السكن وأين من يوفر االدواء للفقير دونما ثمن ؟ حين تصبح الأولوية للصِّراعات الاجتماعية - الطبقية وحين يُصبح رغيف الخُبز حلماً لكل مواطن ، و حين يصبح الشعير أحد أولويات الشعوب لا تعود الشجاعة مُجرّد صِفة أخلاقية مطلوبة، بل تصبح مسألة بقاء أو لا بقاء، وانتفاضة تونس، المؤشر الأول إلى هذه الحقيقة في سعيها إلى إرساء ديناميكية جديدة تكون قادرة على تغيير المناخ السياسي في المنطقة بسبب معاناة المواطن لا بسبب تواطوء بعض دول المنطقة مع إسرائيل و لا بسبب رفض دول المنطقة للنووي الإيراني ولا حتى بسبب قضايا حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي كل هذه القضايا أصبحت ترف سياسي لا تعني المواطن في شئ ليس لأن المواطن أصبح لا يتفاعل مع محيطه الخارجي و إنما صعدت إلى أجندته أولويات البقاء و العيش الكريم أولويات الخبز و الماء و الشعير. في أعقاب يوم مثير تسارعت فيه الأحداث على الساحة التونسية، يُرسل رسالة واضحة للحكَّام العرب، بأن الشارع العربي قد يكون في غَفْوة، ولكنه ليس في غَفلة في هذا اليوم تبخرت الدكتاتورية في سويعات، و أسدل الستارعلى إمبراطورية زين العابدين بن علي لتصبح خبراً سئياً في كتب التاريخ بعد أن كانت واقعاً مريرا يتجرعه كل تونسي على مضض. نجحت ثورة سيدي بوزيد ( ثورة الغلابة و المساكين ) في هز عرش إمبراطورية بن علي في التحرر من الخوف وكسر كل القيود بعد أن كانت تونس تسوغ في وسائل الإعلام المحلية والعالمية وفي المحافل السياسية بكونها نموذجا في القبضة الحديدية ، أصبحت اليوم تعتبر المثال الأكثر إشراقا للثورات السلمية في العالم العربي، ونموذجا يفتخر به كل أحرار العالم . الذي أضفى ميزة خاصة على الانتفاضة الشعبية التونسية أنها كانت سلمية الطابع دستورية التمشي. عفوية لم تلجاء إلى العنف و لا إلى تصفية الحسابات و الكيل بمكياليين ولا تلك الشعارات التي قد تكون خصماً من الرصيد الأمني و الإستقرار السياسي في البلد. ولدت تلك الثورة من رحم الشارع بصورة عفوية وتلقائية مما جعل نجاحها مضمون مائة بالمائة و تأثيرها تعدى الحدود التونسية و إمتد إلى مدن عربية بدأت فيها رياح التغيير تلوح في الأفق. رياح التحوّل الديمقراطي التي هبَّت على العالم، لم تفلح في زحزحة حاكِم عربي واحد عن احتِكار السلطة، رغم أن الشعوب العربية أصابها الملل و الكلل من عدم تداوُل السلطة والافتقار إلى مقوِّمات الديمقراطية، بدْءا من المواطنة ومرورا بالقُدرة على المشاركة السياسية المفتوحة وانتهاءً بالانتخابات. إنتفاضة الخبز و الماء و الشعير التي أشعلها أهل تونس بكرامة فاجأت الجميع في توقيتِها وشكلِها وحجمِها، قرَعت أجْراس اليقظة ، مُبشّرة بأن فجراً جديداً ربّما ينبثِق مجدّداً لكل الشرق الأوسط العربي – الإسلامي، إنطلاقاً من الشّرارة التونسية للمطالبة بالنضال الاجتماعي والسياسي من أجل الحصول على الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية والإنسانية للشعوب. ثورة سيدي بوزيد التي غيرت الملامح التونسية و مرشحة لتغيير الخارطة السياسية في المنطقة العربية كانت مفاجِئاة وِفق كل المعايير و المقاييس لأن الانطِباع الذي ساد في المشرق طيلة العقود الثلاثة الأخيرة، هو أن تونس كانت تنعم باستقرار سياسي يحرسه نظام بوليسي قوي يمارس السيطرة والهيْمنة بكل أشكالهما. جاءت تطورات وتداعيات الثورة الشعبية بصورة مختلفة تماما بفضل التغطية الإعلامية من قبل وسائل الإعلام الأكثر تأثيرا في الرأي العام التونسي بالخصوص قناة الجزيرة ، وبفضل المواقع الإلكترونية الأكثر إنتشاراُ في العالم مثل الفيسبوك و التيوتر. إعصار "ويكيلكس" مر بتونس أيضا، وترك آثارا شبيهة بما فعله في معظم دول العالم، وبالأخص في المنطقة العربية. الجهات الرسمية تعاملت بهدوء مع ما تم تداوله من برقيات ونصوص، حيث أكد وزير الخارجية التونسي كمال مرجان الذي تصفه بعض الدوائر بأنه ( صناعة أمريكية) أن العلاقات التونسيةالأمريكية "جيدة وعادية"، ولم تتأثر بإعصار ويكيلكس ، ولكن تسريبات ويكيلكس التي أكدت هيمنة عائلة الرئيس التونسي المخلوع على عصب الإقتصاد ومفاصل السياسة ساعدت في تحريك المياه الراكضة التي توقفت عن الإنسياب لمدة 23 عشرين عاماً. ويبقى السؤال هل بدأت الإحتجاجات من أجل العيش و البقاء تحُل مكان النزاعات الأديولوجية كأولوية في البلدان العربية؟ Taha Hasan [[email protected]]