راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جعفر نميري... ولمن ولى حديث يذكر ... بقلم : خالد فتحي
نشر في سودانيل يوم 07 - 04 - 2011

أبصر النور في 26 ابريل 1930م و أسبل جفنه ورحل لحيث الحياة الابدية في 30 مايو 2009 متوسدا الثرى بجبانة احمد شرفي بالطرف الشمالي الشرقي لامدرمان. حكم السودان قرابة (16) عاما امتدت في الفترة من 25 مايو 1969م الى 6ابريل 1985م. وظل عهده مثار جدل لاينتهي فبمقدار مايراه مشايعوه، رجلا ليس كمثله رجل إخلاصا ووطنية واستقلال قرار وايضا سياسيا محنكا ومفجرا للثورة التنموية في البلاد، بل ويذهب البعض ومنهم الاديب العالمي الطيب صالح _ رغم انه ليس من مشايعيه_ لكونه رجلا ذكيا والدليل تحالفه مع كل ألوان الطيف السياسي من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، ولا نستثني الوسط إبان حكمه.
في المقابل لا يتمثل الرجل في نظر اعدائه الا قاتلا تخفى في ثياب رئيس. ومجرد دكتاتور اطاح بنظام حكم ديموقراطي شعبي، ثم لا يتمثلون ايضا في سنوات حكمه سوى خيطا لا ينقطع من الدم الذي سفكه بلا رحمة، ويتهمونه أيضا بأنه المسؤول عن تدهور النظام الإداري الذي حاق بالبلاد، فهو من قادها بدون فكرة محددة فوصل بها إلى حدود الانهيار في كل شيء، كما يتهمونه بممارسة العنف ليس ضد المعارضين وحدهم وإنما ضد الذين يعملون معه من السياسيين واستشهدوا بأن النميري يعزل وزراءه فجأة في ثنايا نشرة أخبار الثالثة ظهرا عبر اثير الإذاعة السودانية بطريقة دراماتيكية وهذا ماكان يكنيه ب(القرار الصدمة)، ويشاع أيضا أنه كان يحتد مع مسؤولين في حكومته حد الضرب.
وبين اختلاف انصار نميري ومعارضيه ، كادت سيرة الرجل برمتها تضيع وكذا تاريخه بين ثناء مسرف ونقد مجحف، وزاد الامر حدة ماجبلت عليه النخبة السودانية من خصيصة يكاد لاينازعها فيها احد من العالمين في الاعراض عن تدوين الحادثات التاريخية وكتمان الاسرار في الصدور حتى القبور، والاكتفاء على نحو او آخر ب(المشافهة) وتراهم لا يبذلون الا بعضها او أطرافا منها في مجالس المؤانسة الضيقة ولا يستثنى أحد من هذا إلا القليل الذين لا يعدون على أصابع اليدين والنميري نفسه لم يكن بدعا من اولئك ، حيث مضى متدثرا بسلطان صمته، رافضا بشدة كل المحاولات التي بذلت والحجج التي سيقت إليه لتدوين مذكراته او الإدلاء بشهادته للتاريخ على تلك الأيام المفعمة بالإثارة.
(1)
ينتمي نميري لأسرة انصارية الهوى ، سكنت حي "ود نوباوي" العريق بامدرمان وتنتهي أصوله الى قبيلة "الدناقلة" بشمال السودان وبالتحديد منطقة "ود نميري" الواقعة بالقرب من مدينة دنقلا. وشهدت طفولة نميري حسب (الشرق الاوسط ) تفاصيل حياة قاسية وشظف عيش واجهته منذ الصغر. تحدث عن طفولته وشبابه في إحدى المرات قائلا :" أتذكر قساوة الحياة التي عشناها وأتذكر في الوقت نفسه كيف أن مرتب والدي عندما أحيل إلى المعاش لم يتجاوز تسعة جنيهات، وبسبب ضآلة هذا المرتب حرص والدي على أن يعلمنا، عشنا قساوة الحياة، ولكي يؤمن لي والدي فرصة الدراسة الكاملة فإنه طلب من أخي الأكبر أن تتوقف دراسته عند المرحلة المتوسطة ويبدأ العمل". فعمل مصطفى، الأخ الأكبر براتب قدره أربعة جنيهات شهرياً، وأكمل نميري دراسته وتمكن من الالتحاق بالثانوية العليا ، مدرسة "حنتوب الثانوية"، ولكن بسبب الظروف المادية الصعبة التي تواجه الأسرة بصورة لا تسمح بتوفير مطالب دراسته، قرر نميري بعد اكمال المرحلة الثانوية الالتحاق بالقوات المسلحة بدلا من دخول الجامعة.
