بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصِغَار الذين أولمُوا الكِبَار دَرسَاً! ... بقلم: فتحي الضَّو
نشر في سودانيل يوم 10 - 05 - 2009

في خطوةٍ غير مسبوقةٍ خلخلت ثوابت راسخة في مضمار العمل السياسي، عَقَد التحالف الوطني السوداني مؤتمره العام الثالث الاسبوع الماضي...الموافق الثاني من شهر مايو الجاري، وقد تميَّز بظاهرتين فريدتين يَندُر أن تجد لهما مثيلاً في أروقة الأحزاب السياسية السودانية، الأولي: إلتزام رئيس الحزب عبد العزيز خالد عثمان بتطبيق مباديء ومعايير النظام الأساسي، والذي نصَّ على عدم تولي مقاليد منصب رئيس المكتب التنفيذي لأكثر من دورتين متتاليتين، وطِبقاً لذلك أخضع عبد العزيز نفسه لهذه القاعدة الديمقراطية وأحجم عن الترشيح لهذه الدورة. أما الظاهرة الثانية: فقد تمثلت في إنتخاب قيادة شابة من الجيل الثاني - إن جاز التعبير – أصبح بموجبها أمير بابكر عبد الله رئيساً للمكتب التنفيذي، والذي زاد عدده ليصبح ستة عشر دائرة. تلك خطوة تستحق – بلا شك - الاشادة الواجبة والمفترضة، وكان ينبغي الاحتفاء بها بصورة تليق بتفرُدِها، ولكن فيما يبدو ان زامر الحي لا يُطرب! فقد جاءت في زمن يشكو فيه السودانيون منقصات الاعلام من جهة ومنغصات السياسة من الجهة الأخرى! ولهذا لم تجد السابقة في تقديري دعماً يُذكر من القوي السياسية، ولا مؤازرة تترى من المؤسسات الاعلامية، ولكن لفت الانتباه إن قلَّة قليلة من كُتَّاب الصحف تناولوها في مقالاتهم الراتبة، وذلك ليس بغريب عليهم، إذ هم من دأب النظر للقضايا السودانية الشاملة بعين العدل والانصاف، ولا غروَّ إن حفَّزونا الآن في أن نحذو حذوهم...وعليه نسأل القاريء الكريم أن يعدَّنا في زُمرتهم، كما نسأل المولى تبارك وتعالى أن يغمرنا بفيض وطنيتهم!
لقد بات من المعلوم أن تشبث زعامات ورؤساء الأحزاب السياسية بمناصبهم، وعدم ديمقراطية الأحزاب نفسها، بالاضافة إلى ما يمكن تسميته ب (الأنانية السياسية) أي قولبة القضايا القومية في وعاء حزبي ضيق، تلك في التقدير تُعد من أهم الأسباب التي رُزِأ بها الواقع السياسي السوداني بعد الاستقلال، وشملت كل قواه الحزبية بلا استثناء، بل كانت سبباً رئيسياً في تنكب البلاد ودورانها في حلقة مفرغة أُصطلح على تسميتها ب (الدائرة الشريرة) وهي الدائرة التي تبدأ بحكم ديمقراطي تعددي ضعيف، يُفضِي إلى إنقلاب عسكري مُغامر، وينتهي بإنتفاضة شعبية لا يلبث أن يتراجع فيها سُلَّم الطموحات...وهكذا دواليك. ولهذا تجييء الخطوة التي قام بها التحالف الوطني كأحد الدروس البليغة من حزب صغير لم يتعد عمره بضع سنوات، إلى قوى ظلت تنشط في الساحة السودانية لأكثر من نصف قرن، ويحدو المرء أمل في أن يساهم هذا الدرس في تعزيز الممارسة الديمقراطية بصورة عامة، ونبذ ظاهرة أبدية الرئاسة بصورة خاصة. وفي واقع الأمر عندما رجعت بذاكرتي قليلاً إلى الوراء، أيقنت أن ذلك لم يكن الدرس الأول ولا الوحيد الذي قدمه هذا التنظيم الصغير للقوى السياسية الكبيرة...أقول قولي هذا واحسب نفسي ضمن قِلَّة قيضت لها الظروف معايشة تجربته منذ أن كان نطفة، ثمَّ بعد أن تخلقت وشبَّ عن الطوق، وبدأ مسيرته – صعوداً وهبوطاً - وكانت حافلة بأحداث جسام سارت بها الركبان، ولذا نعتقد انها تجربة تستحق التأمل والاستقراء!
