مشهدان ظلا في الذاكرة .. يحكيان عن سماحة وسمو العلاقات الاجتماعية لأهل القضارف الكرام ..أحداهما عندما هاتفت قبل سنوات قليلة مضت الأخ الصديق معاوية عبد الرحمن النور معزيا في وفاة والده ..الرجل القامة عبد الرحمن النور.. والذي كان قد انتقل منذ عدة سنوات من القضارف للاقامه في امدرمان ..وذلك بعد سنوات طويلة قضتها هذه الأسرة الكريمة في قضروف سعد.. حيث كان لها دورا مشهودا على كافة الأصعدة بالمدينة ..أفادني الأخ معاوية بأريحيته المعروفة بأنه يشعر عندما تحدثت إلية في تلك اللحظة بوجوده في حي النصر بالقضارف ..حيث عدد لي أسماء مجموعه من أبناء حي النصر بالقضارف الذين جاءوا ا لتعزيته ..مازلت أذكر منهم الأخ عصمت كشة – متعه الله بالصحة والعافية ..والأخ سيد السواكنى ..لم يكن معاويه ممتنا لإخوانه وأصدقائه الذين تسارعوا للوقوف معه في هذا الظرف الأليم فحسب ..بل كانت كلماته تعبر عن مدى فخره بهذه العلاقات المتينة التي تتجلى في مثل هذه الظروف ..والتي لم يفقدها البعد الجغرافي قوتها وتماسكها أو يضعف عراها بل زادها متانة وقوة.فهي لم تكن علاقات عابره ترتبط بمصالح ضيقه أو أهواء وقتيه ..بل كانت علاقات ذات جذور راسخة.. وارث عظيم ..يتحلى به المجتمع القضروفى منذ أن تكونت هذه المدينة الرائعة والتي بنيت علاقاتها الاجتماعية على قيم التسامح والتكافل والقبول بالآخر أيا كانت الخلفيات أو السحنات . أما المشهد الثاني فحدث عندما هاتفت أحد الإخوان في الخرطوم قبل أيام قليله لأخبره بوفاة فقيدنا الغالي الفاتح عمر كرار كشة ..باعتبار أنني قد علمت بالنبأ الأليم ساعة حدوثه من ابن عمتي أمان بيتو.. بحكم جيرته للفاتح.. فا ذبه يفاجئني بأنه في تلك اللحظة كان في طريقه بالباص إلى القضارف بعد أن علم بالخبر .. لتقديم واجب العزاء في الفاتح.. متحدثا عن حجم الفقد على المستوى الشخصي والأسرى ...ثم تطرق إلى عمق العلاقات الاجتماعية بين ابناء القضارف ودورهم المعروف فى تلبية نداء هذه العلاقات سواء كان ذلك في الأتراح أو الأفراح ..وامتد بنا الحديث لأهمية الحفاظ على هذه القيم السمحة وترسيخها في أذهان الأجيال المتعاقبة لما تلعبه من دور مهم في بث روح التواصل والتكافل في النسيج الاجتماعي لأبناء هذه المدينة. وعندما تأملت في هذين المشهدين ببعدهما الانسانى والتضامني ..راعني تماسك العلاقات الاجتماعية لأبناء القضارف والتى لاتقتصر على تواجدهم في حدود المدينة فقط ..وإنما تظل قائمه بكل هذا الزخم حتى و بعد أن تفرقهم الظروف الحياتية والبعد الجغرافي ..و عدت بالوراء لمعرفة أسباب هذه الظاهرة الاجتماعية النادرة والتي تسود في العديد من المدن السودانية وان كنا نراها أكثر وضوحا في مجتمع هذه المدينة الرائعة ..وكيف ازدهرت وتماسكت إلى هذا الحد ..و تبين لي أن لها جذور راسخة.. أرسى دعائمها ذلك الرعيل الأول .. الذي عمل على نشر روح المحيه والتسامح والتكافل في المجتمع القضروفى على مستوى كافة شرائحه الاجتماعية وخلفياته الثقافية دون تفرقه أو تمييز..وعندما عدت بالذاكرة إلى سنوات بعيده مضت تبين لى أن سوق القضارف القديم لعب دورا كبيرا في تنمية هذه العلاقات الاجتماعية .. باعتباره أحد مراكز التلاقح الثقافي والفكري والاجتماعي.. لكل الخلفيات والثقافات التي وفدت إلى هذه المدينة منذ تكونها ... وأعطاها زخما وبعدا إنسانيا وموروثا اجتماعيا مايزال عطرة الفواح يغلف جنبات المدينة.. كان سوق القضارف القديم بمساحته المحدودة .. وتخطيطه البديع و الذي تطل فيه المحلات التجارية على بعضها البعض.. من أحد العوامل التي قاربت العلاقات بين قاطني السوق مع بعضهم البعض .. ومرتاديه من الجانب الآخر .. مما أدى إلى هذا الحراك والتواصل الذي افرز هذا التضامن الاجتماعي الفريد بين غالبية شرائح المجتمع .. كما لعبت بعض الأماكن ..مثل.. الجزارة.. وسوق الخضار.. والمقاهي ..السكة حديد ..البوستة .. سوق المحصول ..والأندية الرياضية والاجتماعية دورا مشهودا في تنمية هذه العلاقات وتطويرها إلى آفاق رحبة.. ومن ناحية أخرى كانت بعض المحال التجارية بالسوق تتحول في كثير من الأحيان إلى منتديات مصغره يتجمع من حولها مرتادي السوق باختلاف اهتماماتهم التجارية و السياسة و الرياضية و الاجتماعية ..يستحب أن أذكر منها .. مقرالشركة الحبشية .. دكان عمنا عمر كرار كشة.. دكان العم عمر عريبى .. ومكتبة العم يوسف علقم .. ودكان درويش .. ودكان العم عوض بشير وما كان يتميز به أخونا فتاح من علاقات عريضة ..إضافة إلى التجمعات حول محال الترزيه المشهورين أمثال أبو الأمين وود الصول.. وأماكن تقديم الشاي لأصحابها .. عثمان عابدين وميرغنى وإدريس والعم باسنده .. كانت المدينة في تلك الفترة وباختصار أسره واحده .. وستظل كذلك هذه لمحه من تاريخ التواصل الاجتماعي بقضروف سعد..المدينة التي أهدتنا أجمل مافى الحياة..قيم إنسانية لاينضب معينها ..وتضامن اجتماعي قل مثيلة ..