لقد ظلت فكرة "المهدي المنتظر" منذ العصور الأولى للإسلام تمثل عنصر أمل وإنتظار لجمهور المسلمين لإصلاح الأمور عند بلوغها حد فسادها. ولئن تمظهرت الفكرة عند المسلمين الشيعة في شخص بعينه عاش في عالم الشهود ثم صارغيبا ينتظهر أن يتمثل مشهودا مرة أخرى بعودة " الأمام الغائب"، المنقذ والمخلص. فقد تمظهرت عند المسلمين "السنة" في شخص إمام مشهود يعيش بين الناس ثم يرتقي حتى يصير مؤهلا لإستقبال إشارات من يكون مجددا لأمر الدين عند الحاجة. كذلك ما كان لمهدية "المنتظر" في مرحلة الإنتقال إلى فعل وحركة، ثمة مناص من أن تتشكل واقعا إلا وفقا لما كان عليه المجتمع الذي ظهر فيه في سلم التطور الحياتي، ومن ثمّ ما يترتب على ذلك من نتائج، من غير إهمال بالطبع إلى ما يبذله ذلك المجدد من جهد للتغيير ودرجة ومقدار ما يلقاه من إستجابة من النفوس والعقول والأفعال. كان محمد أحمد بن عبدالله، الذي أعلن مهديته في السودان، صاحب ذهن صاف ورؤية عقلية قوية بإعتراف زملائه من الفقهاء وكذلك من أعدائه. وتميز وسط أسرته بالذكاء الشديد فأرسل لتلقي العلم، وعندما بلغ الثانية والعشرين من عمره كان في رتبة "شيخ" له سمعة عظيمة في الطهارة ونظافة اليد وانتشرت مواعظه ذات التأثير الوجداني والعقلي المتضمنة نقدا لأوضاع وسياسات وإدارات وأخلاق الحكام المصريين الأتراك في السودان، داعيا لتغيير تلك الأوضاع بالقوة، مبشرا بأن ذلك سيكون بظهور "المهدي". وقد كانت له قوة "كارزمية"، وجاذبية شخصية وفرت رصيدا كبيرا لمحمد أحمد "الصوفي" ورصيدا أكبر لمحمد أحمد "المهدي"، فاجتمع عند أتباعه خضوع المريد لشيخه الصوفي بإلتزام قسم البيعة والطاعة لمهديته التي تجعل النكوص عنها بمثابة الخروج من ثياب المسلم. فكان إجتماع الوجد والحب والثقة الكاملة والطاعة المطلقة لرجل مثابر حمل نفسه على الجادة. فهو صوفي مؤهل للقيادة السياسية واصل إلى أهدافه بالفكر السياسي والجهاد المسلح. ولا شك أن محمد أحمد المهدي من خلال إطلاعه على أصول فكرة "المهدي المنتظر"؛ كان حريصا على أن تستوعب دعوته، المؤسسة على فكرة "المهدي السني" المصلح، أيضا ركائز وحجية "المهدي الشيعي". فكان حريصا على إضافة لقب "السيد" لإسم والده فكانت رسائله تبدأ ب "من عبدالله الإمام محمد أحمد إبن السيد عبدالله ". والمعلوم أن لقب "السيد" عند الشيعة مقصورعلى أولئك الأئمة الذين ينتهى نسبهم إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص). وقد كان يورد في رده على نقض علماء الحكومة في الخرطوم لمهديته، بأنه "حسني" النسب من جهة والده و"حسيني" النسب من جهة والدته؛ أي أنه يرجع بنسبه إلى البيت النبوي الكريم. ولكن محمد أحمد المهدي إعتبر حجة النسب إلى البيت النبوي الشريف مكملا لصفات من ستأتيه المهدية بالأمر الإلهي في "حضرة نبوية" إذ ان حجيته الأساسية على مهديته إنما هي غيبية باطنية. فهو يقول بأن علم المهدية كعلم الساعة لم يوقت ولم يعين."