لا شك أن الكثيرين يسألون أنفسهم أسئلة لم تزل تتردد دون أن تجد حظها في اجابة موضوعية...منها على سبيل المثال لا الحصر: كيف تثنى لتنظيم بذاك القدر الضئيل من الامكانات أن يشق طريقه في حقل ملييء بالالغام ووسط تحديات بالغة الصعوبة حتى كاد أن يصبح جواداً يراهن عليه الأعداء قبل الأصدقاء؟ بل لماذا هَوَت نحوه أفئدة الكثيرون للدرجة التي رأوا فيها يومذاك إمكانية وصوله لسدة السلطة بنفس الطريقة التي وصل بها ما سمى ب (جيل القادة الأفارقة الجدد)؟ كيف استطاع استقطاب قطاع واسع من القوى الحديثة وهل عبَّر فعلاً عن طموحاتها أم أنه كان استقطاباً مأزوماً؟ وهل تغلغله في أوساط الانتلجسيا السودانية كان رد فعل للمشروع الظلامي أم توقاً لبناء مشروع وطني ظلَّ يراود مخيلة الكثيرين منذ الاستقلال؟ وهل كان إقبال الشماليون نحو البندقية التي استنكفوها ردحاً من الزمن نتيجة ضرورات موضوعية أم ترياق لمشروع العصبة؟ كيف استطاع التنظيم فتح أبواب كانت موصدة في المحيط الاقليمي؟ وكيف استطاع تأسيس علاقات دولية عجزت عنها قوى سياسية سودانية ذات جذور ضاربة في القِدم؟ وهل كانت الادارة الأمريكية يومذاك ترى فيه بديلاً يمكن أن يتكامل مع توجهات قوى إقليمية تتناصف معه التوجهات والطموحات في محاربة الأصولية الاسلامية التي رفع لواءها النظام الحاكم في الخرطوم؟ وهل كان بإمكان التنظيم تحقيق غاياته وطموحاته بدون الدعم الشعبي الداخلي أي بالاعتماد على السند الخارجي؟ وهل كان بالامكان تفعيل قدرات الجماهير السودانية نحو دعمٍ موازٍ، وما الذي حال دون ذلك أصلاً؟ هل كان بالامكان المضي قدماً في استراتيجية ما أسماه بثورة الريف أم أن التركيز على الهامش أفقده دعم المركز؟ وأخيراً لعل السؤال الذي يعلو على كل هذه التساؤلات: لماذا ضربت ما يمكن تسميته ب (الغيرة السياسية) كل الفصائل والتنظيمات بالرغم من انها كانت تدَّعِي مشاركته هدف إسقاط النظام؟ لعل الاجابة الهادئة والواقعية على كل هذه الاسئلة يمكن أن تفتح مسارب جديدة، ولربما أسفرت عن حكمة ظلت غائبة عن الناس في زمن هفت وتطلعت لها نفوس الوطنيين والحادبين على مستقبل هذا البلد!
