المراقب العادي للساحة السياسية السودانية، يجد أن جزءً كبيراً من الزخم حول عراب الحركة الإسلامية، والمهندس الأول لما يعرف في أدبيات الحركة الإسلامية بثورة الإنقاذ الوطني، الشيخ حسن الترابي، مرتبط في الأساس، بالطريقة التي يعتقل بها الترابي، والتصريحات التي يدلي به بعد إطلاق سراحه، وذلك بالطبع بعد المفاصلة الأشهر في تأريخ الإسلاميين السودانيين، وتنصيبه - وهو من كان والدهم (سياسياً) في السابق – زعيم المعارضة، للنظام الذي ما أنفك يتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية، التي يعتبر هو تحديداً من أبرز منظريها عالمياً وإقليمياً.. (1) سبع فترات من الإعتقال، في العقد الأخير من عمر السياسة السودانية، الأولى كانت عقب المفاصلة وبسبب توقيعه لمذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية التي يقودها الدكتور جون قرنق في ذلك التوقيت، والثانية كانت بسبب تصريح أطلقه بخصوص دارفور، وتصفية أبنائها سياسياً داخل الحكومة، وكانت ما يسمى بالمحاولة التخريبية هي السبب الثالث لاعتقاله، وللمفارقة كانت هنالك محاولة تخريبية ثانية، أعتبرت سبباً كذلك لحبس الرجل المُسن لمرة رابعة، وخامساً قضى يوماً في اليوم الثالث، من دخول حركة العدل والمساواة، بقيادة خليل إبراهيم، إلى ام درمان، فيما عُرف عند خليل وأتباعه بعملية "الذراع الطويل"، ومن ثم زجّ به حديثه القانوني، فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية إلى سجن بورتسودان هذه المرة، ليقضي بها خمسون يوماً، في مرة سادسة، وأخيراً كان مخطط الاغتيالات، الذي تحدث عنه جهابذة النظام سبباً لحبسه، منذ الثامن عشر من شهر يناير الماضي وحتى الأول من أمس، وعند إجترارنا للفترة الطويلة التي أمتدت لسبعة أعوام قضاها حبيساً في سجون جعفر محمد نميري، أيام حكومته في سبعينات القرن الماضي، نجد أن حسن الترابي قضى حوالي أحدى عشر عاماً ونيف في المعتقلات السياسية السودانية، وهو رقم جدير بتنصيبه الأوفر "حبساً واعتقالاً"، كزعيم حزب سياسي في السودان. (2) موضوعات كثيرة، وتصريحات في كل ما يتعلق بأمور السياسة والدين، أطلقها حسن الترابي من منزله بالمنشية، عقب ولوجه إليه مباشرةً، قبل ان يصافح أهله، وحتى قبل أن يشرب كوباً من الماء ببيته، يستعيد به بعضاً من عافيته وصحته، التي راجت أنباء عن تدهورها أثناء فترة حبسه، فالصحفيون ووكالات الأنباء المحلية والعالمية، كانوا بالمرصاد له، حتى أن أحفاده كانوا يأتون ليجلسوا بجواره أثناء هذه الأحاديث الصحفية، التي قاطعتها كذلك هتافات مريدي وأنصار الشيخ، التي أعادت إلى الأذهان السيرة الأولى لنظام الإنقاذ، الذي خرج من سجنها تواً، ولكن هذه المرة كانت شعارات "هي لله هي لله"، تخرج مشددةً على هزيمة تلقتها الإنقاذ الحالية، وانتصار على أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، وذلك وسط حضور مميز لأعداء الأمس وحلفاء اليوم، في مقدمتهم الأستاذ فاروق أبو عيسى، عضو هيئة التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، وقيادات حزب البعث العربي الإشتراكي، صاحب المرارات الأشهر مع الإنقاذ الأولى، إلى جانب، إبنة الصادق المهدي، والقيادية بحزب الأمة القومي، ورهط من أعضاء حزب المؤتمر الشعبي المعارض، على الرغم من أني، أجزم أن أية سودانية