حسناً .. ما أود أن أنقله في هذه الكلمات من صور ومواقف أمر لا يحتمل القصص والحكاوي والرمز.. كلام صريح .. واضح .. واقعي .. سيشعره كل منكم قبل أن يقرأه .. حبسته زماناً. ثم لما رأيت أن أغلب كتاب الرأي تستدرجهم عواطفهم وأخذت بهم سكرة لا أعرف مصدرها .. لم يفيقوا منها بعد .. رأيت أن أطلقه .. حديث تصل درجة صراحته للوقاحة أحياناً، ولكنه لابد منه على كل حال فاستمعوا. يتباكى معظم أهل الرأي والمثقفون ممن يسمون النخبة .. يتباكون على انفصال جنوب السودان .. ويعتبرون ذلك الحدث منقصة وسبة .. ويصل بعضهم في رأيه إلى أن الحكومة الحالية هي سبب ذلك الانفصال وأنها هي من قسمت البلاد وهي من تتحمل وزر ذلك الأمر.. وفي ظنى أن في كلا الرأيين تعطيل كبير للعقول ونسيان صريح لتاريخ لم نتعود أن نراجعه ونتحاكم إليه فتلدغنا الأفاعي والثعابين والفئران من ذات جحرها مرات كثيرة ولات من معتبر. أنا لا أقول شعراً .. ولا أتحدث عاطفة .. ولا أنتمي إلى منبر السلام العادل .. لكنني شاب تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره بقليل ووصل لقناعة بناءً على ما تواتر لديه من أحداث موثقة بأن ما حدث صباح هذا اليوم التاسع من يوليو، أصدق حدث كان من المفترض أن يكون موقعه قبل أربعون سنة من الآن .. وليس ذلك فحسب .. بل أن سياسيو ومثقفو هذا البلد من تلك الحقبة ظلوا يمارسون نفاقاً اجتماعياً وسياسياً أدى لتضليل وتخدير كثير من شعب هذا البلد والى إطالة أمد المشكلة كل هذا الوقت .. وهذا الحديث من المؤكد أنه ليس على عواهنه، بل هو حديث منطق وتفكر .. فكيف كان ذلك. حدثتني جدتي هلاله بت بدر ود حمد ود عوض السيد رحمة الله عليها بأسى عن مذابح أهلنا وأقاربنا من قرية (كلي) بولاية نهر النيل.. حدثتني عن قطع رقابهم هناك في توريت وجوبا في جنوب السودان في مذبحة العام 1955 الشهيرة وكانوا بها تجاراً حينها .. كانت تعيد عليّ ذات المشاهد والأسماء والحكاوي كلما سألتها عن الأمر ولم أكن أمل السؤال أبداً.. بل كان يستفذني الحدث لأتأكد من وقوعه أولاً ولأتبين أسبابه ثانياً. وتواصلت الحرب منذ إعلان الاستقلال في العام 1956 مروراً بحكومة عبود 1958 وصولاً إلى عهد الحزبية الثانية في العام 1964 برئاسة وزراء الإمام الصادق المهدي .. ثم حكومة النميري في العام 1969 ثم هدنة (وليست سلاماً) نعود إليها لاحقاً ما بين 1972-1983 لحظة ميلاد تمرد العقيد جون قرنق على النميري والأحزاب من بعده وصولاً إلى الإنقاذ التي شهدت أحداثها بأم عيني هاتين. سألت سؤالاً للحاضرين معي في جلسة نقاش صباح هذا اليوم 9/7/2011، سألتهم عن السبب الذي جعل مقاتلي جنوب السودان بشتى قبائلهم ومستويات تعليمهم .. السبب الذي جعلهم يذبحون أهلنا في العام 1955 ويقاتلون منذ ذلك التاريخ حتى يختطفون من بيننا خيرة الزملاء والأخوة (مختار سليمان، البادرابي، زين العابدين، عمار عثمان، ماجد كامل، يسري حسن عمر، محمد أبو الحسن، و...) وقائمة طويلة وهي على المستوى الشخصي بالطبع .. وقائمة مثلها تطول لكل مواطن من مواطني شمال السودان فقد فيها صديقاً أو حبيباً أو أخاً أو والداً .. سألتهم عن السبب الذي يجعل هؤلاء القوم يقتلوننا بحرب أو بدونها .. ويشعروننا بالخوف والذل في عقر دورنا في الخرطوم في يوم الاثنين الأسود بدون سبب جنيناه .. لماذا يقاتلوننا ويكرهوننا لمدة تزيد عن الخمسين عاماً .. أجابني القوم على قلب رجل واحد .. لأنهم مهمشون. حسناً .. هاهنا يجدر بنا أن نثبت بعض الحقائق .. أولاً أن هؤلاء القوم يكرهوننا (و إن اظهروا خلاف ذلك) .. يكرهون شمال السودان وإنسانه .. بغض النظر عن السبب الآن والذي سنناقشه بعد قليل .. لكن الحقيقة هي تلك .. ولا فائدة إزاء ذلك لذكر أمثلة هنا وهناك تظل حالات فردية