[email protected] ------------------- (1) قبل أسابيع تابعت على الشبكة الدولية معركة حامية الوطيس دارت رحاها في سماء الأسافير بين عدد من أفراد عشيرتي من النوبيين. قرأت في أتون المعركة كلاماً عن شخص وردت صفته واسمه على النحو التالي: )الخائن العميل محمد داؤد(! ثم قرأت مرسوماً ثورياً بفصل هذا الخائن من عضوية جماعة تسمي نفسها "حركة تحرير كوش المسلحة". حاولت تقصي حيثيات تهمة الخيانة، فعرفت من خلال المعلومات التي قدمها رجال الحركة المسلحة أن الخائن سافر من مقر إقامته في دولة أوربية الى الخرطوم، وهناك أقام في فيللا فاخرة، وكان يتنقل في سيارة ليموزين وفرهما له - الفيللا والليموزين - جهاز الأمن والمخابرات. ثم إنه شوهد بالعين المجردة وهو يجالس ويحادث مسؤولاً إنقاذوياً اسمه "سلاف الدين صالح"، فثبتت عليه تبعاً لتلك الحيثيات تهمة الخيانة العظمى، ووجب عليه "الحد" الشرعي الثوري الكوشي. من بين الأدلة على خيانة الرجل، بحسب الحركة المسلحة، دليل أنتجه السؤال التالي الذي ظل الحركيون المسلحون يصوبونه الى صدره باستمرار: (كيف استطعت أن تسافر الى الخرطوم، ثم تركك جهاز الأمن في حالك دون أن يعتقلك، بينما أنت عضو في حركة مسلحة تحارب الحكومة؟!) تم إبراز هذا "الدليل" وتعظيمه بصورة حاسمة وجازمة، وكأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه. حمدت الله أن القضاة لم تكن لديهم سلطة إصدار وتنفيذ حكم الإعدام الفوري في الميدان الإسفيري. من جانبي لم أرَ في الأمر ما يصلح دليلاً ضد الرجل، بل وعلى العكس بدا لي منطق المساءلة والاتهام معكوساً. المجرم الخائن ذهب الى السودان، ولم يُلقِ رجال الأمن القبض عليه. فهل يُلام هو، أم يلام رجال الأمن؟ شيء عجيب والله! ولكن لا بأس. كل حركة مسلحة حرة في منطق ومنهج محاسبة أعضائها؟! (2) استمات الخائن في الدفاع عن نفسه، فذكر أنه سافر لشأن عائلي، وأنه لم يسكن في فيللا، وإنما أقام في منزل متواضع لأحد أقربائه بحي جبرة الشعبي. وقد شعرت في بادئ الأمر بشيء من التعاطف مع هذا الخائن. ولكنه فقد تعاطفي كلياً، وسقط من نظري تماماً، حين أضاف انه لم يركب سيارة ليموزين طوال حياته، بل أنه فقط استأجر لقضاء حاجياته في الخرطوم سيارة كورية من طراز "آكسنت". سيارة الآكسنت هذه - أعزك الله - تشبه علبة الكبريت. لا بد أن تكون في حجم البعوضة، وربما أصغر قليلاً، حتى تستطيع أن تدخل وتستوي داخلها. لو كنت في مكان هذا الخائن لرضيت بتهمة الخيانة، واعترفت على نفسي بأنني كنت أسكن إحدى الفيلل الرئاسية، وكنت أجوب شوارع الخرطوم متمدداً داخل ليموزينات جهاز الأمن والمخابرات، بدلاً من أن أقر على رؤوس الأشهاد بأنني أركب سيارة آكسنت. يا للعار. أذكر عندما قامت طائرة الميركافا الإسرائيلية بقصف سيارة تقل عملاء مفترضين لحركة حماس في مدينة بورتسودان قبل شهرين، أن الأخبار التي تناثرت في البداية ذكرت أن السيارة المقصوفة كانت من طراز آكسنت. استحقرت حركة حماس، وقلت في عقل بالي: ربما كان هؤلاء يستحقون القصف! هل هناك عميل محترم يركب آكسنت؟! العملاء في كل بلاد العالم يركبون الهامر واللامبورجيني. ولكن الأخبار اللاحقة كشفت أن المعلومات الأولية لم تكن دقيقة، وإنما كانت سيارة عملاء حماس المفترضين من طراز هونداي سوناتا. السوناتا سيارة محترمة نوعاً ما. ولذلك قمت هذه المرة، وفي ضوء المعلومات المستجدة، بالترحم على الضحايا، وقرأت عليهم سورة الفاتحة بإخلاص شديد. (3) وقد طارت نفسي شعاعاً، وانزعجت غاية