فظهور المهدي غير معلوم لأهل الظاهر". وبهذا إنتزع محمد أحمد المهدي المبادرة من كل أهل الظاهر، وغدا الأمر باطنا. فأغلق بذلك باب التحاجج مع العلماء وإتجه لعامة الناس يحي فيهم إرادة التغيير. ولئن كانت مهدية البعض مثل المهدي الفاطمي والسنوسي في بلاد المغرب وشمال أفريقيا قد جاءت بحجة أنهم أهل لها بحكم "ولايتهم" الممتدة، وبإعتبارها إستكمالا لما هم فيه سلفا من المكانة الدينية الموهوبة، ومن ثم فالإستجابة لها حق لهؤلاء على جمهور الناس، فإن أمر محمد أحمد بن عبدالله في السودان كانت بناء للشخصية لتتطابق شكلا مع الشروط المتتطلبة للمهدية. فلم تكن "مهديته" هي حجته المطلقة على أولئك الذين آمنوا به واتبعوه أوعلى أولئك الذين أنكروه وعادوه. وإنما كانت حجته هي أن الأوضاع قد فسدت وأن إصلاحها هو في الرجوع إلى أحكام الدين. ولئن ورد في تاريخ محمد أحمد المهدي ما يشير إلى إستخدام عنصر "المهدوية" حجة أو دافعا، فإن ذلك مربوط بالظرف والسياق الذي وردت فيه، إضافة إلى أن أن "المهدوية" نفسها لم تعد ملك يد محمد أحمد المهدي يتحكم في مسارها، بعد أن صارت ملكا عاما مشاعا تكاد ان تكون مستقلة عن صاحبها الأول وجزءا من حراك سياسي وثقافي وإجتماعي ينسج الكل أعوانا و أعداء على منواله. لقد إعتمد محمد أحمد المهدي كل مدخل إلى عقول ووجدان كافة الناس في سبيل جمعهم وتوحيدهم حول مهديته لهزيمة الحكم القائم الذي كان قد فسد سياسيا وإداريا وأخلاقيا. فقد خاطب القيادات الصوفية خاصة السمانية، بما كان معتقدا لديهم من ظهور المهدي الذي يملاء الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا. وقد إعتمد النجاح الأخاذ لحركة محمد احمد المهدي في السودان على تشابك عاملي الإستياء الديني من جهة والسخط الواسع بين السودانيين أفرادا وجماعات قبلية ودينية صارت به مهيأة لمناصرة المهدي الذي نجح بقدراته القيادية أن يكون البؤرة والوسيلة للتعبير عن ذلك السخط. فقد كان محمد أحمد المهدي مستوعبا بقدراته الذهنية والعلمية وإطلاعه على تاريخ وإتجاهات وتطور الفكر والثقافة في العالم الإسلامي توجهات وجماعات مكانا وزمانا، بقدر ربما تفوق به بدرجة ما على المستوى المتاح من المعرفة المتداولة في السودان في القرن التاسع عشر. ويبدو أنه كان قادرا على تمييز التفاصيل بين ما هو أصل في تلك الإتجاهات وبين ما هو مرتبط بظرفها زمانا ومكانا. فقد كان منفتحا على مجمل تلك الإتجاهات فكرا وفلسفة ومعتقدات صوفية ومدارس فقهية وربما فكرا سياسيا. وهو كان آخذا بمجمل ما إستوعب منها وكانت ذات فائدة لدعوته وحركته. فمحمد أحمد المهدي كان ككل قائد يحس بنوع من الإلهام الذي هو غيبي في منتهاه. ثمّ لم يكن منكورا عليه أن يؤطر ذلك الإلهام بفكرة المهدوية تسهيلا وإختصارا لإستيعاب دعوته الثورية لدى العامة ومن ثم تحريكهم. وليس في ذلك نوع من الحيلة فمحمد أحمد المهدي نفسه كان أول من شمله ذلك الإختصار والتسهيل من داخل نفسه التي بين جنبيه. ولكن كان المحك الفعلي هو أنه لم يخرج