لم يحدث ان التقيت غازي صلاح الدين العتباني. معلوماتي عنه محدودة، وهي من نوع المعلومات التي يتناقلها الناس في المجالس ، ومعلومات مثل هذه لا يعتد بها كثيرا. حدثني الطيب صالح عنه ذات مرة . كنت استعيض دائماً عن قراءة وسماع الكثير من المعلومات عن شخصيات سودانية عندما التقي الطيب ويتحدث عن شخص ما. كانت لديه براعة مذهلة في رسم صورة عن قرب لاية شخصية يلتقيها، وهي وقدرة المبدع القادر على سبر اغوار الآخرين، على الرغم من ان الطيب اعتقد طيلة حياته ان جميع الناس خيرين. التقى الطيب صالح غازي صلاح الدين عندما شاركا معاً في ندوة نظمت في برشلونة (بداية التسعينات) بدعوة من الاسباني فردريكو مايور المدير العام السابق لليونسكو. قال الطيب صالح إن اثنين في تلك الندوة لفتا انتباهه، وهما غازي صلاح الدين وباقان أموم. نصحني ، رحمه الله، قائلاً " إذا اردت ان تسمع أحد عقلاء هذا النظام ربما يكون غازي أفضلهم، واذا اردت شخصاً ذكياً يمكن أن يكون له مستقبل كبير في الجنوب عليك ان تلتقي باقان أموم" كان هذا رأي الطيب انقله بامانة. قال الرجل هذا الكلام وجون قرنق ما يزال يملأ دنيا السودان ويشغل ناسه. عندما سمعت ٍرأي الطيب صالح في غازي صلاح الدين قلت" لدي حساسية شديدة جداً من الذين يجنحون نحو العمل الانقلابي في السياسة، وهناك معلومات غير موثقة تقول إنه شارك مشاركة فعلية في محاولة الاستيلاء على دار الهاتف عندما حاولت الجبهة الوطنية الاطاحة بنظام جعفر نميري عام 1976" وبعد سنوات تأكدت صحة هذه المعلومة. على الرغم من ذلك قال الطيب بطريقته المعتادة " الله يهديك حاول ان تلتقيه ربما تغير رأيك ". في كل الاحوال لم اسع الى هذا اللقاء. ولم تأت فرصة أن نكون في مكان واحد، هو في الخرطوم وانا خارجها منذ سنوات طويلة بسبب الدبابات التي تنوب عن صناديق الاقتراع في بلادنا، هو لم يزر منطقة المغرب العربي ، ولم يأت الى لندن عندما كنت هناك ، وتعذر عليه أن ياتي الى واشنطن لحضور ندوة حول دارفور ، وانا استعد حالياً لمغادرتها. لعلني استطردت ولم يكن في نيتي ذلك، وأعود الى موضوعي وهو التعقيب على مقال كتبه غازي صلاح الدين بشأن العلاقات السودانية الامريكية . معلوماتي تفيد ان الرجل الآن هو أحد الذين أنيط بهم التفاوض مع الزوار الامريكيين، من هنا أهمية قراءة ما كتب بل والبحث عن ما لم يكتبالمقال كتبه "غازي صلاح الدين العتباني" بصفته "مستشار الرئيس السوداني ورئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني في المجلس الوطني" ونشر في صفحة " الرأي" في صحيفة "الشرق الاوسط" في 30 ابريل الماضي. وكنت وضعت المقال جانباً لارد عليه لكن المشاغل التي لا تهدأ جعلت هذا الرد يتأخر بعض الوقت. نشر المقال تحت عنوان " سياسية اوباما الجديدة تجاه السودان وفرص نجاحها" عنوان ملفت لموضوع يدخل أصلاً في صلب اهتمامي حيث أنني اتابع عن كثب الأمر لسببين لانني في واشنطن ولان الأمر يتعلق بالوطن. في مستهل المقال يتحدث غازي صلاح الدين عن زيارات سكوت غريشن وجون كيري الى السودان، ويقول إن الديمقراطيين " كانوا من حيث الخطاب السياسي الأسوأ تجاه السودان" ويدلل على ذلك بفترة بيل كلينتون. واتفق مع السيد غازي في جزئية واختلف معه في جزئية اخرى. فعلاً كانت فترة كلينتون سيئة جداً على السلطة الحاكمة في السودان والتحديد هنا مهم ، وكانت تحابي الى حد ما المعارضة المناوئة لهذه السلطة، لكن لا ننسى ان كلينتون كان سيئاً جداً مع افريقيا، ولا يستطيع كل اركان نظامه ان يقولوا ولو كلمة واحدة حتى الآن عن صمتهم المطبق تجاه مذابح رواندا حيث جرت عمليات "إبادة جماعية" من طرف اغلبية الهوتو ضد اقلية التوتسي . ثم لا ننسى ايضاً أن سوزان رايس مندوبة الولاياتالمتحدة في الاممالمتحدة الحالية، وكانت قتها مساعدة وزير الخارجية للشؤون الافريقية تقول إن " ملس زيناوي" و " يوري موسفيني" وأمثالهم هم نموذج للقيادات الافريقية الجديدة. وكنت قلت لاحدى الشبكات الامريكية " إذا اقتربت سوزان رايس من الملفات الافريقية ستكون هذه الكارثة بعينها". لكن ما اختلف مع السيد غازي حوله، هو لماذا أدرجت إدارة كلينتون اسم السودان ضمن "الدول الراعية للارهاب" ان السبب يمكن ان يبحث عنه السيد غازي في الخرطوم وليس في واشنطن، لان اسامة بن لادن وكارلوس وآخرين كثر اقاموا في احياء الخرطوم الراقية تحت سمع وبصر من يريد. ويتحدث السيد غازي عن ضرب مصنع الشفاء للادوية ويقول إن المصنع قصف لاعتقاد الادارة الامريكية انه ينتج غاز الأعصاب ويضيف "وهي الحجة التي فشلت الادارة الامريكية آنذاك باقناع اي أحد حتى نفسها بها". هذا صحيح واتفق معه حتى آخر نقطة على السطر. لكن يا سيد غازي عندما دارت الايام ، الم تضعوا السياسي الذي قلتم بانه سرب المعلومات المضللة الى الاميركيين ، في منصب رفيع داخل القصر الجمهوري، كيف تفسر ذلك. يقسم غازي صلاح الدين إدارة الرئيس باراك اوباما الى " واقعيين ومؤدلجين" على حد تعبيره، ويقول إن الواقعيين يمثلهم اوباما. اظن ان السيد غازي يقع في خلط شديد عندما يعتقد ان اوباما يمثل جناحاً ضد جناح آخر داخل إدارته. النظام الامريكي يضع كل السلطات في يد الرئيس ، وبالتالي لا يوجد مجال لمجموعة " مؤدلجة" ومجموعة اخرى " واقعية"، يمكن القول ان اوباما يحاول الآن وبشتى الطرق التخلص من وصاية"المؤسسة الاميركية" هذا صحيح، ونجاحه وفشله مرتبط بمسار هذا الصراع. بالنسسبة لبلادنا الحقائق الماثلة تقول إن اوباما سيسير حتى النهاية في سبيل وقف المأساة الانسانية في دارفور، والمعلومات تفيد انه وضع ثقته بالكامل في مبعوثه سكوت غريشن، الذي يريد ان يصل الى حل لقضايا السودان بما في ذلك التطبيق الكامل لاتفاقية السلام الشامل عبر مؤتمر دولي ، وربما يدرك السيد غازي ان غريشن شرع في تقديم اقتراحات في هذا الصدد، وهو يطلب من الحكومة الاقلاع عن السياسات السابقة في دارفور التي أدت الى الكوارث ، ثم بعد ذلك تطبيق اتفاقيات السلام. الواقعية مطلوبة من السلطة الحاكمة في السودان ، ومنها تحقيق السلام في دارفور والتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل ، والمطلوب على وجه التحديد و بصراحة التوجه نحو سوداني ديمقراطي تعددي حقيقي تحكمه مؤسسات ديمقراطية منتخبة، هذا هو عمق المسألة، وليس البحث عن من هو " العاقل" أو " المؤدلج" في إدارة اوباما. بعد ذلك يتحدث السيد غازي عن معادلات رياضية ساعود اليها في ختام هذا المقال، لكن قبل ذلك اتوقف عند قوله إن " المسؤولين السودانيين يحملون هموماً أخرى لنقاشها مع الجانب الامريكي منها القضايا المشتركة مع العالم الاسلامي ومن بينها قضية فلسطينية والمسائل المتعلقة بافريقيا" واقول لا احد يقول بانكفاء السودان على مشاكله وان يسقط من حساباته محيطه العربي والافريقي ، لكن يا سيد غازي عندما كانت في السودان حكومة ديمقراطية منتخبة عام 1967 ، الم تعقد بلادنا واحدة من أنجح القمم العربية على الاطلاق وهي قمة "اللاءات الثلاثة" ، وقمنا بوساطات في جميع انحاء القارة الافريقية، وهل نسينا وساطتنا الناجحة حول قضية النيجر مثلاً. ثم اننا لم نحل بعد قضايانا لماذا الانشغال بقضايا الآخرين هنا الفرس ... وهنا مربطه. وأختم بالمعادلات الرياضية التي ختم بها السيد غازي حيث قال " أ= س+ص+ز، حيث (س) هي العمل الدؤوب و (ص) هي الترويج و (ز) أن يبقي فمك مغلقاً " وأقول للسيد غازي صلاح الدين طالما انه تستهويك المعادلات، ما رأيك في هذه المعادلة: الديمقراطية+ حق تقرير المصير للجميع+ احترام حقوق الانسان+ المواطنة المتساوية= أمن وأستقرار ورفاهية لكل الشعوب السودانية. عن"الاحداث" مقالات سابقة جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط