- ربما بدت الأزمة السياسية الجارية اليوم في إيران على سطح التناول الإعلامي وعلى مستوى القراءة الخارجية لمجريات الأحداث كصراع سياسي بحت. ولكن الواقع أنها ترجع بجذورها إلى إختلاف بين مدرستين او إتجاهين في الفقه السياسي في إيران ما بعد الثورة الإسلامية، كان يمكن أن يظل جدلا فكريا باردا لولا الظرف الإيجابي الفاعل الذي صار إليه الفكر بعامل الواقع الحركي للثورة الإيرانية الإسلامية بمحاولتها أو قل جهدها لتقديم إجابات لتحديات الواقع من خلال منظورها المتكىء على التراث الشيعي. - يرجع الجذر الفكري للخلاف السياسي القائم حاليا إلى الإختلاف حول مبدأ ومؤسسة ما صار يعرف ب "ولاية الفقيه" والتي كانت هي نفسها ثورة فكرية فقهية نوعية نجح بها الإمام الخميني في تحريك الحوذات العلمية في "قم" وغيرها للخروج من قوقعة الإسترخاء لعقيدة إنتظار " الإمام الغائب" إلى ساحة الفعل وقيادة الجمهورلإسقاط نظام الشاه. - فقد تمكن الإمام الخميني من خلال سلسلة محاضرات إمام طلاب وعلماء "قم"، صدرت لاحقا في كتاب بعنوان "الحكومة الإسلامية"، أن يستدير على عقيدة إنتظار الإمام الغائب، وذلك بإعتماده على حجة عملية مبسطة أتيح لها القبول بعامل ما كانت قد وصلت إليه الاوضاع السياسية والإجتماعية في تلك الفترة من حكم الشاه، ما كان معها للمؤسسة الدينية التقليدية من مهرب سوى تقديم حل للجمهور. فقد أسس الأمام الخميني دعوته على الإعتراف بعقيدة الأمام الغائب ولكن مع ضرورة توافقها مع حكم فرض إقٌامة الشريعة ومن ثم ضرورة أن تكون هنالك مرجعية فقهية زمنية تقيم شرائع الدين حتى ظهور الإمام الغائب في أوانه، الذي ستكتمل به إقامة الدين، بحسب العقيدة الشيعية. وتمثلت تلك المرجعية القائمة إنابة عن "الغائب "ا في " ولاية الفقيه" المشهود، والتي مثلها حينئذ الأمام الخميني بعلمه وفقهه وكارزميته وبعمامته السوداء بمرجعيتها السلالية المقدسة. - ولئن كان التخريج الفقهي العبقري لقاعدة " ولاية الفقيه" فتحا في الفقه السياسي الشيعي إلا أن طبيعة إستناده على القاعد الفقهية وليس على تلك العقدية البحتة، قد خرج بالأمر من شرنقة العقدي الغيبي غير القابل للنقاش إلى ساحة الفكري الفقهي العملي القابل للتحاجج والإجتهاد بحسب تطور وحاجيات الواقع الذي صنعه ذلك الإجتهاد الأول بعبقريته. فقد بدت وظهرت أراء مناوئة أو قل متقدمة على قاعدة مرجعية " ولاية الفقيه" منذ السنوات الأولى للثورة الإيرانية، ولكن لم يكتب لها البروز بسبب أبوة الأمام الخميني للثورة التي صنعها فكرا ودفعها سياسيا وقادها جماهيرا، ثم نظاما قائما بمساندات فقهية وفكرية صارت بحكم طبيعة الثورة معتقدا بحد ذاتها، مما جعل المناداة بغيرها من البدائل خروجا على ثوابت الثورة وركائزها إن لم يكن على العقيدة، يقتضي الأمر مواجهتها وحسمها بعنف كما تمثل ذلك في الأسلوب التي تعامل به حماة النظام الثوري مع بعض القادة السياسين الفكريين بل الدينيين من أبناء الثورة في سنواتها الأولى. - والصراع القائم اليوم في إيران بتمظهره السياسي حراكا فاعلا ومظهره الثوري إعلاميا، هو في الواقع بجذوره