[email protected] ( 1 ) لا أتذكر كيف مرت أيامي في ذلك الشهر الذي عرفته الذاكرة العربية بشهر الثورات والانقلابات : يوليو . بل لا أتذكر تفاصيل ساعاته ودقائقه وثوانيه، لكن كما يقول الشاعرالمصري الراحل صلاح عبد الصبور: "طويل الجرح يغري بالتناسي". في فجوات الحُزن الطويل، أتذكر أنّي لم أكن وقتها في قاعة الدّرس في جامعة الخرطوم . الإنقلاب على النميري ، لم يصل لشيء . التظاهرة الكبيرة ، وقد كنت شاهداً عليها عند تقاطع شلرع الجامعة مع شارع القصر. البيارق الحمراء ترفرف فيما العيون الكثيرة مُحاصرة بذهولٍ، وَبِحيرة . اللافتاتُ المكتوبة على عجل لا تثبت على سارياتها. العرقُ يتصبّب على خدودٍ مكدودة. جماهير مؤيدة وأخرى معارضة، وبينهما غمار الناس في غمار الذهول. انتظار يطول لبيانات يُنتظر أن تضع النقاط على كلماتٍ، جاءت لتصحّح التواءات اللواءِ، وتسلّطه واحتكار مسدسهِ القرارات المصيرية. لا أحد غيره كان يعرف ما سيمكن أن يقع. هاشم العطا وحده الذي كان يعرف، أنّ الموتَ مُلاقيهِ عند المُنحنى القريب، فقد تآمر كبارٌ في لندن مع مجنونٍ في ليبيا، تمثّله الناس عاقلا ثوريّا . قال فرعونٌ مستكبرٌ في القاهرة، أن أسنان دولة الاتحاد التي تبنّاها بين مصر وليبيا والسودان، "قد بانت أسنانها في الخرطوم " ! ( 2 ) كُنّا نتسكّع في حيرتنا في تلك الظهيرة، والشمسُ تلهبَ ظهوراً مكدودة، وأسئلةٌ لا إجابات عليها تُحلّق فوق رؤوسنا. نتسكّع . نعم ، فماذا يمكن أن يفعل طلبةٌ جامعيون، سمعوا أنّ أصدقاءاً لهم ساندوا التغيير المسلح، غير أن يعلفوا حيرة وشكوكاً، لا تمحوها أنباءٌ تأتي بها أسياف أو كتب على زعم أبي تمام. الشعر كله خرج في إجازة إلى زمانٍ آخر. إلى فضاءٍ آخر. هاجرتْ القوافي والكلامُ الجميل. استدار محجوب شريف على قوافيهِ، وتراجع وأنكر فارسنا وحارسنا، وذلك الحُلم الوطني المؤود. الشمسُ تدلّت بأكثر مما يجب. العربةُ العسكرية تنهب شارع الأربعين نهباً مُستعراً، تتجه من قلب أم درمان شمالاً . ملامح الرائد هاشم راسخة في الذاكرة، يطل وجههُ واضحا من نافذة السيارة. نعم، هو هاشم في بزّته العسكرية، في صرامته العسكرية . إلى أين؟ النهارُ اللاهبُ لا يوحي بإجابة. الإذاعةُ ليستْ في نواحي شارع الأربعين. سألتْ الذاكرةُ نفسَها : كيفَ وبعدَ أربعين عاماً ، يكتب صديقك مُصطفى مُدثر ، وكأنّه كان البارحة يتنفس تاريخ الإنقلاب، يُدوزن حُزنه الثوري في شارعِ القصر. هل تذكر يا صديق الصّبا، صديقاً لنا في سنوات الدراسة في مدرسة المؤتمر الثانوية في أم درمان، إسمهُ فيصل كبلو، وقد ذهب ضابطاً في الكلية ، ثم يصير مُلازما في الحرس الجمهوري، ثم لا نراه من بعد، إذ كان رقماً في حركة 19 يوليو1971..؟ وهل تذكر معي صديقنا فيصل مصطفى، وهو المُلازم المُغامر، أنقذته الأقدار بتقادمِ الساعاتِ في دارفور، من حبلٍ أعدّه اللواءُ المتسلط، لكلّ من حدّثته نفسه أن يقول "لا " ، بالصوت المدوّي. .؟ لا أعرف أين ضاع مِنّي فيصل محجوب كبلو، ولكن فيصل مصطفى الضابط الآخر، التقاني في بيروت، وأنا سفيرٌ هناك. لأكثر من ثلاثة عقود لم أرَهُ خلالها. جاء إلى لبنان بمسئولياتٍ كبيرة في الأممالمتحدة ، في مهمة ميدانية تتعلّق بسلامة قوات "اليونيفيل" في لبنان. كان "نهر البارد" يسيل دماً في لبنان ، ولا يفيض كما اعتاد، ليروي الزرع بمائه. كان فيصل كما عركناه أيام الثانوية في مدرسة المؤتمر، وأيام داخليات البركس في جامعة الخرطوم، حين كنّا هناك في أيام مصادمة "ليلة العجكو"، والأوغاد يرفعون الكراسي على أسنّة النفاق والتكاذب الديني . تلك أيام ، أيها الصديق، لها رائحة الرجولة النفاذة. في لبنان، حيث هو هناك، لا أوغاد يتجولون بغدّارات خائنة، بل زمرة مُلتحين رفعوا رايات العنف غير السّوي ، في نواحي طرابلس ، إحدى مراكز الإسلام السُّني في شمال لبنان. التاريخ يُنكر اللّحَى والتزمّت والتطرّف في تلك الأنحاء، لكنهم رأوا أن يلتفوا بمخادعاتهم على التاريخ، ليكسروا جناحه إلى جانبهم. نظرتُ في ملامح صديقي . رأيت عنفوان الصبا وقد تراجع تحت ثقل المهام الجسام ، وطغا الهدوء المستدام على الانفعال الطاريء. الرزانة تربو مع الحكمة ومضي الأيام. . نظرت ملياً إليه. كان الوطنُ يلوح جرحاً قديماً في ملامح صديقي فيصل مصطفى. ولكن أين ضاع مني فيصل كبلو . . ؟ ( 3 ) يوليو 22 من عام 1971.. كان الاضطراب سيدَ الفضاء، وخليلنا في الأمكنة المريبة، قلقٌ مُطبقٌ، والمصائر معلقة في فضاءٍ لم تُنصب فيه المشانق بعد. الإذاعة لا يصدر عنها ما يُطمئن . تضاربتْ الأخبار عن طائرات تُختطف وطائرات تُسقط في طيرانها وسمواتها. التغيير. . هل كان يستهدف الخير أم الشر ؟ لو كان الشرّ هو قلب الأجندا ، للقيَ اللواءُ المتسلط حتفه، وانتهت المسرحية في القصر، قبل أن يُسدل عليها ستار، ولارتفع سؤالٌ: كيف تسقط طائرة على متنها حفيدٌ للخليفة عبد الله التعايشي، وبشارات الخلاص بيديه .. ؟ يوم 22 يوليو ، قبل أربعين عاما. كنّا نتسكع ، لا تحتملنا غرفنا ولا جامعاتنا ولا شوارع المدينة من فرط قلق اللحظة، وهيَ توشك أن تحترق نهارا. في آخر اليوم وقبل المغيب ، جنّ جنون المُدرّعات والسيّارات العسكرية ، وامتلأتْ الطرقات والأزقة بجنود موتورون، ويصيح راديو أم درمان أنّه عاد . اللواءُ المُتسلط ركب من جديد موجة السلطة . منع الناس من التجول، حتى يتاح للدم أن يسيل بيسرٍ في الشوارع . حتى تنحبس الدمعة في المآقي وتمنع من أن تترجم البكاء في العلن. حتى يتزيّا الجُبن برداءِ الشجاعة فتكتمل أهزوجة الجنون . قلت لقريبي وصديقي كمال صالح، أنها الطّامة الكبرى . أقبلنا على أوراقنا ووثائقنا وكتبنا ، نُخفيها عن أعينٍ مُستريبة، مشغولة بالدّمِ والتخوين. . لم نكن نمتلك ما يقودنا إلى المشانق المنصوبة