بسم الله الرحمن الرحيم نامت نواطير مصر عن ثعالبها و قد بشمن، و ما تفنى العناقيد (أبو الطيب المتنبي: قبل ألف عام) طغت زوج بن علي، مصففة الشعر السابقة، و بغت و أثرت على حساب الشعب التونسي، وكان أحد إخوانها يقيم حفلات خرافية بقصوره يجلب لها الآيسكريم بالطائرة من روما، و حوّلت أسرتها ثروات البلاد لمصلحتها الخاصة، أصولاً و شركات و عقارات بأوروبا و الشرق الأوسط، و حسابات مكتنزة بالمصارف السويسريّة. و على نفس المنوال سارت عائلة حسني مبارك الذين قُدرت ثرواتهم بأربعين مليار دولار، نصيب جمال منها 17 مليار و علاء 8 مليار و أمهما 6 مليار و الباقي بحسابات أبيهم الذي علمهم السحر؛ و كذا الحال بالنسبة لمتنفذي الحزب الوطني. و لكن إرادة الحق عز و جل، و عيون ويكيليكس و الثورة المعلوماتية الساهرة، أيقظت نواطير تونس الخضراء و مصر المحروسة، فانتفضت و أزاحت الطغيان خلال بضع أيام، و تهاوت عروش الفراعين كأنها أعجاز نخل خاوية، و سمقت إرادة الشعبين إلى عنان السماء، و سجّل التاريخ صفحات جديدة ناصعة لأهل تونس و مصر. و الكل يدرك أن لعبة الدومينو التي كان رأسها في تونس، ستغشى السودان عما قريب، في طريقها عبر المنطقة كلها، على أجساد الأنظمة الجبروتية التي بطشت بشعوبها و نهبت ثرواتها و أورثتها الفقر و المرض و البنيات المؤسسية المهترئة و الفتن و الإحن و التمزق الإثني و الجهوي. و الكل يعلم أن السودان بالذات يحظى بقيمة مضافة و هي ذخيرته الحيّة بالذاكرة القريبة من ثورة و انتفاضة تشبهان ما حدث في مصر و تونس: أكتوبر 1964 و أبريل 1985؛ و طالما أن الوجدان السوداني يختزن مثل ذلك الإرث الثوري فلا بدّ أن إعادة الاصطفاف مجدداً واشعال الثورة، على ضوء ما حدث في تونس و مصر، من السهولة بمكان، و حقاً: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر و لا بد للّيل أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر و لكن، ثمة تحفظات و تساؤلات يتناقلها المثقفون السودانيون فيما بينهم، هي كذلك أجابت عليها الثورتان التونسية و المصرية:- 1. من الذي يقود الحراك؟ أحزابنا (متوالية) أو مدجّنة بالرشاوى و مقعدة بالكجار و الانقسامات، و قادتها طاعنون في السن (أكتوجيناريان) و متشبّثون بالزعامة كتشبّث حسني مبارك الذي بلغ عقده التاسع و كدس مال قارون بالمصارف الأوروبية؛ و زعيم أحد الأحزاب المعارضة الكبرى، على سبيل المثال، لديه ولدان من صلبه يعملان بجهاز أمن الدولة. • أجابت الثورة التونسية، و من بعدها المصرية، بأن الشارع كفيل باستيلاد قيادات جديدة تنبض بالحيوية و الشباب و الوطنية، و تملك ناصية التكنولوجيا، و تتمتع بقدر وافر من المقدرة على الحركة و الإفلات من براثن الأجهزة القمعية، و بحظوة وقبول عند الجماهير و معايشة لهموم الناس، لأنهم من غمار البشر و ليسوا من النوع الذي ولد و في فمه معلقة من ذهب. و في الحقيقة، فإن الإجابة على هذا التساؤل نجدها كذلك في الإرث الذي تركته ثورة أكتوبر 1964 و انتفاضة أبريل 1985: كنا نتحدث عن الطبقة العاملة و حزبها و نظريتها و نضالها المتواصل، و لكن أفرزت الانتفاضة مثلاً قوى جديدة لم تكن في الحسبان، مثل نقابة موظفي البنوك و الخطوط الجوية و المحامين و أساتذة الجامعات واتحادات اطلاب، أي البرجوازية الصغيرة التي كنا نزدريها باعتبارها ترلّة ملحقة بالطبقة العاملة على أحسن الفروض، أو رأس جسر للبرجوازية و قوى الرجعية في الغالب الأعم. 2. ماذا نفعل لسرقة الثورات؟ فلقد رأينا ثورة أكتوبر ترتد إلى برلمان لا يمثّل القوى الشعبية التي اضطلعت بالثورة، برلمان عاد بالبلاد القهقرى، بدءاً بحل الحزب الشيوعي و انتهاءاً بلجنة الدستور التي طرحت مسودة لدستور إسلامي ثيوقراطي، و تلك نافذة جاء منها الأصوليون الذين تولّوا الأمر في النهاية و دفعوا بالجنوب نحو الانفصال. و رأينا انتفاضة أبريل 1985 تتعرض لاختطاف مماثل و هي ما تزال شرنقة، من خلال المجلس العسكري الذي كان يحتوي ثلة من المتعاطفين مع الأصوليين، و منهم رئيس المجلس نفسه (الذى أصبح فيما بعد الكاتالست اللازم للنظام الإخونجي الراهن)، مما أضاف لعملية التمهيد للتمكين الإسلاموي الذي جاء بعد الانتفاضة ببضع سنوات. و يضرب المراقبون مثلاً كذلك بالثورة الإيرانية التي كانت حركة شعبية تجمع كل ألوان الطيف السياسي ضد جبروت الشاهنشاه