الانزعاج، وأنا أُطالع في حيثيات إدانة المذكور تلك التهمة المتعلقة بمجالسته ومحادثته القيادي الإنقاذوي سلاف الدين صالح. لم أكترث لدفاع المتهم الخائن الذي يبدو أن لقاءه بالقيادي الإنقاذوي كان شبيهاً في ظروفه وملابساته بلقاء الإمام الحبيب الصادق المهدي بالرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في مؤتمر مدريد قبل سنوات. ولكن مصدر الانزعاج بالنسبة لي يكمن في أن الدكتور سلاف الدين صالح قريبي، ويمتُّ لي بصلة دم وثقى. هو بالفعل من قيادات نظام الإنقاذ، وقد تولى في حكوماتها مناصباً متعددة. وأنا بحكم الصلة الأسرية ألتقيه بالضرورة عندما أذهب الى السودان. يا للهول. ماذا أفعل الآن؟! لم أكن حتى ساعة وقوفي على المعركة الإسفيرية المسلحة أعرف أن الصلة بالدكتور سلاف الدين ومجالسته ومحادثته مرادفة للخيانة العظمى. هب أنني عند زيارتي المقبلة حرصت على تجنب اللقاء به دفعاً لتهمة الخيانة، ماذا سيكون موقفي لو بادر هو بزيارتي؟ هل أقفز عبر الحائط الى منزل الجيران؟! غير أن نفسي ثابت الى شيء من الراحة والسكينة بعد أن تحادثت في الأمر مع صديقي الكاتب الصحافي محمد عثمان إبراهيم واستأنست بعقله الناضج ورؤيته الثاقبة. طمأنني صاحبي بأن الأمر ليس على تلك الدرجة من الأهمية. قال بلكنته الهدندوية: "ما تخاف. إنت منزعج ليه؟ أنت لا فى عير الحكومة ولا فى بعير المعارضة. وبعدين إنت فاكر نفسك فيصل محمد صالح ولاّ أمل هباني؟ إنت أساساً سُمعتك في أوساط المعارضين زي الطين والقطران، ورصيدك من النضال صفر. وبعد سجلك المخزي في الانصراف عن قضايا الشعب ودفاعك عن الطغاة والمستبدين كل المناضلين والثوار رموا طوبتك، وعدوك في زمرة الخونة الذين باعوا القضية. والاحتمال الأكبر أن يكون الدكتور سلاف الدين نفسه هو الذي يخجل ويستخزي من التصريح بمعرفتك والإقرار بأن هناك صلة دم تجمعكما، وليس العكس"! استمعت الى دُرر صاحبي ونصائحه الغالية، وهي تتهادى عبر المحيطات، بهدوء شديد، وعقلتها تماماً. نعم، لا داعي للقلق. وقديماً قال حكماء السودان: "إذا غلبك سدّها، وسّع قدها"! (4) من خلال متابعة بعض جوانب المعركة الإسفيرية عرفت أن حركة تحرير كوش تصف نفسها بأنها "تنظيم نوبي مسلح" يهدف الى تحرير النوبة في شمال السودان. ولم أكن قد سمعت قبلاً بوجود هذه الحركة التحريرية المسلحة. شعرت بالخجل يغمرني من قمة رأسي الى أخمص قدمي. هل يعقل أن أكون، أنا الذي أتفاخر بانتمائي النوبي بسبب وبغير سبب، آخر من يعلم عن حركة فدائية باسلة مثل هذه، هدفها أن "تحررني"، وتحرر أهلي؟! استخرت الله، ثم عزمت على التطوع في صفوف المقاتلين في معركة تحرير الشعب النوبي. ثم شرعت في السؤال والتقصي عن الحركة المسلحة وقواتها ومواقعها ومعاركها. قادني البحث الى اكتشافات باهرة لم تكن في حسباني. عرفت أن الحركة مسلحة إسفيرياً فقط. أي أنها "حركة إنترنت مسلحة". ولكنها على الأرض لا تملك بندقية واحدة، ولا ترفع سلاحاً في وجه أحد أبداً، وهي ليست على استعداد لقتل أي نفس، لأنها حركة مسلحة رزينة وعاقلة، تؤمن بحرمة القتل، وتفرق تماماً بين ان تكون حركة ذات اسم مسلح، أو ان تكون مسلحة بالفعل. أعادت قصة التنظيم المسلح الذي لا يحمل السلاح الى ذهني طرفة قديمة كان الصديق الصحافي، المغفور له محمد طه محمد أحمد، يهوى ترديدها. فحواها أن رجلاً وجد على قائمة الطعام صنفاً يحمل اسم: "الفول أبولحمة"، فطلب من النادل أن يحضر له طبقاً منه. فلما جيئ بالطعام فوجئ الرجل بالطبق أمامه