طرحنا تساؤل إمكانية استخدام الحرية كمعيار إضافي لتعريف هويتنا، وقلنا أننا يمكن أن نأخذ بما توافقت عليه التجربة الإنسانية المعاصرة بشروطها المقرونة تبعاً لممارستها وليس لإستحقاق مضمونها، لعلنا نلامس قدرتنا كأفراد ومجتمعات على التحرر من كبواتنا الملموسة والمعنوية الحسّية والإجتماعية بما نستطيع معه إزالة بعض البوائق التي تكبّلنا وتستعمر عقولنا لنبلغ درجة من التصاهر المعنوي الذي يفترض أن يكون عليه أي مجتمع مستقر ومتمدن، وأن نرى بعضنا البعض من خلال منظار متناظر وليس متنافر، وأن نكون قادرين على الفكاك كشعب من توهان الهوية والتشبّث بهويات تقيّدنا وتقودنا خلفها وأخرى تُعيق قدراتنا وتُقعِدنا بجمودها. البحث في الفكرة من وراء إعتبار الحرية كأحد معايير تعريف الهوية لا بد أن يقودنا إلى التعمّق في الفلسفة من وراء ذلك، وحتى نتمكن من إيجاد المبررات التي تدعم مثل هذه الفكرة، فإن توضيح الإيجابيات والسلبيات سيساهما معاً وبشكل أفضل في رغبة استيعاب ضرورة الفرضية ومن ثم التفاكر في وضع التصور المنهجي الذي يصمم الجرعات التربوية على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع بما يمكن تبنّيه في أي برنامج عمل حكومي في مناخ ديموقراطي معافى نأمل أن نبلغه سريعاً. والحرية تترافق كمفردة مع الحياة والتعبير والإنتقال والتنظيم والمعتقد والعمل وخلافه من الحقوق الإنسانية التي تقرّها الأعراف والمواثيق والدساتير، بيد أن الممارسة دائماً ما تجد الكثير من الإلتفاف على تلك الأطر لا سيما في ظل الحكومات الدكتاتورية والشمولية، والتساؤل هنا يظل قائماً في أن نفس الحكومات ونفس الأفراد القائمين على هذه الحكومات دائماً ما يصيغون هذه الحقوق لكن عندما يأتي الأمر إلى مرحلة الممارسة، يحجبونها أو يبقونها حبيسة الأدراج، هذه واحدة من أكثر المعضلات تعقيداً بالنسبة لنا وللشعوب المماثلة، وقد ذكرنا مراراً بأن المشكلة هي في الإنسان السوداني الذي هو عماد كل حكومة جاءت وستأتي، وبالتالي إعادة صياغة هذا الإنسان هي المؤشّر الصحيح للوجهة التي تقودنا إلى خلق الأرضية الملائمة لتحديد الهوية. لا يمكن للإنسان السوداني وهو الذي جُبل على تناول جرعات تربوية متباينة ومتقاطعة خلال مراحل تنشئته وحتى بلوغ سن الرشد أو فالنقل السن التي يمكن له أن يساهم كشخص فاعل ومؤثّر ومتأثر في المجتمع، لا يمكن أن يكون مشبّعاً بنوازع الحرية حتى وإن بدت عليه بوادرها، والأمر كذلك لا بد أن تكون بعض نصوص الصياغات التى تشكّل المُضغ الحاضنة للحرية مختلّة لديه ليس بفعل التكوين الفسيلوجي ولكن بفعل المنهاج المعنوي والتربوي الذي يتعرّض له في البيت والمدرسة والشارع في ظل تلك الدكتاتوريات والشموليات التي حكمته، وهي مناخات مؤثّرة، ولأن منهاجنا لتلقين الحرية كبذرة في نفوس أطفالنا هو الذي يبقى وينضج في دواخل الأجيال ويؤثّر على كل مجموعة تعتلي دست السلطة في أي مرحلة ويشكّل منطق تفكيرها وتعاملها مع مقتضيات الحكم ويسيطر عليها في كيفية رسم سياساتها، فسرعان ما ينعكس ذلك ممارسة إما سالبة وهو الغالب في حكوماتنا وإن تفاوتت