أو سوداني بسيط، قذفت به الصدفة إلى مكان قريب لمنزل الترابي، كان سيظنن، وبعض الظن إثم، أن الحكومة كلها في هذه المنزل، في ذلك التوقيت. (3) أسباب إعتقاله في هذه المرة، والتغييرات التي شهدتها المنطقة عقب الانتفاضات الجماهيرية، وتوابعها من أحداث إقليمية، وتكتيكات حزبه وحلفائهم في المرحلة المقبلة، واغتيال أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، في ذات يوم إطلاق سراحه، وحوارات الإسلاميين، وأشواقهم للتوحد، وخلافات قيادات المؤتمر الوطني، وخروج صلاح عبد الله قوش من حلبة السياسة السودانية، إلى جانب تصريحات مساعد رئيس الجمهورية نافع علي نافع، عن اعتقاله وعدم إطلاق سراحه، بالإضافة إلى جزئية يبدو أنها حُشرت حشرأ، تتعلق بدراسات دينية، أو للدقة قرآنية، عمل عليها الرجل أثناء فترة إعتقاله السياسي هذه، كانت أبرز الموضوعات التي قال فيها رأيه، وكعادته بسخرية وجُرأ تخُصانه، يُحرك ببعضها مياه الأحداث السودانية، ويدفع بالبعض إلى الصفحات الأولى من الصحف رداً عليه، وتمحيصاً في الصفحات الداخلية لمقولاته وتصريحاته الطازجة من البعض، وهو ما يتكرر مع أختلاف التواقيت والأحداث، عند خروجه من المعتقل، أو كما يحب مُريديه وبعض المقربين إليه، تسميتها ب"الخلوة"، إيماناً منهم بالدور الديني له، والأفكار والقراءات التي يخرج بها، وينفثها هواءً ساخناً لتحريك الجمود، من أجل التجديد والتحديث، حيث يراه الكثيرون، وغير بعيد منهم يعتبره البعض مهرطقاً وزنديقاً، وشيطاناً يشوه وجه الإسلام بفتاويه وتنظيراته، وجميعهم في نهاية المطاف، يندرجون تحت القائمة الطويلة، التي عنونها جماعة العلوم السياسية ب"الأسلامويين". (4) لم يتواني لحظة، في تنصيب نفسه زعيم حركة التغيير السودانية، وقائد الثورة التي ستطيح بالنظام الحالي، إن هي حدثت، عندما رد سريعاً على سؤال حول مخطط الاغتيالات الذي تحدثت عنه الحكومة، مبرراً لحبسه، فقد قال بكل ثقة: "أنا أغتال نُظم وليس أشخاص"، وللمقولة دلالات كثيرة، فهو يرى في نفسه أنه مُحرك، وقائد ثورة سودانية ستطيح بالإنقاذ، التي شهد منزله التخطيط لها، والثورة ذاتها وجد في سياق متصل أنها تحتاج إلى "تدبر"، في إشارة إلى التركيبة الإجتماعية والسياسية السودانية، والأحداث التي أدت إلى تغييرات جوهرية في هذه التراكيب، منبهاً إلى ضرورة تنظيمها بحيث لا تتسبب في تدمير البلاد، وإحداث نتائج كارثية، موضحاً أن ثورتي أكتوبر وأبريل، كانتا في ظروف مختلفة، وزاد: "السودان هو مجموعة قبائل وجهويات تمثل الخطر الداهم على ما تبقى من وحدته"، معتبراً أن احتمالات الفوضى في السودان أكثر من أي بلد عربي، مؤكداً على أن خطهم السياسي للمرحلة القادمة، يظل كما هو مُعلن منذ فترة سابقة، وهو إسقاط النظام، لافتاً إلى إلتفاف قوى المعارضة جميعها حول هذه الوجهة، فيما عدا منظومة وحيدة – أمسك عن الإفصاح عنها – أوضح أنها تتأرجح بين خندقهم هذه، وخندق الإنقاذيين "المؤتمر الوطني الحاكم". (5) مسألة أخرى وضع الرجل شخصه مركزاً لها، حيث أنه في وقت وصف فيه حوارات الإسلاميين التي تحدثت عنها الصحف خلال الفترة الماضية، وأفتراضات توحدهم من جديد، بأنها حوارات أفراد وليست حوارات مركزية، وضع ذاته مركزاً لها حينما زاد أن: "بعضهم ما زالت قلوبهم مع الترابي"، وعلى الرغم من أنه ذهب