ممتلئاً بالفول، ولكن من غير لحم. غضب الرجل، وحادث في ذلك صاحب المطعم، الذي رد قائلاً: "صحيح، الطلب اسمه "فول ابولحمة"، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون هناك لحم حقيقي في الفول. هذا مجرد اسم. إذا ذهبت الى أي تاجر، وطلبت صابون أبوفيل، هل سيعطيك معه فيلاً؟!". الطرفة تنتهي هنا. وقد استقر في ذهني وقتها أن المرحوم محمد طه كان يكثر من ترديدها لسبب بسيط، وهو أنها أتاحت له - بعد أن استيأس من صلاح حكم الإنقاذ - أن يضيف من عنده ملحقاً ينسب فيه الى الطرفة أن صاحب المطعم قال أيضاً: "طيب ثورة الإنقاذ دي اسمها ثورة الإنقاذ، هل أنقذت ليها زول"؟! (5) حركة تحرير كوش المسلحة، حركة مسلحة بالإيمان. وليس بالسلاح الناري. يقيم قادتها وكوادرها إقامة دائمة في القارتين الأوربية والأمريكية والخليج. في نوفمبر 2006م وجه محرر صحيفة "الأضواء" السؤال التالي الى قائد الحركة المسلحة الأستاذ عبد الوهاب المحسي: (الحركات المسلحة تبدأ بالعمل العسكري ثم يأتي التنظير لاحقاً، هل أنتم مجرد ظاهرة صوتية؟). فرد قائد الحركة: (التنظير هو التدبير الفكري والإعمال الناهج للعقل، أما النظر إلى التنظير كظاهرة صوتية لسانية فهو نظر أهوج لا يقدر متطلبات الأمور ولا ينظر إلى نهج وجود العقل في الإنسان، ولا يرى تطور العقلانية في الحياة والدين والسياسة). يا سلام. أنا أشعر بالفخر كوني سأنتسب الى هذه الحركة، وهذا هو قراري النهائي. أهم شيء عند حركتنا هو "التنظير والإعمال الناهج للعقل". نحن نختلف عن غيرنا بأننا "نرى تطور العقلانية في الحياة والدين والسياسة"، ونهتم بنهج "العقل في الإنسان". وهكذا تكون الحركات المسلحة العقلانية. نحن مثل الفرنسيين في الرقي والحضارة. سُئل فنان فرنسي عن السبب في أن الفرنسيين لا يحملون السلاح، ولا يثبتون عند الحرب، ولهم تاريخ حافل في الاستسلام الفوري أمام أي قوة غازية. رد: "لأننا شعب مهذب، شعب راقٍ، نكره الموت ولا نحب القتل، بل ونحتقر المقاتلين". وهنا يكمن سر العلاقة الخفية والتواصل الروحي الداخلي بين الشعب النوبي والشعب الفرنسي، وينبلج التفسير التاريخي لكون النوبيين عندما علموا بخطة بناء السد العالي وتهجيرهم الى خشم القربة كان أول هتاف لهم هو: "حلفا دغيم ولا باريس". والإشارة هنا واضحة الى التوأمة الروحية والتوافق الحضاري بين النوبيين والفرنسيس. (6) لن أدخر وقتاً فأعلن من فوري انضمامي الى حركة تحرير كوش المسلحة. وبصفتي كادراً تنظيرياً، من المؤمنين بمبدأ "الإعمال الناهج للعقل"، فستكون أولى مساهماتي وطروحاتي أمام المؤتمر العام للحركة هو الدعوة الى انفصال النوبة السودانيين عن السودان قولاً واحداً، وانضمامهم الى إخوانهم من نوبة مصر. فنحن ننتمي الى بعضنا البعض انتماء أصل وكيان. وسيؤدي ذلك بإذن الله الى استقواء الجسم النوبي وحيويته وعافيته ووحدته. ثم نناضل معاً لتحقيق الاستقلال لدولتنا النوبية المشتركة ذات السيادة. وسيكون في هذا خلاصنا النهائي و(تحريرنا) من ظلمات الإنقاذ وعسفها وشريعتها فى السودان، وغطرسة الدولة المصرية ومصادرتها لحقوق النوبة في مصر. وسأتولى من جانبي، بالتضافر الوثيق مع جميع الأحباب من النوبيين الأمريكيين بالمدن الأمريكية المختلفة، اتخاذ جميع ما يلزم من خطوات لتأمين اعتراف حكومة الولاياتالمتحدة بدولتنا. ولا أستبعد أن يتم اختياري وتعييني من قبل إدارة الرئيس أوباما سفيراً للولايات المتحدة في وادي حلفا، عاصمة الدولة الجديدة. عن صحيفة (الاحداث)