المساويء من حكومة إلى أخرى، وإما موجب، وهو القليل الذي عايشناه طوال فترات الحكم في بلادنا، وأزاء ذلك لا ينبغي أن نتصوّر بأن يكون تعريف الهوية عندنا إلا مضطرباً كاضطراب النهج الذي يستند إليه لكونه لم تتوفر له المقومات لمعالجة كل الإعوجاجات وسد كل الثغرات. فالأمر في هذا السياق يفرض علينا أن نبحث في نهج تربوي نمكّن فيه أنفسنا أن تتشرّب الحرية وأن تتنفسها منذ الصغر في البيت والمدرسة وفي ممارسات المجتمع، وأن نمكّن لعقولنا أن تتحلل من بؤّر التسلّط المتنامية بداخلها وكبت الرغبة الجامحة للإستحواز القائم على استغلال السلطة مهما صغرت. هنا أيضاً نتساءل هل ينبغي أن تسبق التربية القوانين الملزمة لها، للإجابة على التساؤل لا بد أن ندرك بأن الحالة التي نحن عليها وحيث نبدي رغبة في الخروج بمجتمعنا من الإضطراب الذي تعيشه في تعريف هويتها أو عدم التوافق الذي يبرز من حين لآخر عبر مساجلات النُخب، يقتضي تبنّي أحد أمرين، فإما إعتماد منهاج تربوي بعيد المدى يقوم على استهداف الأجيال الناشئة بحيث يكون بلوغ الهدف بعد عدة عقود أمراً حتمياً حيث تبلغ تلك الأجيال مرحلة إدارة شئون الوطن وفق ما نشأت عليه من حرية، وحينها يكون سهلاً عليها تعريف هويتها، أو إعتماد منهاج هجين لا يستثني كل المراحل السنّية للمجتمع وبالتالي يصبح الهدف مرئياً بمدى متوسط وبلوغ نفس الهدف ولكن بمجهود أكبر ومصاعب أكثر، علماً بأن النقش في الصغار ضرورة مُلزمة. إذن نحن في حاجة إلى أن نقرر مصير منهاجنا التربوي الذي دأب على قمع الحرية كقيمة في دواخل الطفل منذ الصغر وفي أبسط ضرورات تنشئته وظلّ يصدّه عن الكثير من مساحاتها في مراحله التعليمية فلا يعيش فيها ما ينبغي أن يعايشه من إطمئنان نفسي وثقة وشجاعة أدبية وتعبير عن ذاته وطموحاته، هي في الغالب مفروضة ولا تعكس مكنوزاته التي لم يشأ أو يتفادى الإفصاح عنها أبداً أو متأخراً، ولكنها تعبير لرغبات وطموحات أولياء الأمور وصياغات المجتمع العفوية القائمة على مضامين غير متكاملة وتقمّص لشخصيته وفي غير وقته أيضاً. وحيث أننا نفعل ذلك، فالمنهج الهجين يتطلب تصميم ما يمكن أن نطلق عليه (محو الأمّية فيما يتعلق بتعاليم الحرية)، نحن أحوج ما نكون عليه هو أن ننتقل بالإنسان السوداني بحيث تشتمل ممارساته الحياتية اليومية على قدر كبير من التسامح مع الحرية ونمكّنه من أدواتها ونلقّنه مفرداتها ونتيح له كيفية استخدام وسائلها، وأولى أولويات ذلك هو أن ندرك بأننا مدينون بواجبات تجاه بعضنا البعض وهذا يقتضي في أبسط إلتزاماته أن نُحسّن من اسلوب التخاطب فيما بيننا، ولعلنا جميعاً نستطيع أن نستعيد أي صورة مصغّرة من مجتمعنا ونعيد شريط التخاطب والتعامل وسنجد أن التوتّر هو دائماً سيد الموقف، وأن مثل هذا المناخ لا يبعث بالطمأنينة في وسط أي مجتمع، ولا يساعده على الصياغة القويمة لمستقبله، ولا يمكن كما قلت دائماً إذا أردنا أن نبحث عن علاج ناجع أن نُلقي باللوم على آخر، وهذا الآخر جاهز لدينا فهي (الحكومة) سواء أن كانت هذه أو غيرها. ليس منا من لم يكتب أو يتحدث عن قصور هذه الحكومة