كلا ، لم أعرف إدريس جماع معرفة قريبة ، بل رأيته مرّة واحدة. كان ذلك في أواخر السبعينيات الميلادية قبيل وفاته في 1980م. في يوم خريفي مبلل بالمطر يمّمت وجهي شطر "حلفاية الملوك" حيث منزل الشاعر بمدينة الخرطوم بحري. كنت أمني النفس وأنا في أولى عتبات عملي الصحفي أن أجري حديثاً للنشر مع الشاعر الذي كان يعيش وقتذاك حالة من الذهول الذهني. لم يكن تقديري صائباً ، إذ أن حالته الصحية ما كانت لتسمح بتبادل الحديث معه ، ولكن لقائي مع الشاعر وما دار معه من حوار صامت جسّد أمامي سنوات مفعمة بالحس الشاعري والعواطف الإنسانية. كان المرض قد تمكّن منه ، وهو الذي شخّص مرضه كأدق ما يكون التشخيص ، وذلك في قصيدته "صوت من وراء القضبان" ، التي يرثي فيها الشاعر نفسه ، وهذه بعض أبياتها : على الخطب المريعِ طويتُ صدري وبحتُ فلم يفدْ صمتي وذكري وفي لُجج الأثيرِ يذوب صوتي كساكب قطرةٍ في لُجّ بحر دجى ليلي وأيامي فصولٌ يؤلّف نظمُها مأساةَ عمري أُشاهد مصرعي حيناً وحيناً يخايلني بها أشباحُ قبري وفي الكون الفسيح رهينُ سجنٍ يلوح به الردى في كلّ شِبر وأحلامُ الخلاصِ تشعّ آناً ويطويها الردى في كلّ سِتر حياةٌ لا حياةَ بها ولكنْ بقيّةُ جذوةٍ وحطامُ عمر في هذا الشعر رقة، وصدق عاطفة ، وجمال خيال ، كما يصفه معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين ، وقد اختار المعجم ثلاث قصائد من شعره أولاها القصيدة السابقة التي أثبتناها كلها لأنها آخر قصائده وأكثرها تعبيراً عن حياة عاطلة من حظوظ الدنيا؛ من مال وجاه ، أو بنين ورفاه. إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه وغالب شعر إدريس جماع غير مشهور بين الجماهير ، ولكن قصائده المغناة نالت نصيباً كبيراً من الشهرة ، منها القصيدة التي يشدو بها المطرب السوداني سيد خليفة: أعَلى الجمال تغار منا؟ ماذا عليك إذا نظرنا هي نظرة تنسي الوقار وتسعد الروح المعنّى دنياي أنت وفرحتي ومُنى الفؤاد إذا تمنّى أنتَ السماءُ بدتْ لنا واستعصمتْ بالبعدِ عنا هلاَّ رحمتَ متيّمًا عصفت به الأشواق وهنا وهفت به الذكرى فطاف مع الدجى مغنى فمغنى هزته منك محاسن غنّى بها لمَّا تغنَّى يا شعلةً طافتْ خواطرنا حَوَالَيْها وطفنا آنست فيكَ قداسةً ولمستُ إشراقاً وفناً ونظرتُ في عينيكِ آفاقاً وأسراراً ومعنى أما مصطفى سند فقد عرفته معرفة قريبة ، كنت قريباً منه في التسعينيات من القرن المنصرم ، ولكني افتقدته بعد هجرته إلى المملكة العربية السعودية. آخر مرة أتاني صوته قوياً من مدينة أبها ، بدأنا نتذكر سالف أيامنا في رحاب مجلس الصحافة. تذكرنا الأستاذ محمد خوجلي صالحين من رواد العمل الإعلامي في السودان يرحمه الله ، كانا يدخلان معاً قاعة المجلس ويخرجان معاً، ويجلسان الكتف إلى الكتف ، يتشاغبان أحيانا ويتبادلان الابتسامات. يا أستاذ سند ، شكراً على قصيدتيك الأخيرتين؛ القصيدة النورية، وحوارية حب لمكة المكرمة. كنت طلبت منه القصيدتين فأبدى أسفه للتأخير لأنه كما قال لي كان يعاني تأثير جرعة (الكيموثيرابي). مصطفى سند لم يعرف التأخير إلا بسبب المرض. وهذه بعض أبيات الحوارية : قوافل من بدايات الزمان إليك تصعد تعبر الآفاق قوافل من بدايات الزمان إلى نهايات الزمان تظل نحوك تستقيم وتنحني ويظل وجدك سيد الأعماق ويظل نورك يسكن الدنيا ويقدح في عروق الدهر جذوة نبضه الحرّاق وإليك ينهض كل