لنموذج تعايش اجتماعى لم يتحقق .. ثم .. سبب تلك الكراهية هو التهميش حسبما أجاب هؤلاء الأخوة .. وهو اسم الدلع بالطبع للسبب الحقيقي .. (و بعبارة اوضح) .. السبب هو شعورهم بالدونية .. وبعبارة أكثر وقاحة .. الاحتقار .. يعتقدون بأن شمال السودان يحتقرهم كشعب ويمارس عليهم الإذلال والعبودية .. ويعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية؟. ولكن هل هذا الاتهام صحيحاً؟! قانون المناطق المقفولة لجنوب السودان الذي مارسه الاستعمار كان أغرب قانون رأيته في حياتي .. وجبت الأرض بفكري شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، ولم أجد من يماثل وضعهم ما فعله المستعمر البريطاني بهذا البلد .. فما الذي فعله؟! نظرت إلى الهند والباكستان، وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، والصين وتايوان ، وألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، وأثيوبيا وارتريا، وبريطانيا وايرلندا، وأخرى ربما تعرفونها، لم أجد مثالاً واحدا يشابه ما فعله بنا الانجليز، أو ربما في الحقيقة لم يكن متاحاً على وجه هذه البسيطة ما كان متاحاً لابليس أن يفعله بجنوب السودان. اختلاف في اللون، والشكل، واللغة واللهجات، والثقافة، والدين والتاريخ، والمناخ، والعادات والتقاليد. اختلاف في كل شيء واتفاق في الإنسانية. اختلاف أدى إلى أن يكون تقبلهم لشمال السودان صعباً من ناحية المبدأ، خصوصاً إن اقترن ذلك بما بثه الوجود الكنسى من كراهية فى نفوس القوم تجاه الشمال و أهله، من ناحية أخرى فقد شكلت كل تلك الفروق حاجزاً نفسياً لدى مواطني الشمال من تقبل هذا الجنس المعزول عنهم غير المنتمي لهم في شيء وكانت ترجمة عدم القبول هذا في عزلة لذلك الشعب الوافد، عزلة اجتماعية ساعدت في أن يظل شعب جنوب السودان على مدى خمسين عاماً هو هو، لم يحدث له انصهار في الشمال إلا على مستويات فردية محدودة من تزاوج هنا وهناك، كما لم يستطع الشعبان أن يندمجا بالسرعة المطلوبة في مجتمع واحد إلا على نطاق ضيق لمن استطاع أن ينخرط في الخدمة المدنية منهم، والنتيجة بعد خمسين عاماً هي وجود ذات المشكلة التي من أجلها قامت المذابح في العام 1955. شعب جنوب السودان من جانبه كان مشبعاً بالغبن من لدن المبشرين الكنسيين، ومن بعد بالصدود الطبيعي (نسبة للاختلافات الكبيرة) ، ثم باندلاع الحرب والتي ساعدت كثيراً في جعل تلك الحواجز والفوارق لا تجد لها موطئ قدم لتعيش فيه، بل تزداد اشتعالاً مع كل طلقة مدفع، ومع كل روح تصعد إلى ربها من هنا أو هناك. والحال كذلك، فقد سألت أولئك الشباب، و أسألكم الآن، ما هي مطالب الجنوبيين من وراء هذه الحرب؟!. ولا يمكن لعاقل أن يقول بأن السلطة والثروة هي إجابة هذا السؤال، لماذا الحرب؟! وبما أننا قد اتفقنا على سبب الحرب، وقلنا هو (الشعور بالدونية) .. إذاً ستكون مطالب الحرب هي في الأساس لدفع هذه الدونية .. وتحقيق وحدة اجتماعية .. صف واحد .. عيش وملح .. هلال وصليب .. أبيض وأسود .. زواج وتصاهر. كانوا يبحثون عن عدالة الإسلام الاجتماعية .. لكن هل كان مجتمع الشمال من لدن أجدادنا في العام 1955 وحتى الآن لديهم من الاستعداد لسداد مهر إيقاف هذه الحرب .. الإجابة لا .. برضا منهم أو غصباً عنهم .. لأسباب أو لأخرى .. ولكنها تظل لا .. واستمرت الحرب، مرت على الأزهري، وعبود، والصادق المهدي، والنميري، وسوار الذهب، والميرغني، والترابي .. و أخيرا البشير .. جاءتهم الحرب فخاضوها ولم يكن واحداً منهم صادق مع نفسه وشعبه فيقول بأنه غير قادر على توفير الضمان الاجتماعي لإنهاء تلك الأزمة، وفي الحقيقة لم يكن أي منهم يملك ذلك الثمن إنابة عن شعبه والذي هو بصورة أو بأخرى اختلط بجاهلية من جاهليات القرون الأولى .. كانت الحرب أهون عليهم