قرأت مقالة الدكتور/ عوض عارف الركابي, في موقع سودانايل, و هو يتحدث عن ضرورة إنشاء مدرسة ثانوية في بلدته ( العفاض) في الضفة الشرقية للنيل بريفي الدبة. و علل طلبه أن بعض تلاميذ المنطقة يضطرون إلي السفر للدراسة في مدرسة رومي البكري الثانوية , بمحافظة دنقلا, و هي مدرسة حديثة النشأة و يتوفر فيها السكن الداخلي. و أن بعضهم لا يقدرون علي تحمل تكاليف السفر و الدراسة بسبب ظروف أهلهم, و بالتالي يتركون المدرسة و يعملون في الزراعة ويضيع مستقبلهم . يحدث هذا في حين أن مدرسة الدبة الثانوية , تقع علي مسافة قريبة من العفاض. و هي مدرسة عريقة, لكن لا يوجد بها حالياً سكن داخلي للتلاميذ الذين يأتون من القري المجاورة للدبة. يدل هذا الوضع علي خطأ السياسة التعليمية في بلادنا,إذ يتم إنشاء مدارس و كليات جامعية, دون أن يتوفر لها الإستعداد الكافي لتقوم بمهمة التعليم علي النحو الذي ينبغي, إذ يتم إفتتاح مدرسة في الجهة الفلانية, لكن لا يتوفر فيها القدر الكافي من المعلمين. و يتم إفتتاح أخري, لتخدم منطقة معينة, لكن لا يتوفر فيها السكن الداخلي, فتضيع الجهود سدي, هنا و هناك و تكون المحصلة بالسالب. حدثني زميل لي , من أبناء منطقة السكوت, أنهم لم يدرسوا في السنة الأولي الثانوية في مدرسة عبري الثانوية , غير حصة واحدة في الفيزياء, لعدم وجود معلم للفيزياء في هذه المدرسة. كان ذلك في بداية التسعينات الماضية. هذا و غيره من صور التدهور الذي لحق بالتعليم في بلادنا, و في الشمالية علي وجه الخصوص. كم هو مؤسف, أن يلغي السكن الداخلي في مدرسة عريقة, مثل مدرسة الدبة الثانوية و التي تعد مركزاً لريفي الدبة منذ قديم الزمان. و يبدو أن سياسة التوسع في التعليم العالي, أثرت علي الميزانية المخصصة للسكن الداخلي للتلاميذ, فكان أن أغلقت الداخليات هنا و هناك. لقد تم إفتتاح مدرسة الدبة الثانوية في عام 1969م, في مباني مؤقتة, ثم إنتقلت إلي مبانيها الحالية في منطقة ( اللاوري ) في الطرف الجنوبي للدبة. كان أول مدير لهذه المدرسة, هو الأستاذ/ علي أبو الزين. كان رجلاً طيب القلب. و يقال أنه أتي بطرفة, أو أخطأ خطأ إدارياً فادحا ذات يوم. كان طلاب المدرسة قد أضربوا عن دخول الفصول, بسبب رداءة الطعام, و ذلك في بداية السبعينات الماضية. جمع المدير طلابه و خطب فيهم بلغة عربية فصحي قائلاً : يا أبنائي إذا كان الطعام رديئاً, إذن فليحمل كل طالب متاعه و يسافر ليأكل الطعام الجيد مع أهله. وجدها الطلاب فرصة, فحمل كل طالب شنطته و توجهوا إلي محطة الباخرة و موقف الباصات. أدار المدرسة بعد ذلك , الأستاذ الشاعر/ أبوالقاسم عثمان, و هو من أوائل خريجي دارالعلوم في مصر. و هو شاعر له شعر جميل. و هو من أبناء الخرطوم القديمة و لم يسافر إلي جهة داخل السودان قبل مجيئه إلي الدبة. و يقال أنه نقل إلي الدبة تأديباً له. كانت الدبة بلدة صغيرة في أوائل السبعينات الماضية, و لا تتوفر فيها بعض الخدمات التي تتمتع بها المدينة. تضايق هذا الأستاذ مما عده قسوة للحياة في الدبة, و عبر عن ذلك بشعر جادت به قريحته, إذا كتب قصيدة طويلة هجا فيها الدبة و أهلها, رغم أن أهلها أناس كرام. ثم غادر الدبة إلي بلده الخرطوم. و يبدو أنه تأثر بما حدث له من تأديب إداري و من ثم كتب تلك القصيدة التي تضايق منها أعيان الدبة. ذاع خبر القصيدة بعد حين. علق يومها عيسي طه, سر