معتلج الحشا بالحب والأشواق وإليك يا قرشية الأنفاس ينسفح الربيع تشوقاً وتهاجر الأوراق - لقد أبكيت يا سند بحواريتك، وملأت القلب بالشجى والشجن. سوف أنشر الحوارية بخط يدك. - يا أخي هذا من لطفك، أرجو أن أكون كما تقول. - دعني أراك قريباً. - إن شاء الله قريباً، هذه المرة يبدو أنني سأبيت في فندق المطار بجدّة لأركب الطائرة صباحاً، ولي موعد إن شاء الله عندما أعود. بعد هذه المحادثة بأيام قليلة انتقل الشاعر إلى رحاب الله تعالى. طلبت صورة لسند ننشرها مع قصيدته ، فقال لي مخرج الصحيفة: بحثت عن صورته في كل مكان ولم أجدها. وجدنا صوراً كثيرة للاعبين ومغنين يحملون اسم مصطفى ، أما مصطفى سند فلا أجد له شيئاً. معقول! سأبحث عنها بنفسي. وبدلاً من العثور على صورته أعثر على مواد غزيرة عنه ، عشرات المقالات والسجالات. غزارة المادة المكتوبة عنه تدل على أهميته في عالم الشعر والأدب. هنا من يمدح ، وهناك من يقدح ، وهنالك من يشطح وينطح! أقرأ في جريدة الصحافة العدد 3856 رأياً في عموده مراجعات أدبية ما كتبه تحت عنوان (هل تحبون شعراً؟) ، يقول فيه : لقد خسر الشعر فعلاً، خسر أرضه وجمهوره، وفقد تأثيره بعد أن توزع هويته ولبس شاراته وتسلق جدران مهابته واقتحم حرمه أناس ما لهم به من قربى ولا وشيجة ولا نسب. وهذا إبراهيم سليمان من انجلترة يستدرك على سند : "أنه يضيف مقصداً جديدا للأدب (الأدب للمادة)، سمعنا أن الأدب للأدب والأدب للمجتمع. والأدب متعة ذاتية وهو وسيلة للتعبير عن الذات ، والأديب يكفيه أن يوصل ما به إلى المجتمع ولا أظنه أنه يفكر في العائد المادي". لا أدري لماذا نعطى كل إنسان عائداً لعمله وإنتاجه ونحرم من ذلك الأديب والمفكر. الأديب وحده يكون حظه الحرمان والفاقة، كأننا بذلك لا نقدر الأدب والفكر حق قدرهما ولا نضعهما في المقام اللائق بهما. المجتمعات المتحضرة وحدها تقدر الشاعر والأديب، وتعطيه من غير منٍَ ولا أذى. وتعطي الأديب قبل أن يسأل ويطلب ، ذلك أن الشاعر بما أوتي من رهافة الحس ورقة الشعور، يجد نفسه بعيداً عن الطلب والإلحاح. وأغرب ما وجدت في محاورات المنتديات عن سند، لجوء بعضهم إلى فاحش القول والبذاءة التي تصنف في قلة الأدب لا في الأدب. الفضاء الثقافي فضاء واسع رحيب، فلماذا يلجأ بعض الناس إلى تضييق الواسع وتلويث البيئة بالمنتنات من العصبيات العرقية والقبلية. زعموا أن مصطفى سند أنكر سودانية الفيتوري حين قدم محاضرة في دبي عن الأدب السوداني، فرد عليه أحدهم رداً قاسياً ولكن بتهذيب مستشهداً بأبيات الفيتوري : أنكرني قاتلي وهو بردان يلتف في كفني وأنا من سوى رجل واقف خارج الزمن كلما ضيعوا بطلاً قلت قلبي على وطني في هذه المنتديات الأثيرية تجد الغث والسمين ، وأكثرها نفايات ممما يتقمّمها السقّاط من الطرقات. يكتبون تحت أسماء مستعارة، يظنون أنهم يكتبون الأدب ولا يعلمون أنهم يكتبون كما يكتب المراهقون على جدران بيوت الأدب (ولا مؤاخذة)! كأنني أدركت شيئاً من ذبالة الشاعر إدريس جماع ، رأيت شبحه وسمعت صوتاً يهمهم بكلام غير مفهوم. وأدركت ذبالة الشاعر مصطفى سند ، وهجاً ساطعاً يخطف البصر قبل انطفاء السراج: يا شاعر قمْ ... فالساعة لا تتوهج إلا حين يكف القلب عن الخفقان والآن أوانك آن يا ترحل عنها محمولاً كالعصفور على شفق النار الأخضر أو تخرج منها كرنين في وتر النار الكبرى أو شكٍ في برد الإيمان.