تبقى لشهر رمضان المبارك ثلاثة أيام، ومثل كل عام تشهد هذه الأيام جدلاً محتدماً بين علماء ومشايخ المسلمين حول مطالع الشهر الفضيل، فلا غروّ وإن وجدنا أنّه أكثر ما يكون فيه المسلمون اختلافاً في هذه الأيام هو حول تحديد مطالع الشهور العربية، لا سيّما في شهريّ رمضان وشوال، وإلى درجة أقل ملحظةً يكون الخلاف في شهر ذي الحجة، فبينما يدعو بعض علماء ومشايخ المسلمين إلى ضرورة توحيد المطالع في شهر رمضان المبارك، من أجل البُعد من الخلافات التي بلا شك تكون سبباً من أسباب تفرق المسلمين وتشرذمهم، يرى البعض الآخر أنّ اختلاف المطالع فيه سعة للمسلمين. ولذلك نجد أن مذاهب أهل العلم في اختلاف المطالع، خلصت إلى قولين: الأول: إذا رؤي الهلال في بلد من بلاد الإسلام، لزم جميع المسلمين الصوم أوالإفطار، وهذا مذهب الجمهور أبي حنيفة والشافعي والليث وبعض الشافعية وأحمد بن حنبل وفريق من المالكية. الثاني: إذا ثبت الهلال في بلد من بلاد الإسلام، لا يلزم الصيام أو الفطر غير أهل البلد الذي رؤي فيه الهلال، وهذا مذهب ابن عباس وعكرمة والقاسم وسالم واسحاق بن راهويه. وقال النووي عن مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: "نقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم واسحاق بن راهويه أنّه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية، وعن الليث والشافعي وأحمد يلزم الجميع، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي، يعني مالكاً وأبا حنيفة". وينبغي أن نبسط القول حول استدلال كل فريقٍ من الفريقين لتأكيد قولهم ورجاحة رأيهم في هذه المسألة الشرعية المهمة. فقد استدل أصحاب القول الأول بقوله تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوماً"، وفي رواية أخرى، قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين". إن رؤية مسلم هلال رمضان أو هلال شوال توجب على المسلمين جميعهم الصوم أو الإفطار، لا فرق بين بلد وبلد، ولا بين مسلم ومسلم، لأن مَنْ يرى الهلال من المسلمين حجة على مَنْ لم يره. وأنه يوجب على المسلمين الصوم أو الإفطار إذا ثبت الهلال بالبينة أو بالرؤيا المستفيضة، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم. وليست شهادة مسلم في بلد أولى من شهادة مسلم في بلد آخر، حيث أنه لا قيمة للتقسيمات والحدود الجغرافية. واستدل أصحاب القول الثاني بحديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بن أبي سفيان في الشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، وقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكننا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان مثل هذا الاختلاف في مطالع شهر رمضان المبارك يشكل جدلاً مستمراً بين علماء المسلمين، قديماً وحديثاً، ويثير في الوقت نفسه قدراً من البلبلة في أوساط عامة المسلمين، خاصةً وأن كل فريق له استدلالاته، لتبيان صحة رأيه وحجيته. ولعل قدوم شهر رمضان المبارك خلال الأيام القليلة المقبلة، يدعو المسلمين إلى استدراك ما فاتهم من أسباب وحدة الصف الإسلامي، ونبذ أسباب الفرقة والخلاف، تنزيلاً لقول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"، والتأكيد على أنّه لا عبرة باختلاف المطالع لعموم الخطاب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..". وفي ذلك يقول الشيخ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: "إننا لا نريد أن يكون موضوع توحيد مطالع شهر رمضان أو اختلافها، مدعاة إلى الخلاف والتفرقة والتشرذم بين المسلمين، فينبغي العمل على ما يوحدهم. ولهذا فكم أُحب أن يتفق المسلمون في صومهم وفطرهم، وأن يتفقوا كذلك في أعيادهم (الفطر والأضحى). ويرجع الشيخ الدكتور القرضاوي الاختلاف في هذه القضية إلى أمرين: الأمر الأول: في طريقة إثبات الشهر: هل يثبت بشاهد واحد، أو بشاهدين، كما هو رأي الشافعية والحنابلة، أو لابد من جمع غفير كما هو رأي الحنفية وغيرهم. وهل يمكن أن يكون للحساب الفلكي مدخل في الإثبات أو لا؟ والحق: أن المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والشافعي) فيها أقوال ترى الأخذ بالحساب الفلكي، وإن رفض الحنابلة ذلك. الأمر الثاني: هو إذا ثبت الهلال في بلد ما هل يلزم البلاد الأخرى؟ أو أن لكل بلد رؤيته الخاصة؟ وأكد الشيخ الدكتور القرضاوي أنه سبق أن أفتى في الولاياتالمتحدة الأميركية، أن يأخذوا بالحساب الفلكي القطعي وجوبا في النفي لا في الإثبات، بمعنى: أن الحساب الفلكي إذا نفى إمكان الرؤية لم يؤخذ بشهادة الشهود ونحوها. وقال: "إننا إذا كنا لم نصل إلى وحدة المسلمين في العالم حول هذه الشعائر، فالواجب أن نحرص على وحدة المسلمين في كل بلد، بحيث يصومون معا ويفطرون معا، بمعنى أن يتبعوا سلطتهم الشرعية، فإن مما يدمي القلب أسى وحسرة أن المسلمين في كل قطر أو بلد يفطر بعضه ويصوم بعضهم، أو يعيّد بعضهم ولا يعيّد آخرون". كما أصدرت الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بياناً بخصوص تحديد بداية شهر رمضان المبارك لعام 1432ه، أكدت فيه على قرار المجمع الفقهي الدولي في قراره رقم (18) في مؤتمره الثالث لعام 1986، أنه لا عبرة باختلاف المطالع لعموم الخطاب: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.."، وعلى ما صدر عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته التاسعة عشرة حول اثبات دخول الشهور القمرية والتي أشارت إلى: (1) أن الحساب الفلكي أصبح أحد العلوم المعاصرة التي وصلت إلى درجة عالية من الدقة بكل ما يتعلق بحركة الكواكب السيارة وخصوصاً حركة القمر والأرض ومعرفة مواضعها بالنسبة للقبة السماوية، وحساب مواضعها بالنسبة لبعضها البعض في كل لحظة من لحظات الزمن بصورة قطعية لا تقبل الشك. (2) أنّ وقت اجتماع الشمس والأرض والقمر أو ما يعبر عنه بالاقتران أو الاستسرار أو المحاق حدث كوني يحصل في لحظة زمنية واحدة، ويستطيع علم الفلك أن يحسب هذا الوقت بدقة فائقة بصورة مسبقة قبل وقوعه لعدد من السنين، وهو يعني انتهاء الشهر المنصرم وابتداء الشهر الجديد فلكياً. والاقتران يمكن أن يحدث في أي لحظة من لحظات الليل والنهار. (3) يثبت دخول الشهر الجديد شرعياً إذا توافر ما يلي: أولاً: أن يكون الاقتران قد حدث فعلاً قبل غروب الشمس. ثانياً: أن يكون هناك إمكانية لرؤية الهلال بالعين المجردة أو بالاستعانة بآلات الرصد في أي موقع على سطح الأرض، ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. ثالثاً: لقبول إمكانية رؤية الهلال لا بد أن تتحقق الشروط الفلكية التالية: أ - أن يغرب الهلال بعد غروب الشمس في موقع إمكانية الرؤية. ب - ألا تقلّ زاوية ارتفاع القمر عن الأفق عند غروب الشمس عن خمس درجات. ج - ألاّ يقلّ البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن ثماني درجات. (4) على المسلمين في البلاد الأوروبية أن يأخذوا بهذه القاعدة في دخول الشهور القمرية والخروج منها، وخصوصاً شهريّ رمضان وشوال وتحديد مواعيد هذه الشهور بصورة مسبقة، مما يساعد على تأدية عباداتهم وما يتعلق بها من أعياد ومناسبات وتنظيم ذلك مع ارتباطاتها في المجتمع الذي تعيش فيه. (5) يوصي المجلس أعضاءه وأئمة المساجد وعلماء الشريعة في المجتمعات الإسلامية وغيرها بالعمل على ترسيخ ثقافة احترام ما انتهى إليه القطعي من علوم الحساب الفلكي عندما يقرر عدم إمكانية الرؤية، بسبب عدم حدوث الاقتران، وألا يُدعى إلى ترائي الهلال، ولا يقبل ادعاء رؤيته. وبناءً عليه تعلن الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بخصوص رؤية هلال شهر رمضان المبارك للعام الهجري 1432ه 2011، أن المعلومات الفلكية العلمية تؤكد التالي: أكدت الحسابات الفلكية الدقيقة أن هلال شهر رمضان لعام1432ه يلد في الساعة (18:40) حسب التوقيت العالمي الموحد (غرينتشGMT) من يوم السبت الواقع في 30 يوليو 2011 أو ما يوافق الساعة (21:40) حسب التوقيت المحلي لمكةالمكرمة (الخرطوم). (1) وتدل الدراسات الفلكية لإمكانية رؤية الهلال حسب الشروط التي تبناها المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث في قراره الذي اتخذه في دورته العادية التاسعة عشرة المنعقدة في اسطنبول في الفترة 8-12 رجب 1430ه الموافق 30 يونيو - 4 يوليو 2009 أن الرؤية غير ممكنة في مساء يوم 30 يوليو في أي موقع، بينما تصبح ممكنة في مساء 31 يوليو الحالي باستعمال الراصدة في قسم كبيرمن إفريقيا الشمالية وشمال الجزيرة العربية ومناطق متعددة من أميركا الشمالية، وهي ممكنة بالرؤية المباشرة في جميع دول أمريكا اللاتينية، إضافة إلى منطقة واسعة من جنوب القارة الأفريقية. (2) وعلى سبيل المثال في مدينة مكةالمكرمة (الخرطوم) تغرب الشمس في مساء 31 يوليو الحالي، مثلاً في الساعة (19:01) ويغرب القمر في الساعة (19:26) أي أنّ القمر يتأخر في غروبه عن الشمس ب (25 دقيقة. وفي مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا تغرب الشمس في الساعة (18:05) بينما يغرب القمر في الساعة (19:07) أي أنّ القمر يتأخر بأكثر من ساعة في غروبه عن الشمس. (3) وبناء على هذه الشروط وعلى ما أكده المجلس الفقهي الدولي في قراره رقم (18) في مؤتمره الثالث لعام 1986، أنه لا عبرة باختلاف المطالع لعموم الخطاب: "صُومُوا لرُؤيَتِه وأفْطِرُوا لِرُؤيَته.."، لذا سيكون أول شهر رمضان لعام 1432ه بإذن الله تعالى في يوم الاثنين الموافق الأول من أغسطس 2011. أخلص إلى أنّ هذه المسائل الخلافية لا ينبغي أن يثرب فيه أحد على الآخر، إذ الاجتهاد فيها سائغ، ولكن الذي يترجح من القولين في هذه المسألة لدى أهل العلم السابقين هو القول بتوحيد المطالع، وهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، حاضراً، خاصةً أنه في عصر التكنولوجيا وتطور تقنية الاتصالات، مما جعل العالم أصبح كقرية واحدة، لسهولة الاتصال ويسره، إلى الدرجة التي دفعت البروفسور الكندي مارشال ماكلوهان إلى القول "إنّ العالم أصبح قرية". كما أنّ توحيد المطالع بالنسبة للشهور العربية، خاصةً شهريّ رمضان وشوال، صارت دعوة صريحة إلى تغليب الوحدة، ونبذ الاختلاف والتفرق في عبادة الصوم، باعتبارها ركنا ركينا من أركان الإسلام الخمسة، لا يكون تمام الإسلام إلا بإتيان هذا الركن المهم من أركان الدين الإسلامي. كما علينا الأخذ بأسباب العلم والتقدم في مسائل التدين، وذلك من خلال استخدام الحساب الفلكي الذي أصبح أحد العلوم المعاصرة التي وصلت إلى درجة عالية من الدقة بكل ما يتعلق بحركة الكواكب السيّارة، وخصوصاً حركة القمر والأرض ومعرفة مواضعها بالنسبة للسماء، وحساب مواضعها بالنسبة لبعضها البعض في كل لحظة من لحظات الزمن بصورة قطعية لا تقبل الشك. وأحسب أنّه من الضروري هنا الإشارة إلى الجهد العلمي الفلكي المقدر الذي يبذله الأخ الدكتور معاوية حامد شداد أستاذ الفيزياء في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، في مجال رصد مطالع الشهور العربية، خاصةً شهريّ رمضان وشوال في السودان، والإشادة أيضاً بهذه الجهود العلمية الفلكية للأخ الدكتور معاوية شداد، لأنّها تُفيد كثيراً المسلمين في السودان. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". وقول الشاعر: رمضانُ أقبل يا أولي الألباب فاستقبلوه بعد طول غياب عامٌ مضى من عمرنا في غفلةٍ فتنبهوا فالعمر ظل سحاب وتهيأوا لتصبُّرٍ ومشقةٍ فأجور من صبروا بغير حساب الله يجزي الصائمين لأنهم من أجله سخروا بكل صعاب لا يدخل الريّان إلا صائمٌ أكرم بباب الصوم في الأبواب Imam Imam [[email protected]]