ومنطلقاته ومآلاته في المدى المستقيلي البعيد إنما هو فكري ربما أسس لفقه سياسي وإن طال به الإنتظار المتجاوز لأعمار البشر. فالخلاف الفكري السياسي اليوم إنما هو بين المتمسكين بولاية الفقيه، بمرجعيتها الملزمة للفعل السياسي والثقافي والإجتماعي مبتداء ونهاية، وبين أولئك الذين ينادون ب "ولاية الأمة"، ولا يرون ثمة تناقض مع مبدأ "ولاية الفقيه" من حيث المبداء وتحقيق المصلحة، طالما أن كل من الميدئين يهدفان للمصلحة بإقامة مباديء الشريعة وفقا لمقتضى الحال، وطالما أن "الولي الفقيه" هو شخص يتم إختياره في عالم الشهود وليس فرضا غيبيا كما الأمام الغائب. - كان ذلك هو السند الفكري والفقهي لفريق "الإصلاحيون" الذي يدعون لتطوير "ولاية الفقيه" إلى "ولاية الأمة" من خلال مؤسسات وإجراءات تتوافق وتتناسب مع متطلبات الواقع؛ ربما من خلال التمثيل النيابي بمرجعيته النهائية في التشريع المتوازن من خلال مؤسسة تنفيذية منتخبة بسلطة تفويض كما المجلس النيابي و بكوابح لعدم التجاوزمن أي من المؤسستين بمراقبة من تلك القانونية. - ولكن بالطبع يظل المراقب باحثا ومحللا لمرتكزات ومنطلقات وحجة كل من فريقي الحرس القديم لمبدأ " ولاية الفقيه" و"الإصلاحيون" من دعاة " ولاية الأمة". وتظل هنالك المصلحة السياسية بتقاطعاتها لكل من الفريقين قائمة ودافعة، وليس في ذلك ثمة سلبية أو تناقض مع المصلحة العليا، طالما تولد عنها ما يمكن أن ينفع الناس. وقد يكون ضمن الفريقين افرادا أو مجموعات تستخدم ذلك لمصلحة ذاتية هي إلى زوال مهما طال بها الزمن. فتلك هي إحدى آليات التدافع. - فقد إستندت الثورة الإسلامية في مبتداها على مبدأ " ولاية الفقيه" كشريعة ثورية في تسريع خطى التغيير داخليا وخارجيا بهدف تأسيس وإقامة واقع سياسي وثقافي وإجتماعي متميز ومنفرد بخصائصه. ولكن ربما صار ذلك المبدأ وتبلورمن خلال تفاعله بمؤسسته مع الواقع السياسي إلى ما يمكن أن يعتبر" فيتو" بالنظرة المبسطة للأمر. إذ طالما أن كان الواقع يصنعه أفراد بشر، فقد تجسد الأمر في مجموعة سياسية ثورية تستخدم ذلك المبدأ بمؤسسته للتحكم في تحديد توجهات الأمور، بدرجة ربما شكلت وأحالت الواقع السياسي والثقافي إلى كبسولة يصعب على الآخرين النفاذ إليها إلا بتلبس خصائصها، وإن رضوا بذلك فربما لا يتسع مسرح الفعل السياسي الحاكم للمزيد من اللاعبين. وربما إحتج المسيطرون على المسرح على الآخرين بأن الفرصة متاحة للتنافس من خلال الإنتخابات بحرية تأسيس كيان بفكر وتوجه سياسي مستقل. ولكن هؤلاء الآخيرون "الإصلاحيون" يعلمون أن " مؤسسة ولاية الفقيه" من خلال فيتوها بمرجعيتها العقدية بحججها المعقدة وبإجراءاتها بأذرعها مثل "مجلس حماية النظام" قابلة للتفعيل والإستخدام عند الضرورة مما يمكن أن يخل بعدالة وتساوي قواعد التنافس، كما أن لتلك المؤسسة حق التدخل فيما يصدر عن الجهاز النيابي والتنفيذي، إذا ما نجحوا في الدخول إليهما. ولئن كان الحرس القديم يرى في إجراءات مؤسسة " ولاية الفقيه" حماية للثورة فقد يرى فيها الإصلاحيون آلية للحد من فرص وحقوق المنافسين السياسين الآخرين. وربما