وفجورها وفسادها وكل موبق فعلته وما زالت تفعله في حق الشعب والوطن إلا القليل، وليس منا من لا يتمنّى زوالها في أسرع وقت إلا قِلّة، لكن يجب أن لا ننسى دائماً أن السبب يتجاوز ذلك ويتوقف عند العلّة التي تكمن في الإنسان السوداني نفسه، حيث لم تتشكّل الحكومة من أناس قادمين من كوكب آخر، سواء هذه الحكومة أو تلك التي ستأتي بعدها، من الطبيعي أن نقول فالتذهب الحكومة أي بمعنى أكثر اتساعاً النظام والأفراد معاً وهي من الأولويات، ولكن ولأننا لم نكمل ولم نعالج صياغة الإنسان السوداني بحيث نستطيع أن نضع نظاماً جديداً للدولة، فإننا سنعيد التجربة بمضمونها ولكن بمسمّى جديد وتدور الدائرة، لهذا ربما نأتي بمثل هذه التساؤلات للتداول، وهي في الآخر تشكّل أرضية تشريح تستوعب ضمن ما تستوعب جزءاً من القضايا الكثيرة التي تنتظرنا كأمّة تبحث عن وضع وطنها على الطريق القويم. إزاء هذا التساؤل الذي طرحناه تصبح الخيارات واسعة في استنباط الوسائل، ولعل النظر في إختيار أهداف أكثر مواءمة لمتطلبات العصر ورغبة تمدين الوطن والمواطن دون الإخلال بتوازن المعتقد الروحي والمخزون التراثي وإعادة صياغتهم في وعاء متجانس بما يمكن أن يستوعب المفردات المتنوعة للمكّون الثقافي الفطري لشرائح الأمّة، وتنقيح المنهاج التعليمي الأساسي والثانوي بحيث يتم التكثيف في الكيفية والنوعية وتقليل الحشو والكمّية التي تتسبب في رهق المتلقّي ولا تأخذ بإعداد التلاميذ للمراحل التي تربطهم أكثر بالعلوم التطبيقية كضرورة حتمية لأي دولة تسعى إلى استيعاب المعاصرة، ستكون الدفعة الناجحة في إتجاه بناء التفكير الإبداعي. كما أن تكثيف نهج الإستبيان والإختيار والإستفتاء في الشأن العام كثقافة، وتأصيله كأسلوب للممارسة الحياتية أمر يبني ثقة النفس ويعزز ثباتها، كل هذه المتكاملات هي جزء من توثيق عروة الحرية التي بدورها تقود إلى فهم واحد لتعريف الهوية لإنسان هذا الوطن. العامل الثاني الذي نبحث في إمكانية أن نجعل منه أحد معايير تعريف الهوية بعد أن نصمم له متنه المفصّل وفصوله وأبوابه ونحدد جرعاته وزمان تلك الجرعات، هذا العامل هو روح الإنتماء، ليس هناك من غموض ولبس في فهمنا جميعاً لإطلاقية كلمة الإنتماء، فإذا سُئل أي فرد لأي جهة ينتمي، وطناً أو إثناً أو قبيلة أو غير ذلك من مرادفات، سيكون التجاوب مع المسألة في غاية التبسيط، ولكن ما يعنينا هنا هو روح الإنتماء، وهو أمر يذهب ويتعمّق بعيداً في نبش نواة المضاف بما يجعل من المضاف إليه أكثر استيعاباً للمضمون المُرتجى منه. ولعلنا باتباع نفس المنهاج الذي فصّلنا فيه في أمر الحرية، يمكننا أن نجعل من روح الإنتماء أحد المعايير القوية لتعريف الهوية، ذلك أننا إذا ما أحسنّا إنتماءنا للوطن كرقعة جغرافية وكأمّة من حيث الشعوبية بإدراك أن الإثنين يتكاملان مادياً كشيء ملموس ومعنوياً كقيمة محسوسة حينئذ نكون قد بلغنا شأواً من الثقة والإتفاق في وحدة تعريف هويتنا في جعل الآخر أكثر إدراكاً لمضمون هويتنا.... تعالوا نواصل ذلك في الحلقة الخامسة... 30/6/2011 Abdul Jabbar Dosa [[email protected]]