بإلهامه ذلك، مهما كانت التسمية والحجة الغيبية، من حدود ما هو دين غقيدة وفكرا وعملا. لقد كانت الرؤيا المركزية لدى محمد أحمد المهدي هي فكرة "المهدي المنتظر". وهي لم تنبثق من رأسه إنبثاقا أسطوريا، بل سبقتها فترة إعداد وتكوين في مسلكه العملي، وفترة تلمس فلسفي في أروقة التراث ودروب الحياة. والدعوة التي جاء بها محمد أحمد المهدي إعتمدت على الجانب الزاهد في التراث الصوفي؛ فحولته لوقود وإداة ثورة جسدت به فكرة المهدية عملا وجهادا، إذ أن ذلك الزهد كان هو كل ما يملك في يده سلاحا أو عطاء. ومن ثم جمع طاقة البلاد التي كانت حبلى بالتغيير حول فكرة المهدي المنتظر، والتي وجدت في شخصية محمد أحمد تجسيدها البشري. فدعا للخروج من عالم "التركية" المليء بالمظالم، ولكنه ليس ذلك الخروج الصوفي السلبي وإنما إلى عالم فاضل سياتي ويتحقق بالعمل الإيجابي الحركي. فحوّل ما كان معروفا وسائدا ممارسة بين أهل السودان من هروب من الحكم التركي خوفا وفزعا إلى معنى الفرارمنه ومفارقته من أجل تغيير الواقع. فكانت دعوته لأتباعه للهجرة وربما كان المهدي واثقا من أن قوة الإيمان بدعوته وما حملت من مباديء وأفكار ستغير وتوحد على جادة واحدة سلوك أولئك الذين إستجابوا لندائه على الرغم من تفاوت الدوافع والمستفزات والأهداف. ولكن الواقع حكى غير ذلك؛ فالركيزة الأساسية لدعوته المتمثلة في الزهد،إصطدمت بالواقع منذ أول دخول في التجربة العملية ثم تواصل بها الحال إلى يوم وفاة محمد أحمد المهدي. إذ أنها ربما كانت شعارا ومثلا يصبوا إليه الناس في سعيهم للخروج من ظلام الواقع، أكثر مما كانت برنامجا عمليا. والأفكار التي قدمها محمد أحمد المهدي لم تكن أفكارا ذات صلاحية مطلقة وقدرة على العطاء في كل زمان ومكان. ولكنها أفكار مرتبطة بواقع تاريخي معين. فرؤيتها خارج إطار ذلك الواقع يلق عليها عبئا، أو يجنح بنا لرفضها رفضا مطلقا. فهي قد عبرت عن واقع إجتماعي معين في مرحلة تاريخية معينة، ثم أسهمت بعد ذلك في حركة التاريخ بدرجة متفاوتة بحسب قوتها وضعفها. وبقدر ما يخطيء أولئك الذين يحاكمون تجربة الحركة المهدية بتحليل يكاد أن يكون تجريديا حينما يستقطعونها من الظرف التاريخي الإجتماعي والسياسي، فكذلك يخطيء أولئك الذين يتخذون المهدية أنموذجا مثاليا صالحا لكل زمان ومكان، فيستنفدون جهدهم ويرهقون شعوبهم بمحاولتهم إعادة إنتاج التاريخ في بيئة تبدلت أوضاعها بحكم طبيعة الحياة والأشياء. ولا زال تحدي التفريق بين ما هو شعار تصبوا به حركات الإصلاح أو التغيير، دينية كانت أو علمانية، في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة للخروج من واقع قائم، وبين وضع برامج عملية وخطة تنفيذ لتلك الشعارات يمكن قياس مدى تفعيلها وتحركها نوعيا على الأقل، قبل الإقلاع بجماهير المؤيدين المتحمسين المعتقدين في القدرات الخارقة للقادة الذين ربما سحروا أولئك الجماهير بكارزمية ليس بالضرورة أن تورث قدرات عملية لمواجهة مشاكل الواقع.