[email protected] ربما ومن عجائب الزمان الذي أضحى فيه الموجب سالباًً أننا نعيش في زمن أضحى فيه (ترتيب) الأفكار أو الأشياء أو حاجيات الإنسان اليومية من الشواذ وما يشار إليه بالبنان ويلاقي استحسان الجميع.. فالترتيب ليس من مظاهر الجمال فحسب؛ بل الكون نفسه خلقت نواميسه مرتبة وبدقة متناهية، فالترتيب يعني الثابت أو الثبات على هيئة ونمط واحد ويقال: رَتَبَ الشيء ( بفتح التاء) أي رتّبه وجعله ثابتاً لا يتحرك. ويقال: رَتَبَ رُتُوبَ الكَعْبِ أَي انتصب انتصابه؛ ورتّبه ترتيباً: أي أَثْبَتَه. والتُّرْتَبُ ( بتشديد التاء المضمومة وتسكين الراء) هو العبد يتوارثه ثلاثة أشخاص أو ابناء، وأطلق عليه ذلك لثباته في الرق، وإقامته فيه. وعندما يتعهد أفراد الأسرة الواحدة على إخراج جُعْل ونصيب ثابت (مرتب) للمعيشة نقول في دارجيتنا السودانية ( الاتفاق عيشة).. ويقال أمر راتب أَي ثابت.. ونطلق على الإمام المحدد والمعين والمتفق عليه للصلاة بالناس في المسجد ( الإمام الراتب). والُّرتبة هي منزلة وترتيب عند العسكر، ومن شاكلتها: (نقيب، رائد، مقدم...إلخ).. أمّا المرتبة فهي المنزلة الرفيعة عند الملوك ونحوها. ونقول عندنا للأجر المدفوع آخر كل شهر نظير عمل محدد ( راتب)، وسُمي بذلك لثبات زمانه من كل شهر.. فهو ثابت عندنا (في السودان) كثبات معاناتنا وقسوة عيشنا وموجة غلاء الأسعار. ومن أطرف ما قرأت وما له علاقة بكلمة ( راتب) ما ورد على صدر صفحات الزميلة ( التيّار) في زاويتها المُسماة ب (شارع الصحافة) حيث سألت الزاوية وزير إحدى الوزارات السيادية عن راتب الوزير في حكومة ال ( 77 ) وزيراً، فرد الوزير أنّ الراتب قبل التخفيضات كان يبلغ نحو أربعة عشر ألف وثمانمائة جنيه ( أي أربعة عشر مليوناً وثمانمائة ألف جنيه بالقديم) فقط ويشمل ذلك نحو خمسة آلاف جنيه عبارة عن بدل سكن.. سكن فقط ( خمسة ملايين جنيه).. هذا بالإضافة إلى أن بعض الوزراء من أصحاب السلطة غير المحدودة يتربعون على رأس مجالس شركات القطاع الخاص والبنوك ( وفي كل خير ورهان مقبوضة).. ولاتوجد أدنى علاقة ما بين راتب الوزير صاحب (الملايين المتلتلة) والمعلم والطبيب صاحبي ( الملاليم المشلهتة) مع أنّ المعلم والوزير كلاهما موظف دولة لكن فقط مع فارق سيناريو أن يفقر هذا ويغنى ذاك.. أين ما نادى به نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه قبل سنوات مضت بمساواة فارق الأجور؟ وهل ترشيد الاستهلاك وتقليل الإنفاق الحكومي ودمج بعض الوزارات أو إلغاء بعض الهيئات كفيل وحده بإزالة فارق الملايين. وبنظرة مستقصية لتاريخنا منذ الاستقلال وحتى عام 1971م نلحظ أن مرتب وكلاء الوزارات كان يقارب مرتبات أعضاء مجلس السيادة وأعضاء مجلس قيادة الثورة ويزيد على مرتبات الوزراء، حيث كانت مرتبات رئيس وأعضاء مجلس السيادة حتى مايو 1969م ورئيس وأعضاء مجلس قيادة ثورة مايو عبارة عن (200) مائتي جنيه شهرياً، وكانت مرتبات وكلاء الوزارات تساوي (185) مائة وخمسة وثمانين جنيها شهرياً! بينما كانت مرتبات الوزراء (180) مائة وثمانين جنيهاً شهرياً، وكانت تبلغ 90% من مرتب رأس الدولة الشهري. لكن اليوم مرتب وكلاء الوزارات وقيادات الخدمة المدنية أقل من مليون جنيه في الشهر بل إنّ معظم قيادات الخدمة العامة مرتباتهم في حدود سبعمائة ألف جنيه في الشهر وهو ما يعادل مرتبات خفراء الهيئات والمؤسسات العامة بل وفي حدود مرتبات خدم منازل المترفين. في عام 1986م تم نشر راتب رئيس الوزراء والوزراء على صفحات الصحف السيارة، فلماذا لا ينشر إذاً وزير المالية الآن مرتب الوزراء و وزراء الدولة والولاة والمعتمدين وشاغلي المناصب السيادية الأخرى ليعرف الشعب - كحق أصيل- مخصصاتهم وبراءة ذمتهم قبل الاستوزار. وتحفظ أضابير صفحات التاريخ أسماء بعض الوزراء والقياديين الذين تنازلوا عن أجورهم أمثال السيّد الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق حيث لم يتقاضَ مليماً واحداً من الخزينة العامة، حتى أنه كان يسافر على نفقته الخاصة في كل مهامه الرسمية!! وكذلك الأستاذ محمد توفيق وزير الإعلام والخارجية الأسبق والذي طلب أن يكون أجره عن عمله كوزير مبلغ (واحد) جنيه فقط، وتنازل عن المرتب للخزينة العامة، وهناك أيضاً القامة السامقة الأستاذ بشير محمد سعيد المستشار الصحفي لرئيس المجلس العسكري الانتقالي والذي رفض أن يتقاضى أي أجر مقابل منصبه واعتبر ما يقوم به خدمة وطنية. بعد كل هذا أظن أنّ من حقنا أن نمد أيدينا قائلين: (شيء لله يا وزراء عفواً أقصد يا محسنين).