تجار الدبة ووالد سيد عيسي , صاحب محلات المسرة للأقمشة في السوق الأفرنجي في الخرطوم قائلاً : ود العفنة رجع لي أصلو ... يمين إن لمينا فيهو نخلي ريحتو طير طير! و مقابل هذا عمل معلمين مصريين في هذه المدرسة لسنين طويلة, و هما سعيد بونجور, مدرس الفرنسية و جورج مدرس الفيزياء. كانا لا يفترقان و هما في طريقهما إلي المدرسة أو إلي السكن في وسط البلد . و الأخير قضي 13 سنة متصلة. و لما سألوه عن سر بقائه كل هذه المدة , قال : ما دام توجد حياة و يوجد بشر, إذن ليس هناك مشكلة. ثم تتابع مديرون آخرون علي هذه المدرسة, و كل وضع بصماته في إدارتها. و أيام دراستنا ( 75- 1978م ) عاصرنا المرحوم الأستاذ/ عكاشة أحمد علي , و هو من أبناء دلقو المحس. كان رجلاً يتمتع بشخصية قوية, و تطورت المدرسة في عهده, إذ تم مد المدرسة بالماء عن طريق حفر بئر إرتوازي, بعد أن كان ينقل الماء من النيل عن طريق الدواب مرة و عن طريق الكومر أخري. و تم بناء سور للمدرسة و الداخليات, ثم إنارتها بالكهرباء , لكن بعد أن تخرجنا و كنا نذاكر دروسنا في ضوء الرتاين. كما تم بناء مسجد في طرف المدرسة. كان عكاشة يرحمه الله إدارياً فذاً, و إن كان يعاني من شئي من الحمق. كان حين يغضب ينعت تلاميذه بنعوت , يلتقطها زملاءهم و يلقبونهم بها. و من ذلك أن عكاشة كان هائجاً ذات يوم. مر أحد التلاميذ أمام مكتبه, فناداه : تعال هنا... متسيب ليه و كمان لابس سفنجة... كريمنال! منذ ذلك اليوم , أطلق التلاميذ علي ذلك الطالب المسكين, لقب ( الكريمنال)! كانت الدبة الثانوية تقبل كل طلاب ريفي الدبة, إضافة إلي جزء من طلاب ريفي دنقلا و المحس و السكوت حتي حلفا و معها مدرسة كورتي الثانوية و كانتا المدرستين الوحيدتين في ريفي الدبة. إضافة إلي مدرسة الغابة العربية ( 53 – 1973م ) و مدرسة تنقسي الجزيرة العربية ( 52- 1970م ) و كانتا ضمن مدارس البعثة التعليمية العربية في السودان و تم تصفيتهما في النصف الأول من السبعينات الماضية. كانت مدرسة الدبة الثانوية تتمتع بمستوي جيد و خرجت المدرسة نخبة مميزة في مختلف التخصصات. و تم فتح فصل للرياضيات الإضافية لدفعتنا و لأول مرة في تاريخ المدرسة. تم هذا بفضل أساتذة مقتدرين, أذكر منهم حسن عوض و الملقب بحسن تحليلية, نسبة إلي الهندسة التحليلية و قيل أنه كان يحفظ جدول اللوغريثمات. ذاك زمان, كان للوظيفة إعتبارها و للمعلم رسالته السامية , مقارنة بهذا الزمان الذي صار يدفع فيه الخريجين دفعاً ليؤدوا الخدمة الإلزامية في المدارس. هذا إتجاه خطير لو إستمر, سيؤدي إلي إفراغ العملية التعليمية من معناها , بإعتبارها رسالة, قبل ان تكون وظيفة يقابلها راتب و مزايا أخري. لقد أصيب التعليم بهزة عنيفة في السنين الأخيرة, بسبب التوسع غير المخطط للمدارس و ما ترتب عليه من ضغط لميزانية التعليم, لدرجة أن بعض المدارس أغلقت سكنها الداخلي في وجه الطلاب , و بعضها تعاني عجزاً في المعلمين كما أشرنا و أخري صارت تعجز عن توفير الوسائل التعليمية البسيطة و منها الطباشير, فيضطر الأهلين بالإستنجاد بالمغتربين لمدهم بالعون اللازم. لكن إلي متي ستسير العملية التعليمية علي هذا النحو؟. لابد من إعادة النظر في هذا الإسلوب , إن أردنا أن نخرج طلاباً بمستوي جيد يمكنهم أن يساهموا غداً بفعالية في إدارة شئون البلد. رشيد خالد إدريس موسي [email protected]