في لحظة من لحظات التاريخ .. استهوتني وظيفة هندسية قيادية في مؤسسة دستورية مرموقة .. كان الإعلان في الصحف السيارة (إعلان الله والرسول) .. تقدمت بأوراقي .. ثم تم استدعائي للمعاينة .. وكان (المعاينون) صادقون مع أنفسهم ومعي حين قالوا لي: (لماذا وأنت بهذه المؤهلات تريد التقديم لوظيفة حكومية) .. كانت إجابتي مقنعة .. يتكون جزءها الأول من عنصر حقيقي ملخصه أن الإنسان في الوظيفة العامة يشعر بأنه (زول ليه قيمة) ويعمل من أجل الآخرين .. والجزء الثاني من الإجابة كان عن خبرة (خمسين عاماً) في التعامل مع هكذا أسئلة. وتم تعييني .. وصدر خطاب التعيين (أهم وثيقة في دنيا الميري) .. مهندس بالدرجة الخامسة يبلغ جملة راتبه ثمانمائة وخمسون جنيهاً (بالجديد) .. وبعد أول ثلاثة أشهر من التعيين، انتهى (الفلس) من ضرب كل قواعد الحب والوطنية و(أي زول ليه قيمة) في دواخلي .. وكان الشهر الرابع حاسماً للأمر.. وفارقتهم بإحسان. حسناً.. فإن الجميع هذه الأيام يتحدث عن الفساد والمفسدين.. ولم تفتأ القنوات الفضائية بين كل حين وآخر من كشف الأرصدة والعمليات التجارية للرؤساء والوزراء والمحسوبين في دول الثورة والتغيير .. مليارات الدولارات .. (اللهم جنبنا سخطك) .. وههنا .. في السودان .. الصحف متشوقة لمثل هذه الأحاديث .. وتتناولها بمتعة كبيرة .. وتلفّتت يميناً ويساراً فلم تجد غير مرتبات وحوافز الدستوريين المليونية .. فأنشبت فيها أظافرها .. وإن أخف ما يمكن أن تفعله هذه الأظافر في حال سلامة المبالغ منها هو جعل تلك المرتبات مجروحة .. (ملعون أبوها). يا أيها الناس .. يا مواطنى بلادي الشرفاء .. لا أظنني في حوجة لأن أقول بأن الإنسان في دول العالم النامي (زي حلاتنا) غير مقيّم .. والطبيب الذي تضيع سنوات عمره سداً بين أمهات الكتب يكون راتبه خمسمائة جنيه، والمهندس الذي يدير الدنيا ويقعدها .. يكون راتب عامل (البياض) الماهر أضعاف راتبه. أما أصحاب التخصصات النظرية والعلوم الإدارية والإنسانية (فخلوها مستورة). وعدم التقييم بطبيعة الحال ليس عن جهل أو قصد ولكنه عن فقر. كما أنني لست في حاجة لأخبركم بأن الفقر والغنى .. والشقاء والسعادة .. والحب والكره .. والموت والحياة، كلها متلازمات لهذه الحياة الدنيا .. فمنذ عهد فرعون .. كان هناك قارون الغني وبنو إسرائيل الفقراء .. وفي عهده صلى الله عليه وسلم، كان هناك عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وأبو بكر الصديق من أغنياء الصحابة .. كما كان هناك أهل الصفة من فقرائهم .. وفي عهدنا هذا .. تجد من يفطر بدجاجة حلالا طيبا .. ومن يتناول على إفطاره قطعة خبز جاف .. ومن لا يفطر البتة .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. والعافية للتقوى. يا صحافة بلادي .. كما وأنه لا يفوت عليكم بأن في بلادي من تدرج في العلم والشهرة حتى تقلد أرفع المناصب الاممية وشغل المناصب التنفيذية في بلاد الدنيا .. والأمثلة كثيرة، وهناك من كانت مشيئة الله فيه أن يكون من زمرة الفقراء .. يأكل من عمل يده .. ورزق اليوم باليوم (حامد شاكر) .. وكل ميسر لما خُلق له. والأمر كذلك، فإنه من المشهور أن من يتقلد وظيفة الوزارة وهي وظيفة دستورية بطبيعة الحال، لا بد أن يكون ذا قدرة عملية وعلمية ومهارات شخصية وتجربة عامة تؤهله لهكذا منصب، كما أن وظيفة الوزارة من أصعب الوظائف لأنها تستهلك كل زمن المرء وتحرمه من خصوصية وجوده مع أسرته .. وقد علمت بأن الدكتور الخضر والي الخرطوم قد أقام مكتباً في صالونه بالمنزل .. وفوق ذلك .. هو لا يستطيع أن يدخل السوق ليأكل من خشاش الأرض كما نفعل أنا وأنت إن احتاج أحدنا لأن يكمل وجبات عياله أو مصاريف مدارسهم .. لكل هذا فإن ما يتقاضونه من راتب فإنه يكون شحيحاً مهما عظم في الأعين. فما تعني آلاف عدة يتقاضاها أحدهم .. يضيع نصفها في الصرف على منزل لا يخلو من الوفود والضيوف أبداً مما هو في متطلبات الوظيفة العامة .. وهل تكون سيارة إضافية للمنزل ميزة مقابل حرمان تلك الأسرة من مجرد رؤية ربها و عائلها لأيام وليال إلا لماها .. إنها إذاً لقسمة ضيزى. إني لأرجو أن تترك الصحافة مرتبات الدستوريين في حالها .. بل وتطالب بتحسينها .. فلماذا يكون راتب رئيسنا ثمانية آلاف جنيه .. ولماذا يكون راتب الوزير أدنى من ذلك أو أعلى قليلاً .. وما تعني تلك الأرقام حتى وإن كانت مضاعفة. الأجدى من كل ذلك تصويب السهام نحو هدفها الصحيح .. ونصيغ السؤال صياغة صحيحة. فبدلاً من أن نسأل عن مبلغ راتب الوزير .. يجب أن يكون السؤال: هل تتوافق مقدرات ومؤهلات الوزير أو المسئول أو المدير مع ما يتقاضاه من راتب؟!. هذا .. وإلا .. فإن ما تخافون منه يمكن أن تفعلونه بأقلامكم تجاه الرواتب .. فتكون ضعيفة لا تسمن و لا تغنى من جوع .. فلا يوافق بعدها على تقلد المنصب الدستوري إلا فاسد معلوم الفساد .. (باركوها يا جماعة).