إعتبر هؤلاء الآخرون تلك الآلية إحدى الأدوات المساعدة لما يعتبرونه تزويرا للإنتخابات. كما هي الحجة التي يرفعها الإصلاحيون اليوم حجة وشعارا في خروجهم إلى الشارع. - فالإصلاحيون يجدون في تبني مبدأ " ولاية الأمة" بخصائصها ومترتباتها ومؤسساتها مخرجا مما يعتبرونه مكبلا للثورة الإيرانية عن بلوغ أهدافها. أما فريق الحرس القديم، مع تجاوزنا لعنصر المصلحة والمردود السياسي، فهو ربما يرى في تطوير مبدأ " ولاية الفقيه" إلى "ولاية الأمة" تمييعا وتفكيكا للثورة ونتاجها الثقافي والإجتماعي إذا ما تم إستبدال ما هو متماسك في اليد بما هو طائر ربما يحمل في طياته بعض من عناصر المباديء الغربية التي ربما أدت لتآكل الثورة من داخلها. وهي حجة يرفضها الإصلاحيون بأن ليس لأحد أن يمنح نفسه حق أن يحدد للأمة ما يعتبره مؤذيا لها، من ثم منعها من الإنفكاك مما هو مكبل لها عن مقابلة تحديات الواقع. وبأن مباديء الدين تؤكد على حرية الأمة برشدها في تحديد وإختيار ما تراه نافعا لها. - هنالك حقيقة في شأن " ولاية الفقيه" تتمثل في أنها ليست إحدى مؤسسات المرجغية الدينية في " قم " وإنما هي إحدى مؤسسات الثورة الإيرانية بمركز فعلها في "طهران" تضم في عضوية مؤسساتها المساعدة عددا من أئمة تلك المرجعية في "قم". ولكن ليس هنالك ثمة تناقض أو تنافس بين مؤسسة الفقيه" و " قم "، إذ أن هذه الأخيرة لها مؤسساتها التقليدية الذي تتحكم به فيما يليها من الشئون الدينية ذات الجذور العقدية الشيعية البحتة. وفي نفس الوقت لا يعدم فريق "الإصلاحيون" مؤيدين من أئمة دينيين. وجدير بالملاحظة أن الشخصية التي تمثل "ولاية الفقيه" اليوم في إيران،" السيد على خامنئي"، يبدو غير عنيف في مواجهته لمطلب الإصلاحيين بتلك الدرجة التي تواجههم بها الفاعليات السياسية ممثلة في الحرس الثوري وفي أولئك الذين صاروا على قمة المؤسسات السياسية والتنفيذية من شباب إحتلال السفارة الأميركية. وربما يكون مرد ذلك المستوى من رد الفعل لدى خامنيء إلى طبيعة شخصيته وكذلك إلى أنه كان قبل أن يتولى منصب الفقيه ممارسا للنشاط السياسي والتنفيذي. فهو ربما يدرك حقيقة دوافع فريق "الإصلاحيون" الفكرية والسياسية. - الغرب والولايات المتحدة بحكم ما يرونه في الثورة الإيرانية منذ إندلاعها بعقيدتها وتأسسها بنظامها السياسي وتمظهرها الثقافي وتجسدها الإجتماعي وإلهامها وتأثيرها الإقليمي ثم تصاعدها إلى تهديد أمني مباشر، وما يرونه من تجسد كل ذلك في النظام السياسي القائم اليوم بمؤسساته ورموزه، فربما يفضل الغرب أن يستبدل ذلك الوضع بالإصلاحيين بمطمع إحنمال إحتواء هؤلاء الأخيرين أو إمكانية التفاهم معهم على الأقل. - ولكن هذه النظرة ربما تبدو قصيرة من منظور التدافع القائم بين الحضارة الغربية والإسلامية وإنعكاساتها الإقليمية وربما العالمية غلى المستوى الفكري على الأقل. فبإفتراض قابلية الإصلاحيين البارزين اليوم أفرادا للإحتواء أو التفاهم، إلا أن ما يستند إليه هؤلاء الإصلاحيون من فكر وفقه سياسي هو في نهاية المطاف ليس في صالح جهد دفع المباديء الغربية للمباديء الإسلامية إلى متحف