ويقول عن هذا الاختيار " الذي شجعني على ذلك شعوري بأن التحاقي بالكلية الحربية سيؤمن لي دخلاً أساعد به عائلتي، وكان الدخل عبارة عن أربعة جنيهات ونصف الجنيه شهرياً للضابط حديث التخرج، أرسل نصفه إلى والدي ووالدتي مع مبلغ آخر يرسله أخي إليهما".
ووالد نميري هو محمد محمد نميري ووالدته آمنة نميري، عمل والده جندياً في "قوة دفاع السودان" لكنه بعد الزواج ترك العمل في الجيش واختار العمل ساعياً في شركة سيارات، وعندما افتتحت الشركة فرعاً لها في واد مدني انتقل إلى الفرع واستقر به المقام هناك مع أسرته التي باتت تتكون من الأب والأم وثلاثة أبناء هم: مصطفى وجعفر وعبد المجيد الذي توفي وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان جعفر كثير الترديد بعد وصوله الى السلطة بأنه ابن الساعي للتدليل على انتمائه وانحيازه لعامة الشعب.
قالت له والدته يوما عندما سألها عن سر اختيارها هي ووالده هذا الاسم إنها رأت في حلم أثناء حملها به بأنه إذا جاء المولود ذكر عليها أن تسميه جعفر تيمناً ب"جعفر الطيار" الذي هو جعفر بن أبي طالب شقيق الإمام علي كرم الله وجهه.
ويقول جعفر " تذكرت ما قالته الوالدة بعد أن أصبحت رئيساً للسودان حيث أنني في الأشهر الثلاثة الأولى من بداية رئاستي للسودان كنت أحلم يومياً بأنني أطير وأسمع الناس من حولي يقولون: شوفوا الزول ده ( أي انظروا إلى هذا الإنسان) الذي يطير "وفي خواتيم سنوات حكمه سيما بعد ان أسفر عن وجه إسلامي كان يبجل من قبل أنصاره بلقب "أبوجعفر المنصور" .
(2)
ابتدر نميري مراحله الدراسية الأولية بمدرسة الهجرة بأمدرمان والوسطى قبل انتقاله لمدرسة ود مدني ومنها لمدرسة حنتوب ولم يكن سجل تحصيله الدراسي حسنا ورسب في كل المواد عدا التاريخ والتربية الرياضية وكان ثاني اثنين لم يحققا نجاحا في عامهم ذاك من بين (38) طالبا جلسوا للامتحان.
وبعدها تقدم لكلية غردون ولكنه تراجع وآثر الالتحاق بالكلية الحربية السودانية عام 1950م للأسباب التي سلفت وتخرج في الكلية الحربية بأم درمان عام 1952، ضمن الدفعة الثالثة بالجيش التي كانت كائنة في الموقع الحالي للسلاح الطبي قبل انتقالها الى موقعها الراهن ب(وادي سيدنا) وربما رأى فيها الطريق الاقصر في حلم الوصول الى السلطة، سيما وأن التغيير عبر الانقلابات العسكرية كانت الورقة الرابحة حينئذ.
وقد أسبغت المقادير على نميري بسطة في الجسم ربما تعويضا عن حرمانه من بسطة العلم، وتمتع حينها وعلى الدوام بقوام وبنيان جسماني قوي أشبه ب(هيركليز) البطل الملحمي في مثيولوجيا الاغريق، وكان ولعا بالألعاب الرياضية، وكرة القدم والعدو على نحو خاص، ولعلها كانت عاملا إضافيا لذاته التي طالما نازعته الى القيادة، لكنه لم يكن وحده في هذا بل كثيرون بصروا بالشيء نفسه ومنهم الكاتب الصحفي المصري يوسف الشريف الذي تحدث عن ذاك في ثنايا فيلم وثائقي من انتاج الكاتب الصحفي "امير احمد السيد" وتطرق لمقاله الذي تحدث فيه عن نميري وتنبأ بالانقلاب قبل اندلاعه بوقت طويل، وكيف أن المقال لم يسترعِ انتباه أحد إلا بعد وصول نميري الى السلطة، حيث استدعاه على إثرها الرئيس جمال عبد الناصر، وذكر الشريف أن بين الأسباب التي حملته على تدوين مقالته تلك شخصية وأسلوب نميري في الحديث الذي رأى فيه كاريزما وجاذبية قائد كبير وليس مجرد ضابط عادي.
(3)
تميز نميري بعشق غريب لسلك الجندية التي ظل متمسكا بها ، وواصل النميري الترقي في سلم العسكرية حتى حصل على الماجستير في العلوم العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية،. وظل متعلقا بالبزة العسكرية لآخر يوم في حكمه ويعتبر أول ضابط سوداني يحمل رتبة "المشير" ، وداخل الجيش انضم الى تنظيم "الضباط الأحرار" وكان خليطا من الضباط الشيوعيين وضباط آخرين من ذوي الميول القومية وعبره تحقق الحلم ووثب الرجل الى السلطة التي طالما تاقت نفسه إليها، بعد أن نحجت الدبابات التي تحركت فجر الجمعة 25 مايو 1969م من "خور عمر" بأطراف امدرمان في القضاء على الحكم الديمقراطي، ليلج بعدها الرجل الذي وصل الى الحكم محمولا على أكتاف اليسار لتاريخ السودان الحديث من الباب الواسع.
ولم ينتظر النميري ومعاونيه طويلا حتى دخلوا في صراع دامي مع الأنصار وسالت الدماء في "ودنوباوي" و "الجزيرة أبا" معقل الانصار التاريخي. ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يشن قصفا جويا ضد الأنصار وحلفائهم من حركة الإخوان المسلمين بقيادة محمد صالح عمر الذين تمترسوا ب "أبا" في مارس 1970م وسط شكوك قوية بمشاركة سلاح الجو المصري بقيادة الرئيس السابق حسني مبارك، قبل أن يتمكن من الظفر بالإمام الهادي المهدي نفسه بالكرمك وقتله أثناء محاولته العبور الى الأراضي الإثيوبية. وفي 16نوفمبر 1970م أصدر نميري قرارا بفصل هاشم العطا، وبابكر النور وفاروق حمدالله من مجلس قيادة الثورة بعد أن أطلق عليهم "الثلاثة المعوقين" واتهمهم صراحة بأنهم يقومون بتسريب مداولات المجلس الى سكرتير الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب، وشكل فصل الرجال الثلاثة مقدمة لحركة يوليو التصحيحية التي اشتهرت ب"انقلاب هاشم العطا" في 19 يوليو 1971م وكان الانقلاب بمثابة الصدمة لنميري وأركان حكمه لمخالفته كل أدبيات الانقلابات الكلاسيكية حيث تحركت الدبابات للاستيلاء على السلطة عند الثانية ظهرا وليس فجرا كعادة الانقلابات الأخرى، وقتها كان نميري ينوي زيارة الحصاحيصا ضمن جولة تشمل سنار التقاطع وكوستي والجزيرة أبا، وأيضا تصادف وصول عضو مجلس الثورة الرائد زين العابدين محمد احمد عبدالقادر برفقة وزير الخارجية فاروق ابوعيسى من القاهرة بعد مشاركتهما في محادثات دول "ميثاق طرابلس" في الليلة السابقة للانقلاب والذي كان دمويا بكل ماتحمله الكلمة، حيث قتل (19) ضابطا وضابط صف عزل من السلاح في حادثة "بيت الضيافة" قبل أن يعود نميري ورفاقه في 22 يوليو ويقوم بإعطاء أوامره بإعدام جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة رميا بالرصاص كبابكر النور والعطا وحمدالله والحردلو وآخرين وطال حكم الإعدام شنقا سكرتير الحزب الشيوعي عبدالخالق محجوب وسكرتير عام نقابات عمال السودان الشفيع احمد الشيخ ووزير شؤون الجنوب جوزيف قرنق، بجانب اعتقال مئات الشيوعيين والحكم عليهم بالسجن لفترات متفاوتة بكل أنحاء السودان وكانت محصلة ضحايا الأحداث التي أطلق عليها النظام المايوي "المحنة السوداء" (38) قتيلا و(119) جريحا حسب الاحصائيات الرسمية.
وبدا نميري مزهوا بنفسه وتناقلت مجالس الخرطوم أقاصيص شتى عن الطريقة التي غادر بها محبسه بالقصرالجمهوري وراجت أقاويل بأن الفنان "سيد خليفة" عاون النميري على الخروج من القصر. ونقلت الصحف يوم الثلاثاء 27 يوليو 1971م جانبا من وقائع محاكمة بابكر النور والنميري يقول له "هل رأى السودان ديمقراطية حقيقية مثل التي نمارسها" وأيضا " أوامر عبدالخالق كنتم تنفذونها كالعبيد"، قبل أن يشير الى زهده قائلا: " إنه لايزال يشرب الماء الساخن ويأكل العيش السفري وينام على العنقريب". ورغم أن النور طلب شهادة اللواء الشلالي مديرالسلاح الطبي لتعضيد قوله إنه غادر الى لندن في إرسالية طبية غير أن شهادة الشلالي لم تأت كما ترجى وحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، وذاع مشهد للنور مستسلما واضعا يديه على رأسه بينما يتحدث خالد حسن عباس إليه في معية مفرزة مسلحة من الجند.
وخرجت الصحف أيضا بتصريح منسوب الى نميري ذكر فيه "عجلت بإصدار الأحكام لتهدأ نفوس الشعب". وفي 30 يوليو 1971م أبرزت الصحف خبرا آخر بأن الرئيس شكل لجنة لكتابة الأحداث.
وبالرغم من الأثر الماركسي الذي بدا واضحا وبشدة في شعارات الثورة وبياناتها، الا أن علاقة نميري بالشيوعيين لم تكن على مايرام ومنذ وقت مبكر، فاستهانة الشيوعيين بنميري ووصمه بالجهل والتخلف لم تكن خافية على أحد وحادثة تقدم عبدالخالق الى المنصة للحديث بعد نميري أبلغ دليل على ذلك وتلك الحادثة أغضبت نميري جدا وأسر لخاصته بعدها أنه كاد أن ينهض من مقعده ويلقي به بعيدا عن المنصة.
وفي محاولة للظهور بمظهر المثقف الثوري استرضاءً للشيوعيين، عكف نميري على الاستماع الى أحاديث لعبد الخالق مسجلة على أشرطة "كاسيت " ليزيد من وعيه في كيفية فهم القضايا وتحليلها، وفي الاحتفال بالذكرى المئوية لمولد لينين بميدان عبدالمنعم بالخرطوم جنوب في 22 ابريل 1970م فاجأ نميري كبار الشيوعيين بذكر اسم لينين كاملا " فلاديمير اليتش اوليانوف لينين" في كلمته أثناء الاحتفال، والحادثة ذات دلالة، كما لا يمكن فصلها من ذات الاتجاه الذي أصر على المسير فيه والظهور به لقد كان واضحا أن نميري يريد أن يكون على رأس السلطة، بأي طريقة، وعلى حساب أي جهة" على حد تعبير عبدالكريم ميرغني في مقابلة مع دبلوماسي امريكي في 1970م .
والشائع أيضا في تلك الأيام تأثر نميري الشديد بفلسفة عبدالناصر وتجربته في الحكم وذاعت صوره وهو ينزل من الطائرة باكيا بعد ساعات قليلة من عودته من القاهرة بعد مشاركته في مؤتمرالقمة العربي ليلحق بمراسم تشييع عبدالناصر الذي فارق الحياة على نحو مفاجئ في 28 سبتمبر 1970م ، وينسب اليه الفضل في إخراج رئيس حركة "فتح" ياسر عرفات من عمان وسط عاصفة من النار والدم في الأحداث التي عرفت ب"أيلول الأسود" والتي شهدت هجوما واسعا للجيش الأردني على مواقع المقاتلين الفلسطينيين حيث اقتحم الجيش الأردني، مقر قيادة "فتح " في جبل الحسين بعمان، ولم يجد عرفات مفرا سوى الاستنجاد بعبد الناصر ومطالبته بالتدخل لوقف المعارك وإراقة الدماء، وكان له ما أراد وعقدت قمة عربية استثنائية في 21 سبتمبر بالقاهرة ، وقررت القمة إرسال ثلاثة مبعوثين إلى الأردن على رأسهم جعفر نميري بجانب رئيس الوزراء التونسي الباهي الأدغم ووزير الدفاع الكويتي سعد العبد الله . وتمكن الوفد بعد صعوبات بالغة من الاجتماع مع ياسر عرفات في السفارة المصرية بعمان. ونجح عرفات في الإفلات من عيون أجهزة الأمن الأردنية بعد أن ارتدى ثيابا خليجية زوده بها سعد العبد الله.
وبالرغم من أن نميري بدأ حكمه يساريا معجبا بحكم عبد الناصر كما أسلفنا لكنه تحول تدريجيا صوب اليمين ليصبح حليفا للولايات المتحدة واجتهد نميري بعدها في قطع أي صلة له بالاتحاد السوفيتي ومن ورائه المعسكرالاشتراكي وسعى بجد الى كسب رضا المعسكرالرأسمالي والولايات المتحدة على وجه الخصوص ودون شك فان الرئيس المصري انور السادات لعب دورا كبيرا في هذا ابتداءا بحمله على التعجيل بإعدام قادة الحزب الشيوعي لقطع الطريق أمام محاولات السوفيت للاستنجاد به للتوسط لدى نميري للعفو عنهم ، لاسيما الشفيع الحائز على وسام "لينين" باسم العمال. وطوال فترة حكم السادات ظل نميري تابعا لخطواته حيثما توجه وكان الرئيس الوحيد في المحيط العربي الذي رفض قطع علاقته بالقاهرة بعد توقيع السادات اتفاق "كامب ديفيد" منفردا مع إسرائيل في 1979م. وعندما قتل السادات على أيدي الاسلامبولي ورفاقه في حادثة المنصة الشهيرة ظهيرة 6 اكتوبر 1981م أصر على المشاركة في تشييعه ضاربا عرض الحائط بكل النصائح الاستخبارية التي حذرته من ملاقاة نفس المصير، ولم يتراجع بل وأصر على ارتداء الزي السوداني وألزم جميع أعضاء وفده المرافق بالشيء نفسه ولم يستثنِ حتى جوزيف لاقو من ذلك ليكونوا "أهدافا شهيرة لاتخطئها رصاصات من يريد قتلهم " كما قال حينها.
وبالرغم من توثيق صلاته بأمريكا وحلفائها لكنه ظل متوجسا على الدوام من النفوذ الشيوعي بالمنطقة لدرجة أن الامريكان صوروه حسب الوثائق التي كشف عنها مؤخرا بأنه شخص مضطرب العقل (سايكوباتيك ).
(4)
وماهي إلا سنوات حتى عاد نظام نميري ليشهد محاولة انقلابية في 5 سبتمبر 1975م بقيادة المقدم حسن حسين، وأخمد الانقلاب سريعا وأعدم ثلاثة وعشرون رجلاً، وحوكم آخرون بالسجن ونالت فئة ثالثة البراءة، وتم إعدام الانقلابيين العسكريين رمياً بالرصاص وعلى رأسهم قائد الإنقلاب نفسه الذي أعدم في (وادي الحمار) ، اما المدنيين أمثال عباس برشم فجرى إعدامهم شنقا بسجن كوبر وعلق نميري على الانقلاب قائلا :" إنها محاولة محدودة ومعزولة والدليل على ذلك أن الذين اشتركوا فيها كانوا عبارة عن أعداد قليلة من الجنود وصغار الجنود يجمعهم انتماؤهم العنصري إلى منطقة واحدة".
ولم تسكن حركة المعارضة المسلحة في مواجهة نميري إلا قليلا حتى تواثقت من مقرها في الجماهيرية الليبية لمعاودة الكرة مرة أخرى وإزاحة الرجل جبرا بتنسيق هجمات عسكرية واسعة النطاق هذه المرة وليس بمجرد انقلاب عسكري تقليدي وحددت الجمعة 2 يوليو 1976م ساعة صفر لبدء العلميات المسلحة، وقد أوكلت المهمة لعميد متقاعد من الجيش هو محمد نور سعد بعد أن سبقته عناصر المعارضة المسلحة بالتسلل الى الخرطوم عبر الحدود مع ليبيا ، وتصدى نظام مايو للحركة بقسوة وتعامل معها بعنف، وأعدم قائد الانقلاب محمد نور سعد رميا بالرصاص بعد إلقاء القبض عليه وقد تحولت شوارع الخرطوم لساحة معارك دامية بين رجال الجيش ومقاتلي الجبهة الوطنية الذين أطلق عليهم " مرتزقة" كان نتاجها مقتل المئات.
ولم يتعرض نظام مايو بعد هذه لمحاولة انقلابية أخرى الى أن أطاحت به الانتفاضة الشعبية الكاسحة في 6 أبريل من العام 1985 وقبلها جرب المصالحة الوطنية مع عناصرالجبهة الوطنية في 7/7/1977م التي أفضت لدخول حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي ولحقه الإخوان المسلمين بزعامة الترابي بعدها بأشهر قليلة الى دواوين الحكومة بينما التزم الشريف حسين الهندي بموقفه حتى رحيله في 10 يناير 1981م.
(5)
في 8 سبتمبر من العام 1983م، كانت دولة النميري على موعد مع نقلة مفصلية بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان ، فأغلقت بيوت الدعارة وأريقت الخمر وأغلقت البارات تبعا لذلك.
ومع التسليم بأن الخطوة شكلت نقطة فارقة في سني حكم نميري لكن مقدماتها وإرهاصاتها سبقتها بوقت طويل بدءا ببرنامج القيادة الرشيدة التي حرم نميري بموجبها السكر والموبقات على كبار المسؤولين، وعزل كل من ضبط متلبسا بأي منها، ويتهمه مناوئوه بأنه لجأ لذلك بعد عجزه عن احتساء الخمر التي كان عاشقا لها امتثالا لأمر الأطباء.
غير أن المقربين من نميري لاحظوا أن إمارات التصوف آخذة في الظهور عليه حيث توالت زياراته لأضرحة المشائخ والقباب بطريقة لافتة، ومد حبال الود بالطرق الصوفية وخلاويها، واتخذ من شيوخها مرشدين روحيين له، كما أظهر اهتماما بتشييد المساجد ودور العلم، وأبدى اهتماما أيضا بمهرجانات القرآن الكريم ودعم خلاوى القرآن، وفي شؤون الحكم والسياسة نجد أن المادة (9) في دستور 1973م نصت بشكل صريح على أن الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع، وتستمد هذه الفقرة أهميتها من كونها جاءت بالدستور الذي أعقب تغلب نميري على رجال حركة (19) يوليو.
دليل آخر أن نوازع الإيمان تحركت داخله منذ ذاك الوقت ماخطه في كتابه (النهج الإسلامي لماذا؟) إذ يقر بأنه ترك الصلاة لسنين طوال بعد إصابته بحمى شديدة ظن أن الصلاة كانت سببها ولم تنازعه نفسه للصلاة مرة أخرى إلا في محبسه بالقصر الجمهوري يوم 19 يوليو.
وفي مقابلة شهيرة لصاحب "الوطن" الراحل سيداحمد خليفة مع نميري بالقاهرة في مايو 1989م يذكر أن الترابي سخر من كتابه (النهج الإسلامي لماذا) قائلا لبعض أصحابه "هو متين نميري بقى مسلم عشان يكتب كتاب إسلامي"، مما أغضب نميري وكاد أن يفتك به لولا توسط أحمد عبدالرحمن الذي كان نميري يكن له تقديرا ويعتبره أحد المخلصين لنظامه.
وفيما بعد كانت تلك الفترة هدفا لسهام كثيرة، انتاشت الرجل وحلفاءه وقوانينه وقضاته ومحاكمه، بعد أن رأى منتقدوه وأبرزهم الجمهوريون وحزب الأمة أنه التجأ لتطبيق الشريعة بطريقة متعسفة خالية من الرحمة ومصادمة لمقاصد الشريعة نفسها، فقد أخذ الناس بالشبهات وحوكموا بالظن وفي كتابه الموسوم ( الفجر الكاذب،،،،نميري وتحريف الشريعة) الذي خصصه للهجوم على تلك الفترة يشير الدكتور منصور خالد الى أن عدد الأيدي التي قطعت باسم حد السرقة في غضون أشهر بعد إعلان تطبيق قوانين سبتمبر فاق أعداد الذين قطعت أيديهم في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة السعودية كله!.
ويضيف آخرون أسبابا أخرى للحمل عليه ويذكرون أنه لم يستوفِ في نهجه ولا قضاته في أحكامهم رؤى صاحب الرسالة صلوات الله و سلامه عليه في قوله " يسِّروا ولاتعسِّروا .. بشِّروا ولا تنفِّروا" بل وعطّلوا المبدأ النبوي العظيم القائل "أدرأوا الحدود بالشبهات".
وعلى سبيل المثال خطابه في الاحتفال بمايو 1984م وكان العيد الاول لانقلابه في أعقاب تطبيق القوانين المثيرة للجدل والأخير أيضا _فلم يحتفل به مرة أخرى وهو في سدة الحكم_ يومها ظهر الرجل على ظهر سيارة مكشوفة، مرتديا زيه العسكري يلوح للذين على جانبي الطريق، وحمل خطابه الذي ألقاه يومها عبارات قاسية من قبيل " إن الإسلام له طوارئ وعندما يرى المجتمع قد فسد، وانحرف انحرافا شديدا نعلن الطوارئ، ندخل البيوت ونضبط ونفتش كل مكان من يشرب في الخفاء، من يزني، بيوت الدعارة كل بيت مشتبه ندخله ونفتشه، الاسلام أمرنا بذلك". ليس هذا فحسب بل تسابقت نشرات الاذاعة والتلفزيون بتوجيه منه ومن سدنته على إعلان قوائم مداني محاكم العدالة الناجزة قبل أن تعيدها الصحف اليوم التالي، ورغم أجراس التنبيه التي انطلقت هنا وهناك لكن الرجل لم يتراجع ولم يرعوِ قضاته، وعلى العكس تماما تتالت الأحكام، وفي 15 يونيو كان سجن كوبر مسرحا لإعدام وصلب الواثق صباح الخير بعد إدانته "في جرائم روعت المسؤولين والمواطنين معا" كما أشارت صحيفة إدانته يومئذ، وليتعظ الجميع قررت المحكمة شنقه وصلبه وكان لها ما أرادت حيث بقيت جثته مصلوبة لنصف ساعة، أمام حشد بلغ (50) ألف شخص تقريبا حسب تقديرات مدير السجون آنذاك الفريق احمد وادي حسن.
وفي 18 يناير 1985م نفذ حكم الإعدام على زعيم الجمهوريين محمود محمد طه، بعد أن حكم القضاء بردته وأحدث الحكم وتنفيذه هزة كبيرة، كون الرجل مفكر يوصم بالردة ويعدم. ورثاه العلامة عبدالله الطيب بقوله "قد شجانى مصابه محمود مارق قيل، وهو عندى شهيد".
(6)
أما قضية الجنوب فقد مرت بمرحلتين مهمتين إبان حكمه ، أولاهما التفاوض والاتفاق الذي جسدته اتفاقية أديس أبابا في 3مارس 1972م ، والثانية الاختلاف والمواجهات الدامية التي أعقبت تجميد نميري الاتفاقية في 1983 بتقسيم الجنوب لثلاث ولايات بعد أن اعتبر تصرفه إلغاءً للاتفاقية.
وفي منتصف العام 1983 أعلن كاربينو كوانين قائد الكتيبة 105‏ بمنطقة بور تمرده، فشنت القوات المسلحة هجوما على الكتيبة لإخضاعها، ما أدى إلى هربها إلى أدغال الاستوائية. وزاد الأمر سوءا أن جون قرنق الذي كلف بتأديب الكتيبة وقائدها، أعلن انضمامه إليهم مؤسسا للحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكري الجيش الشعبي. وقد كان إعلان تطبيق الشريعة مدعاة لنفور الجنوبيين أكثر من ذي قبل .بعدها شهدت الحرب الأهلية في عهده وعهود لاحقة فصولا دامية انتهت بتوقيع اتفاق "نيفاشا" الذي أفضى بدوره لانفصال الجنوب نهائيا عن الشمال.
(7)
تميزت الفترة التي سبقت الإطاحة بنميري بتفشي أزمة معيشية طاحنة وانتشار صفوف البنزين والرغيف والغاز، مع معاناة شديدة وتفشي سوق سوداء تأثرت بها الشرائح الضعيفة. خاصة مع موجة الجفاف والتصحر التي ضربت البلاد وقادت لمجاعة في أجزاء واسعة بالشرق والغرب ووصلت المسغبة بالجائعين أن فتشوا بيوت النمل بحثا عن حبات ذرة أو دخن ليسكتوا جوعهم.
انطلقت شرارة الانتفاضة في 26 مارس 1985م إثر مظاهرات من طلاب جامعة امدرمان الاسلامية انتشرت أنباؤها بسرعة ازدادت اشتعالا في اليوم الثاني بعد أن انضم لها مجموعات أخرى وتم التعامل مع المظاهرات باعتبار أنها حركة تخريبية باستخدام الرصاص. ويرى البعض وبينهم البروفسير سليمان ابوصالح أحد أبرز قادة الانتفاضة أن نميري ونظامه كان أشبه بقصة نبي الله سليمان وأن نظامه كان منتهياً ولذا لم يكن مستغربا على الاطلاق أن يسقط في عشرة أيام في الوقت الذي كان نميري مستبعدا تماما أمر إزاحته من السلطة فقد صرح لإذاعة"صوت أمريكا" في 5 أبريل 1985م قائلا : " مافي زول بيقدر يشليني" لكن الوضع كان خطيرا للغاية، خاصة بعد اتساع موجة التظاهرات واشتداد الاضرابات وتنامي حركة العصيان المدني ولم يكن هناك مفر من تدخل الجيش وفي 6 ابريل 1985م أذاع الفريق أول عبدالرحمن محمد حسن سوارالذهب (البيان الاول) معلنا الاستجابة لمطالب الجموع الثائرة مؤذنا بظهور كلمة (النهاية) على حقبة نميري في الحكم وإشراق عهد جديد تنسم فيه الشعب عبير الحرية.
وشهد عام 1999م عودته الى الخرطوم منهيا (15) عاما في المنفى بقصر (الطاهرة) في مصر الذي كان سكنا قبله لإدريس السنوسي حاكم ليبيا الذي أطاحت به ثورة الفاتح بقيادة العقيد القذافي، وتناقلت وسائل الإعلام مشهدا له وهو يسجد على أرض مطار الخرطوم فور هبوطه من الطائرة، وقبلها كانت الإنقاذ قد ناصبته العداء بل وسخرت منه سخرية مريرة بقولها في وصفه "سبحان من يحي العظام وهي رميم "حنقا على ظهوره ضمن جوقة السودانيين الذين ذهبوا لتهنئة حسني مبارك بنجاته من حادثة الاغتيال التي دبرتها دوائر في حكومة الإنقاذ في منتصف عام 1995 بأديس أبابا، ثم مكث في وسط اهتمام ضئيل. وفيما بعد قرر الترشح لرئاسة الجمهورية مع آخرين بينهم الرئيس البشير في انتخابات وصفت ب(المهزلة).
إلا أن دوره الشائن في ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل في عمليتي "موسى" و"سبأ" تحت إشراف ضابطين رفيعين بجهاز الامن السوداني يبقى خطيئة لا تغتفر. ويلخص زعيم حزب الأمة الصادق المهدي في حديث ل "الشرق الأوسط" مسيرة نميري قائلا :" إنه حاول أن يلعب على كل الأوراق لأنه أصلا فارغ من أي مضمون أيديولوجي فأصابته موجة الانقلابات العسكرية التي اتسمت بها الدول العربية وقادها من يسمون أنفسهم بالضباط الأحرار، فجاء على رأس الشيوعيين واختلف معهم وعاملهم بوحشية واستهدى بمصر الناصرية ثم مصر الساداتية ولجأ إلى الغرب وحاول أن يصالح الأحزاب وفشل، وهذا ما دفعه إلى ولوج خط الإسلام بصورة لا تراعي ظروف السودان، فوقع الاستغلال المتبادل، حيث كان يحتاج إلى فكرة وهم يحتاجون إلى واجهة، ولكن في خاتمة المطاف فشل التحالف مع الإسلاميين فدخل في صدام مع النقابات والأحزاب، فأسقطه الشعب عبر الانتفاضة ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.