قلنا إن الدروس التي قدمها التنظيم كُثر، ولا أظن أن القائمين عليه قدموها بمنطوق المن والأذي، فهي في التقدير كانت إما نتيجة رد فعلٍ لفعلٍ قام به الخصم، أو جاء بتلقائية في سياق تداعي الأحداث، ولكن يستثنى من ذلك كله، حدث تمَّ التخطيط له بعناية فائقة ووعي كامل، نسبة لأنه أُرتُئي أن يكون مناسبة لإشهار التنظيم عبر فوهة البندقية، وتلقائياً عدَّه كثير من المراقبين السياسيين بعد انجازه، كفعل صبّ في ميزان حسنات التنظيم الوطنية. فهم يردون له الفضل في تفعيل النشاط العسكري المصادم في ما كان يسمي ب (الجبهة الشرقية) واعتبروا أن الرصاصة التي انطلقت في أبريل 1996 (عملية الشهيدة التاية أبو عاقلة) هي أولي الدروس التي أولمها للكبار،لا سيما، وقد كانوا عهدئذ يكثرون من الحديث عن مناهضة نظام ديكتاتوري أخذته العزة بالاثم وظن أنه ظل الله في الأرض، وكانوا يمنون النفس بالاطاحة به، ولكنهم كالعهد بهم عند الملمات، يتقدمون خطوة ويتأخرون خطوتين، إلى أن تسلمت قوات التحالف زمام المبادرة، وفاجأت النظام ومعارضيه بالذي حسبه الأثنان معاً في مقام الغول والعنقاء والخل الوفي! ولكن من المفارقات التي لا يدرجها المعارضون في مراقي الدهشة، هي أن البعض عوضاً من أن يصحي من ثباته العميق، وبدلاً من تقديم الدعم المادي والمعنوي أو حتى التدثر بالصمت كأضعف الايمان...حملوا الخناجر والسيوف ودسوها تحت العباءات الفضفاضة، يبتغون وأد من أراد العبور بهم نحو الخرطوم!
بيد أنه عزَّ المنال، ولم يتحقق ذلك الهدف (السامي) في حينه، ولكن بفضل المثابرة التي لا تعرف الكلل ولا الملل تثنى لها ما نشدته بعد أن جف الزرع والضرع وهبط (هادم اللذات) بغتةً، ليقول للجميع بلغة العسكريين (أرضاً سلاح)! آنئذ التقى الجمعان في مسيرة مرهقة بدأت بمشاكوس وتفرعت أنهارها إلى أن التقت جميعها في الخرطوم عند ملتقى النيلين، ولا يهم عندئذ إن كان القصر الرابط كأسدٍ هرمٍ، هو من بناه غردون أو محمد أحمد المهدي أو دينق مجوك! فما جدوى البناء أصلاً لمن شرع في إحصاء خسائره من أرواح البشر، بل ما جدوى الحياة لمن باغته موت كان عنه يحيد؟ بل ما جدوى الموت إن لم تعقبه حياة كريمة؟ أياً كانت طلاسم البشر فقد اكتشف التنظيم الذي طفق يقدم في الدروس المجانية أن ثمة 400 شهيد سقطوا سهواً ما بين شهيق البندقية وزفير المدفع، إنهم قوم لا ثواكل لهم في دولة الشراكة؟ قوم كانوا يبتغون دولة مدنية ديمقراطية فضلوا الطريق إلى رحاب دولة نصف ثيوقراطية ونصف علمانية، وليس لها لسان ولا شفتين، دولة كلما نظرت للوراء توارت خجلاً من تاريخها وبصقت تأففاً على حاضرها وتوسدت وهماً مستقبلها وأغمضت عينيها!
لا عليك يا سيدي، دعنا نخوض في أتون تراجيديا الموت المأفون، يومذاك كانت العمليات العسكرية في الجبهة الشرقية قد خلقات أوضاعاً إنسانية مأساوية مؤلمة، وذلك على طول الشريط الحدودى فيما سمى تزلفاً ب (المناطق المحررة) بدءً من قرورة شمالاً ومروراً بهمشكوريب في الوسط وإنتهاءً بمينزا جنوب النيل الأزرق، وهو ما حدا بتنظيم قوات التحالف إلى تأسيس منظمة إنسانية (أمل للرعاية الاجتماعية) كانت الأولي في المنطقة، وكذلك في أوساط تنظيمات قوى المعارضة المعنية بغوث الذين حررتهم البندقية وعصبت بطونهم وأحلامهم في نفس الوقت. إذ استطاعت منظمة أمل أن تستقطب دعم المنظمات العاملة في ذلك المجال، وشرعت في تقديم العون للمواطنين واستطاعت كذلك إحداث نقلة موضوعية في حياتهم رغم الامكانات المتواضعة. وقد حفَّزت التجربة آخرين فاضت المشاعر الانسانية في نفوسهم حتى كادت أن تقتلهم كمداً، فشرعوا في تأسيس منظمات مماثلة تأمل الناس فيها إغاثة الملهوف وإطعام الجائع وعلاج المرضى، لكنهم ما لبثوا أن اكتشفوا بمحض الصدفة، وهل ثمة شيء في ذاك البلد الظالم أهله يتم بغير الصدفة، فقد اكتشفوا أن الملهوف والجائع والمريض هو نفسه صاحب الفكرة الذي نظر لذاك الواقع بعيني صقر! وظن كل الظن إنه الأجدر بالاغاثة والأجدر بفضل الظهر، وما ضره إن كان أبا ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث وحيداً!