بالطبع ، ولكن الأقربون ، الأكبر سناً تبرعوا بالنّصح ، كما بالتخويف. الرصاص الخائف لا يميّز ولا يرى ولا يسمع. تمَسّكنا بالحذرِ وبالخوف . ( 4 ) قبل المغيبِ ، جاءنا من يخبرنا أن عمّاً لنا لقي مصرعهُ برصاصٍ أطلقه جنديٌ موتور على سيارة أجرة لم تستجب لإشارته بالتوقف. عمّنا المسكين وإسمه "شمينا"، لا ناقة له ولا جمل في الذي يدور من حوله . يعمل إسكافيا في محل قديم له في سوق الخرطوم، طوال اليوم من الصباح إلى المساء . أغلب الظنّ أنّ إحساسه الفطري أوحى له إنه غير معنيٌّ بمنع التجول أو إباحته. كان خارج الفضاء المُلتهب تماماً. سيارة الأجرة تنهب الجسر نهبا لتعبر إلى أم درمان، والمذياع يعوي بأناشيد عسكرية ومارشات مزعجة . كان السائق الغافل يسابق دقائق الإنذار بمنع التجول . في الثواني الفاصلة، جنديٌ مِن حُرّاس مُدجّجون عند مدخلِ جسر النيل الأبيض فتح رشاشه على السيارة العابرة. في أعلى حالات توتره، قتل إثنين من ركابها على الفور . سالَ دم الضحيتين بلونِ أبيضٍ مثل لون النيل الذي يجري تحت الجسر، وكان اللون الأحمر القاني يسيل هناك في ذات اللحظة، في مدرعات "الشجرة" . كانت سيارة الأجرة صفراء فاقعٌ لونها، يعجب عساكر موتورين، ولم تكن في لونٍ أخضرٍ داكن، كلونِ المدرّعات. كان الأقربون يقرأون الفاتحة على روحِ القتيل، وأعينهم على ساعات اليد، يحسبون كم بقي من الزمن على أوان منع التجوّل. شقيق القتيل قال إنه لن يأبه بمن منع ومن أباح، وإنه يصرّ على ستر الجثمان ، أول الليل أو آخره. وقف معه إثنان ، ثلاثة، سبعة. جموع من الناس لا يُعدوا ولا يُحصوا، رفعوا الجثمان فوق الأكتاف، ولم يستأذنوا أحدا، منطلقين إلى مقابر "حمد النيل" . ( 5 ) الانقلابات العسكرية ، كما الطواعين والأوبئة الفتاكة ، لا مهرب منها في عوالمنا المرقومة في الدرجات السفلى، ولا حظّ لشعوبنا الرهينة، في حُلمٍ طليقٍ أو لسانٍ حُرٍّ أو أقدارٍ تُمسك أيدينا بها ولا يُمسكها عنّا الآخرون. جنرالات يهبون باكراً من غفوات التآمر ليتقلدوا مصائر الناس وصياغة أقدارهم. لكن لن يكون الدواء من أصل الداء . لن يكون الكي بلسماً في هذه الحالة. عرف هاشم العطا أنه دفع دماُ مستحقاً لنصل نحن إلى تجليات التغيير المحتومة، ولكي يكون الحلم حلماً مستداما. حتى ندرك مدلولات الوجود ومعنى "أن نعيش وننتصر". ليسوا وحدهم من في الصفوف الأولى ، بل هناك من لا تلحظهم عدسة الكاميرا، ولا يطاردهم صحفيو الباباراتسي، ولا تسجلهم دفاتر التاريخ إلا ذكراً عابرا. . أعادت الذاكرة ، وبعد أربعين عاما وقائع كثيرة ، هيَ مما شاهدت وليس مما قرأت أو سمعت . تذكرت أيها الصديق البعيد، لمع تلك الأيام في صخبها وفي هدؤ وقعها . تذكرت أصدقائي ، الفيصلين ، وعمي الراحل "شمينا" ... لكن في قلب الصورة، يقف مَنْ لحظته عدساتُ التاريخ، وأضاءت وجهه واضحا. . الخرطوم 8 أغسطس 2011