أكثر من هذا عندما أفترض أن المتوسدون على مكاتب الحكومة، قلوبهم مع حزبه، وليست مع الحكومة، على حد تعبيره، إلا أن مركزية حوارات الإسلاميين التي تلبسته في تلك اللحظة، تجعلنا نراه ينصب نفسه كذلك "ضمنياً"، موحد الإسلاميين السودانيين، وعند النظر إلى ما أورده في تعليقه على الانتفاضات الجماهيرية الإقليمية، ودور الإسلاميين فيها، وانتصار المفاهيم الديمقراطية، إلى جانب الدور الذي قال أنه بصدد لعبه في اليمن، نسبةً لعلاقته الوطيدة برئيسها، ومعارضتها كذلك، وذلك خلال جولة له يطوف خلالها على العالم المجاور قريباً، ويلتقي بالإسلاميين، تقودنا إلى فرضية وحيدة تجلت من خلال أحاديثه هذه مجتمعة، الشيخ حسن الترابي، هو موحد الإسلاميين السودانيين، وقائد ثورة سودانية "متدبرة" جيداً بحيث لا تفضي لحدوث كوارث، وفي ذات الوقت تحدث تغييراً "سياسي شامل"، ويفهم من السياق أنها ثورة إسلامية في المقام الأول.! (6) "أعرفه جيداً، قلبه ليس بزيئ كلسانه"، هكذا وصف نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهورية، وأكتفى فقط بهذه الجملة رداً على التصريح المنسوب للأخير، الذي أوردته إحدى الصحف الالكترونية، التي أوردت على لسان نافع، أنه قال: "الترابي لن يخرج من المعتقل إلا على ظهر عنقريب"، وهو ما نفاه نافع في الأيام التي تلت هذا الخبر، ويذكر أن هذا التصريح كان قد تزامن مع نقل الترابي إلى المستشفى بعد أن ساءت حالته الصحية، بحسب بعض الإفادات من أقاربه والجهات الرسمية، ولكني لاحظت أمس الأول، أن الرجل الثمانيني وقف على قدميه لما يقارب النصف ساعة، أو تزيد، متحدثاً لوكلات الأنباء والصحفيين.! (7) لم يندهش فيما يبدو من الحدث الأكبر الذي تحاول كبريات الصحف هذه الأيام البحث عن مسبباته وتداعياته، وعبّر صراحةً عن عدم استغرابه لاقالة صلاح عبد الله قوش، مشيراً إلى أن المستشارية التي كان يقودها قوش، كانت ميزانيتها خارج الموازنة العامة، معتبراً أنه سبباً رئيساً أحدث الخلافات على كابينة القيادة بالمؤتمر الوطني، لافتاً في ذات السياق إلى تعدد صلاحيات قادة الحكومة والمسئولين فيها، مردفاً أن: "المسئولين الحكوميين يضعون القوانين ثم يتجاوزونها لإثبات أنهم فوق القانون"، معتبراً أن صراعاً بين "طاغيتين"، في إشارة إلى نافع وقوش، كانت محصلته النهائية مغادرة الأخير لمنصبه، على حد وصفه، مبيناً أن "الطغاة" يريدون دائماً السيطرة على شئ. (8)
على الرغم من أنه قال إن اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، يحزن كل العالم الإسلامي، "لأنه مسلم رغم ما بيننا وبينه من خلاف"، ووصفه بالشهيد قائلاً "إن أسامة آثر أن يموت شهيداً، بدلا من أن يعتقل ويذل"، أكد كذلك إنه يختلف تماما مع بن لادن لاتخاذ الأخير في برنامجه "سياسة إيذاء الآخرين وقتلهم بلا ذنب"، مضيفاً أن "سياسات بن لادن أثرت على المسلمين وأضرت بهم ضرراً بليغاً"، ولم يجد الترابي بن لادن مختلفاً معه في شأن إسلامي كما يبدو، وقد قال بكل ثقة: "هو ليس فقيه"، أي أنه لا يصل لدرجة أن يختلف معه، كما وأنه كذلك أشار إلى ما أعتبره قصوراً نظرياً صاحب تجرية القاعدة كتنظيم، حيث لفت إلى أن "الثورات العربية تجاوزت تنظيم القاعدة وبن لادن، لأن الشعوب قررت أن تمارس وعياً دون قتل وإرهاب". mohmed hilaly [[email protected]]