بالرغم من القدرات الاعلامية المتواضعة للتنظيم، إلا أنه من المنجزات التي لا تنكرها قوى المعارضة آنذاك إلا من رمدٍ، إقدام قوات التحالف على تدشين محطة إذاعية كانت أمضى سلاحاً من صنوتها التي تديرها بقية القوى السياسية، وما كان له أن تفعل لولا العنت والصدود والممانعة التي أبدتها القوى التي تدير إذاعة التجمع الوطني، وقوامها الحركة الشعبية وأحزاب الأمة والاتحادي والشيوعي، الذين اوصدوا الباب أمام مشاركتها سرائهم رغم أن ما تضخه زاد من ضراء أهل السودان! بالمقابل كانت محطة التنظيم الاذاعية التي سميت بإذاعة (الحرية والتجديد) مدرسة في الأداء الرشيق، تفاني نفر كريم من الشباب الموهوبين في تشغيلها بإمكانات بسيطة للغاية حتى جبَّت كل صوت منافسٍ واصبحت قِبلة من ألقى السمع وهو شهيد! وتوالت دروس التنظيم الصغير فألحق بالاذاعة مكتبة إرشيفية مسموعة...أضيفت لأرشيف مقروء ومرئي لم أشهد له مثيلاً عند أي من القوى الحزبية التي كانت تنضوى تحت لواء التجمع الوطني، وبعضها له من الامكانات ما تنوء بحمله البغال والجمال، بل المفارقة إنني عندما عزمت أن اكتب في هذا الموضوع، وفي ظل شح المعلومات عن المؤتمر المشار إليه وجدت ضالتي في موقع التنظيم على الشبكة العنكبوتية www.tahalof.org وهو ما مكنني من أن أستقي ما أريد، ولعل البعض لا يعلم أن هذا الموقع كان أول موقع يتم تأسيسه لأحدى قوى المعارضة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وما زال يقدم خدماته في حين أن معظم القوى السياسية السودانية وعلى مقدمتها أحزاب على رأسها نار... لم تمح أميتها الالكترونية بعد!
بيد أن الصورة لم تكن كلها بذاك البهاء، فثمة ثقوب كثيرة في الثوب الأبيض، والانصاف يقتضي ذكرها حتى يكتمل التقييم، من تلك السلبيات بحسب ما نراه، كان التنظيم قد لجأ إلى تكثيف الجرعة الأمنية في بداية تأسيسه، وبالرغم من تفهم دواعيها حيث كان التنظيم مستهدفاً من قبل النظام الذي صوب عينيه عليه، وحلفاء المعارضة الذين استهدفوه بصورة أشد ضراوة، ولكن من المؤكد إنها أي الجرعة الأمنية المكثفة كانت سبباً في عدم تمدد التنظيم واستقطابه للعديد من الراغبين. يضاف إلى ذلك الضعف البيَّن الذي كان يحيط بأعضاء المكتب التنفيذي، حيث ضمَّ وجوهاً ليست لها سابق خبرة ولا قِبل لها بالعمل السياسي التنظيمي، وآخرين اتخذوا التنظيم مطية لتحقيق أغراض شخصية، ومن السلبيات كذلك عجز التنظيم عن تكوين قاعدة شعبية واسعة داخل السودان توازي الصيت الذي وجده خارجه، وبنفس القدر لم يستطع التنظيم استثمار التعاطف الكبير الذي وجده في أوساط السودانيين في المهاجر وديار الاغتراب، وتلك على أية حال سلبية عانت منها كل قوى التجمع الوطني الديمقراطي، وبالرغم من ان عدد العسكريين في التنظيم لم يتعد عدد أصابع اليدين، إلا ان الذين تربصوا بالتنظيم بدواعي الغيرة السياسية المذكورة، نجحوا في خلق جفوة بين العسكريين والمدنيين أثَّرت في أنشطة التنظيم وتوجهاته بشكل عام، كذلك من الأسباب التي ساهمت فيما بعد في تعقيد أزمة التنظيم، الخطأ الاستراتيجي الذي وضع كل بيضه في سلة بعض القوى الاقليمية، حيث أن ذلك أقحم التنظيم في تناقضات وصراعات تلك القوى، ويمكن القول بصورة شاملة أن أكبر السلبيات عجز التنظيم عن خلق معادلة توازن بين طبيعة النشاط العسكري والعمل السياسي! علاوة على طموحات بعض أعضاء المكتب التنفيذي الذين ثبت إنهم كانوا يعملون لاختطاف التنظيم، مثلما فعل (نيرون) الذي أشعل النيران وجلس وما يزال في الهضبة الاريترية يرنو نحو ألسنة اللهب وهي تلسع في ضمائر ميتة بلا هوادة!