و من أجل العدالة الاجتماعية/ الاقتصادية، و لكنها سرعان ما سقطت في أيدي الملالي المتحالفين مع التنظيم الإسلامي الدولي، فاستمر البطش بالقوى الوطنية و الراديكالية و على رأسها حزب تودة الذي تمت إبادته من الوجود كليةً. و يخشى المراقبون من حزب النهضة في تونس و الأخوان المسلمين في مصر: ما الذي يمنعهم من تقمص الدور الذي لعبه إخوانهم في السودان بعد الانتفاضة، و هو البروز بإمكانيات مادية و إعلامية ضخمة، بدعم من الدول الرجعية بالمنطقة، و ربما إسرائيل نفسها و الولاياتالمتحدة التي لا تهمها الديمقراطية كما تدعى، و لكن يهمها أمن إسرائيل بالدرجة الأولى و مصالحها بالشرق الأوسط، وما تنفك من أجل ذلك تتحالف مع الشيطان نفسه. • و لقد جاء الرد على ذلك من توازن القوى الموجود بالشارع التونسي و المصري المحرك للانتفاضة، فقد ظهر أن الإخوان ليسوا بالحجم و الزخم الذي كان يتخيّله الناس، و لم يظهروا في الثورة المصرية إلا بعد اندلاعها بعدة أيام، و ما زالوا يقدمون رجلاً و يؤخرون أخرى من هول الفزع الذي غرسته سنين القهر في نفوسهم؛ وهكذا فإن الإخوان في البلدين المذكورين قد تم تحجيمهم، بل أتاحت لهم الظروف أن يظهروا بحقيقتهم الأصلية، وهي صفر علي الشمال، مجرد بعبع استخدمته الآنظمة الفرعونية الطغيانية لإخافة الغرب وكل من يهمهم الأمر. ومن الواضح إن القوى المسيطرة على الشارع في كلا الثورتين قوى مدنية ديمقراطية علمانية، البند الأول في أجندتها هو تأسيس دولة مدنية تعددية تضمن حقوق الإنسان و تحقق التحوّل الاجتماعي و التقدم الاقتصادي، بدون إقصاء لأي فرد أو مجموعة بسبب العرق أو الدين أو الانتماء السياسي. 3. ما هو البديل؟ لقد جربنا الآخرين من قبل و لم ينجحوا في التصدّي لقضايا التنمية الراسخة المستدامة و العدالة الاجتماعية، و لكنهم جاءوا بحمولات باهظة من ذوي القربى و المحاسيب الذين أرادوا أن يمكنّوهم في الأرض، على قاعدة (خياركم خيركم لأهله)، فشاعت المحسوبية و الفساد المالي و الإداري في زمنهم، مما أدخل البلاد في دوامة لا تنتهي: انتفاضة ثم نظام حزبي فاسد ثم انقلاب عسكري أكثر فساداً. • و رغم أن الوقت مبكر، نستطيع أن نتبيّن الإجابة على هذا التساؤل فيما أفرزته الثورتان التونسية و المصرية، فالأولويات التي يتمسك بها قادة الشارع في الحالتين تشير إلى أنهم مدركون لهذه العواقب، إذ أن كليهما يصّران على كتابة الدستور الجديد أولاً و قبل كل شيء، مستفيدين من الزخم و الروح المعنوية العالية المصاحبة للانتفاضة في عنفوانها؛ و الدستور هو الضمانة الوحيدة لتوثيق و ترسيخ الشعارات التي رفعها الشعب أيام الانتفاضة: الحريات، حقوق الإنسان، الشفافية، التبادل السلمي للسلطة، العمل النقابي، العمل الحزبي، التوزيع العادل للثورة و السلطة، حرية المرأة... الخ. و هذا ما افتقده السودان حتى هذه اللحظة، برغم ثورتيه في أكتوبر 1964 و أبريل 1985. • من ناحية أخرى، لماذا نطأطئ رؤوسنا لنظام ظلّ يسومنا خسفاً لعقدين من الزمان لأن البديل غير معروف و غير مضمون؟ هل يكسب النظام شرعية بمجرد التقادم، أم أن ذلك في حد ذاته مدعاة للتغيير و تجديد الدماء، طالما أن حواء غير عقيم! هذه حجة تخذيلية تهدف لإضعاف الثقة في النفس بالنسبة للجماهير، و لكن و بكل بساطة، عندما تندلق الجماهير في الشارع، حينما تحين اللحظة المناسبة (الأزمة الثورية)، فإن الشارع كما رأينا في تونس و مصر كفيل بفرز الكوادر القيادية المناسبة و الجديرة بتحمل المسؤولية في المنحنى التاريخي المعيّن بكفاءة وتجرد ونكران ذات وبطولات نادرة المثال. • على كل حال، عندما تهب الرياح التونسية و المصرية على الخرطوم، فإنها ستجد أجواءًا مهيأة و تربةً خصبة و تجارب ثرة و عميقة. و في حقيقة الأمر فإن الحكومات تتعاقب في كل البلدان الديمقراطية بسلاسة و يسر و دون ضوضاء و صخب و إراقة دماء، و لكن شاء قدرنا العاثر في أفريقيا أن نغير الحكومات إما عن طريق الانقلابات العسكرية - البيضاء و الحمراء- أو الانتفاضات الشعبية التي قد تكون باهظة الكلفة في بعض الأحيان من حيث الدماء التي تسيل. • و لكنا هذه المرة نقترب من الانتفاضة القادمة و نحن مزودون بدروس طازجة من شمال القارة، و أهمها الدستور الذي يجب أن يكون البند رقم واحد في أجندتنا، قبل أن ينفض السامر. السلام. Magdi Elgzouli [[email protected]]