الحضارات. إذ أن ما يمكن أن يعتبر فكرا وفقها سياسيا متقدما متمثلا في مبدأ " ولاية الأمة" بإستكمالاتها المؤسسية والإجرائية التي يمكن أن يقدمها فكر منفتح كما الشيعي وأمة ذات تاريخ في التمدين كما الإيرانية، كل ذلك ربما يصب إيجابيا في مجرى فصول سحب البساط تدريجيا من الحضارة الغربية بمبادئها ومؤسساتها الفكرية والسياسية كبديل ومثال للأجيال الحديثة في المنطقة الإسلامية إن لم يكن في مناطق أخرى غيرها وإن لم تشاركها المعتقد. - ولقد ظل الغرب واعيا بدقة وحرج هذه المعادلة الجدلية بين ما هو أفضل لحسم التنافس القائم بين الحضارتين على المستوى السياسي الآني والمستوى الثقافي المستمر والدائم. فقد ظل الغرب يجيد لعبة تفضيل وإبقاء ما هو تقليدي فكرا وأنظمة ومن حركات ثائرة عنيفة حيال الوجود الغربي السياسي والثقافي في المنطقة الإسلامية على ذلك الذي يعتبر رؤية مستحدثة، بنظر المراقبين وتأصيلية بحسب أصحابها،وذلك بتقديم هذه الأخيرة إجابات فكرية ومؤسسية لقضايا واقع المجتمعات الإسلامية، من خلال قوالب مدنية ربما تلاقت ظاهرا أو قصدا مع هو غربي دون عقدة تناقض لدى أصحابها. ولقد ظل الغرب مفضلا بقاء وأستمرار النوع الأول متمثلا في التقليدي والثوري العنيف على ساحة الفعل الإجتماعي والسياسي في العالم الإسلامي. وذلك لما يدركه الغرب لحقيقة أن كل من الإثنين، التقليدي والثوري السلفي، إنما يعكسان نظاما قابلا للتآكل من داخله بعامل الجمود وعدم التطور والمواكبة للأولى وبعدم فاعلية تلك الحركات الثورية السلفية العنيفة أو نجاحها في بلورة ما هو ثوري إلى فعل مدني، كما أن كلا المنظومتين لا يمثلان مثالا فاعلا ومطمئنا للأجيال الحديثة في الدول الإسلامية أو مؤثرا خارجه. - وربما يمكن إٍستقراء بعض صحة ودقة تحليلنا لذلك المفهوم والنظرة الغربية لواقع العالم الإسلامي بالنظر إلى تعامل الغرب مع التجربة الإسلامية في السودان بقيادة فكر عرابها الشيخ حسن الترابي، والتي يمكن تصنيفها في خانة تلك الحديثة بحكم إجتهاداتها، بغض النظر عن مدى فاعليتها وصمودها في الإختبار العملي. فقد نجح الغرب في إفشالها وتفريغها من فاعليتها بتشكيك أصحابها أنفسهم في قناعاهتم بمدى فاعلية أدوات التجربة العملية والذي إنتهى بتلك الحركة إلى أن ينظر إليها العالم الإسلامي والدولي على أنها تحمل في وقت واحد خصائص الأنظمة التقليدية ومنطلقات الجماعات الثورية العنيفة المسماة بالإرهابية. - ولكن لعل إضطراب الغرب في تحديد الموقف الحضاري من تجربة الثورة الإيرانية إنما مرده إلى عامل قوة فعالياتها البشرية من حرس قديم وإصلاحيين على مستوى التناول الفكري والسياسي في المجتمع الإيراني الشيعي بتعقيداته وتداخلاته العقدية والفكرية التي لا يستوعب فك شفرتها غير أهلها. ولكن ربما يفضل الغرب إقتناص فرصة الحل السياسي لمعركته مع الثورة الإسلامية في إيران وذلك ربما بسبب عامل ما يراه في نفسه من ثقة في قدرته على كسب المعركة لصالحه في المنتهى مهما تأجل حسمها بين الحضارتين والثقافتين الإسلامية والغربية. ** نشر بصحيفة "الصحافة السودانية بتاريخ 23.2.2011