في تقديري أنه وضع بين يدي خلفه أمير بابكر ما يكمن أن يعينه على قطع المشوار، ولا شك أن أمير يعرفه أكثر مني بحكم ملازمته له ردحاً من الزمن، وأنا على يقين أن أمير نفسه له تجربته الخاصة وهي زاده أيضاً، وللقراء الذين لا يعلمون فقد عرفت أمير منذ سنوات في تلك البقعة من الكرة الأرضية، ولم أر منه إلا ما يسعد القلب ويشعل الفكر، عرفته رجل صلب المراس، وفياً لكل ما يؤمن به، شديد الاخلاص لأصدقائه، ولا أعتقد أنه نال ثقة ناخبيه لأن في فمه ملعقة من ذهب، فلا شك أن تاريخه النضالي وتعامله مع الأحداث والقضايا أهلاه لتلك الثقة، ولعل الأحداث التي عاشها أثناء الأزمة التي حاقت بالتنظيم في العام 2004 وادت إلى الانقسام وضَّحت بجلاء مدى قدرته على التعامل مع الشدائد، مثلما وضَّحت أن ايمانه بمبادئه يرقى لدرجة تقديم روحه قرباناً له، فيومذاك مورست عليه ضغوط مكثفة لاستمالته من قبل المنقسمين، فرفض بكل إباء وشمم وعندما عزَّ الأمر على صياديه، لجأوا إلى (نائب الفاعل) لتليين مواقفه بالسجن والاعتقال التعسفي، وقد كتب عن تجربته تلك (الغولاج الاريتري) وبعد أن نال نصيبه من تلك التجربة، نال نصيبه أيضاً من سجن تابع للحركة الشعبية لتحرير السودان وذاق الأمرين هو وأصحابه فكتب (واحد وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل) وفي الحالين وجه أصابع الاتهام مباشرة وبدون مواربة إلى (الفاعل) فكان هو تيسير محمد أحمد على أو نيرون الجالس على الهضبة. علاوة على ذلك فزملاء أمير عرفوه ناشطاً إعلامياً وكاتباً روائياً، وقد كان من أوائل المؤسسين للتنظيم، وقدر له صقل تجربته بملازمة (الميدان) لفترة طويلة!
الحمد لله الذي هيأ لنا أن نوقد شمعة في ظلام دامس، فمن فرط أجواء التيئيس التي اجتهدت العصبة ذوي البأس على اشاعتها في حياتنا، ظننت أن ذلك لن يأتي أبداً، وما كنت أعلم أنها تريدنا أن نُحدق في النصف الفارغ من الكوب، بل ونُطيل التحديق حتى يخلو لها الجو فتعوث في الأرض فساداً...وما أكثر المفسدين في الأرض!!
عن (الأحداث) 10/5/2009
لمزيد من مقالات الكاتب يرجى زيارة مكتبته على موقع الجالية السودانية بمنطقة واشنطن الكبرى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.