من الصدق مع النفس. ونحن ههنا نثبت أمراً هاماً، هو أننا لا ندين قتالهم للجنوب، فقد كان مفروضاً عليهم ولكننا نسألهم عن جهدهم في وقف ذلك القتال أو إنهاء أسبابه المذكورة. والآن .. بعد نيفاشا.. جاء الذين يعلمون .. ويتدثرون خلف الدموع و العواطف .. والذين لا يعلمون .. ولا يعلمون أنهم لا يعلمون.. والذين نحسب أنهم يقولون رأيهم ونسوا التاريخ وما أنساهم إلا الشيطان .. تأتي أقلام هؤلاء لتقول أن هذه الحكومة تتحمل وزر الانفصال، وأنها قد فصلت البلد إلى جزأين .. وأنها الشر المستطير وما سواها كان الجنة في هذه القضية .. لا .. الأمر لا يستقيم .. إن أفسد هذا النظام فعليه إفساده، وإن أساء فعليه سيئته، صالح أم طالح ليس ذلك موضوع هذا المقال .. ولكنه في أمر حرب الجنوب قاتل كما قاتل الآخرون .. بل أشرس مما قاتل الآخرون .. وقدم اعترافا صامتاً بأصل المشكلة في نيفاشا لم يتجرأ نظام من قبل أن يصل لعمق ذلك الاعتراف .. كان مطلب الجنوب منذ 1948 إما حق تقرير المصير .. أو .. أو العدالة الاجتماعية .. وقبلت هذه الحكومة التحدي .. تحدي أن تعترف إنابة عني وعنكم وعن الشعب بأن هذا الشمال .. شمال السودان .. لم يستطع أن يقدم في خمس سنوات هي عمر الفترة الانقالية ما عجز عن تقديمه في خمسين عاماً هي عمر الحرب .. لم يبخل على الجنوب لا بسلطة ولا بثروة .. فقد جاسوا خلال الديار أثناء الفترة الانتقالية .. ولكن ذلك لم يكن مطلباً أساسياً ابتداءً .. بل هذا الذي تأباه أنفسكم ويعينكم عليه الشيطان هو المطلب .. أنا لا ألوم أحداً .. ولكن فضيلة الصدق خيرٌ .. فأختار هؤلاء القوم الانفصال .. وبنسبة كبيرة لم يتوقعها كثير من خادعي أنفسهم من أن الجنوب كان أفضل له أن يكون متحداً مع الشمال وغيرها من أحاديث المنطق السليم والفعل الراجح والحساب التجاري .. ولكن كل ذلك في حسابات النفس البشرية لدى الجنوبيين لم تكن له قيمة مقابل أن يكتبوا على لوحاتهم (أخيراً نحن أحرار). لم نكن نستعبدهم او نستعمرهم .. ولكن كانت أنفسهم تتوق لأرض يجتمعون فيها فلا يفرق بينهم لون ولا ثقافة ولا لغة، وطن يضمهم اجتماعياً ويختلفون فيه كما شاءوا فيما تبقى .. لقد حاربونا خمس وخمسين عاماً .. تختفي القضية الأساسية خلالها وتعود .. ولكن القتال مستمر.. وحاربناهم مثلها .. وكان اجتهادنا في كثير من الأحيان أن ذلك هو الخير، وفي أحيان أخرى كان أهون علينا القتال من أن نعطيهم العدالة الاجتماعية للإسلام. انفصل جنوب السودان، ولم يفصله الأستاذ علي عثمان محمد طه ولا هذه الحكومة .. بل لقد صنعوا فيه أمراً ما كان له أن يتأخر كل هذه السنين .. قامت دولة جنوب السودان فهنيئاً لهم بها .. وارتاح شعب الشمال من هم تطبيق عدالة اجتماعية ما استطاعوا لها سبيلا أو صنيعاً منذ 1955. أنا الآن أشعر بالأمان الحسي بعد توقف الحرب وذهاب هؤلاء القوم إلى دارهم الجديدة، وهم يشعرون بالاطمئنان والأمان النفسي لاجتماعهم في تلك الدار بعيداً عنا. و لا شأن لي و لا لهم بتعقيدات الحسابات التجارية و الملفات العالقة فأمرها مهما صعب يظل يسيرا مقابل وضع حد للمشكل الاساس و القضية المحورية للحرب. سادتي كتاب الرأي .. الساسة المخضرمون .. المعارضون لانفصال الجنوب .. جميعاً .. أيها الناس .. قد قامت دولة جنوب السودان وانتهى الأمر .. فلا تزوروا التاريخ لتداروا عن أنفسكم .. ولا تفسدوا علينا شعور الأمان لدينا، ولا بهجة اطمئنانهم. فإن كان الجوار الجديد جوار سلام، فذلك خير ساقه الله لنا ولهم، وإن كان الجوار جوار ضرار وتربص وحرب، فلنخوضها خمسين سنة أخرى تحت أسباب أخرى ومسمى آخر. أيها الناس.. حاسبوا هذه الحكومة حساباً عسيراً.. ذلك حقكم.. أما أمر الحرب في الجنوب فقد أنجزت فيه عهدها ووعدها والخير فيما اختاره الله.