لم يتحلل جسم ثقافي من مسئولياته كما فعلنا في هذا البلد، تقسمنا شيعاً وكان جملة حاصلنا بلادة في التفكير وسذاجة في التنظير، عز لها نظير؛ فقعودنا عن أداء مهامنا الوطنية الكبرى، سببه انشغالنا الباكر بالتافه من الأمور، والرخيص من بضاعة المعرفة، وكلما تعمقنا أكثر في إنجاز مشاريعنا الوهمية، انخرطنا بوعي فريد في الزيف والتزييف، وتركنا ما هو أهم وأجدى، طبعاً مثل هذا الكلام المجاني الذي كتبته سابقاً يمكن أن يقرأ باعتباره نعي أليم لمشاريع الوجود السوداني، كما يمكن أن يستخدمه من شاء شعارات يعزي بها نفسه، لكن دون هذا وذاك دعونا نقول إن حديثنا هو عن (طبقة) جثمت على صدر هذا المجتمع منذ بروز نهضته في الثلاثينات إنهم الفاعلين الاجتماعيين، أي مدبرو الشأن العام، والطبقة هذه يشغلها جداً إثبات حقها في الكلام دون غيرها، وعلى البقية التحاف الصمت وتقديس الطاعة، يحكم فعل هذه الطبقة أخلاق (الطاعة) التي إنسربت داخل الثقافة السودانية من بقايا التصوف البدائي، ووسمت تصوراتنا الاجتماعية. إن الطبقة التي أعني هي جملة (الساطحين) عن تربة المجتمع السوداني، جميعهم؛ المثقفون في السياسة، والسياسيون في الثقافة، الرياضون في الطب، والطباؤون في الرياضة، الحكاؤون في بيوت العزاء، والدامعون في مراتع الفرح، الشامخون عند الكلام، الهاربون عند اللقا، الجماعات الثقافية بين – عام- للأدباء والكتاب (السودانيين) - وعام آخر للكتاب (السودانين)، وهذه الأخيرة تعبر بصدق عن أوهام هذه الطبقة! الطبقة التي تسعى لاحتكار الهوية خاصة لها دون آخرين، فلا يوجد وعي لعاقل أن يسمي نفسه بهويته وهو وسط جماعته! فالأدباء هم سودانيون، والكتاب سودانيون، وما تفرقهم إلى جسمين إلا دليل فشل التوصيف، فتبني السودانية هنا هو (حالة) تقف ضد (حالات) أخرى، كمن يريد أن يثبت أن غيره ليس هو!!، ولعل أوهام الطبقة المثقفة في سوداننا هي أوهام من جنس (أوهامات) كثيرة، كمن ينظر إلى الفعل السياسي على أنه رسالة، أو من يظن في نصه الإبداعي جنساً فريداً يناطح به قومه ويعري به سلبياتهم، كأن يقابلك أحدهم ليقول أنه قد قرأ (كل) ما كتب في الأدب والفلسفة وعلم النفس والسياسة (وكل) هذه هي آفة المعرفة السودانية، فاشتغال البعض على قضايا فكرية أو الانخراط في كيانات سياسية يحمل كثيرون على الاسترزاق المجاني ، ويظن بنفسه الظنون، وكأنه (ماحصلش!)، ولأن المقام ليس لتكريس هذه الأشكال من المعرفة الزائفة في أذهان القراء، فإننا نريد أن نعرض لأوهام الطبقة الثقافية؛ الطبقة التي تشتغل في الراهن لأجل اليومي، وإن كان إدعاؤها أنها تشتغل لأجل المستقبل، أي مستقبل هذا الذي يتم النظر إليه من ثقب الحاجة الملحة وضغط الراهن! دون الأخذ في الاعتبار تشظي الظاهر لماضي وحاضر ومستقبل! وأفراد هذه الطبقة لا تنظر إلى الظاهرة الاجتماعية كجسم معقد مليء بالدهنيات التي تحتاج إلى إحكام من نوع فاعل، بل إن جملة أفكار هذه الطبقة توسلها بالزائف من المشكلات لأجل الإدعاء الغامض بأننا نعمل لمصلحة هذا الوطن!، كما لا يفوتنا القول إن جملة أفعال (السطاحين) هذه تتلخص في أنها طبقات تختفي خلف ذاتيتها الضيقة، رغم إدعاءها الشمول، والقيمة المركزية لهذه ال(سطوح) هي (الطاعة)؛ والطاعة الجوفاء، فقيم الطاعة اكتسبها أفراد هذه الطبقات وهم في الأصل طبقة واحدة تشترك في الفعل والإنتاج، وتتسيد هذه القيمة نظام قيمها، وهو ينعون على الآخرين تطفلهم في كل شيء يخص البلد، ويمارسون ذات الدور يريدون كل شيء لهم وإلا فلا!، ففي السياسة قيمة الطاعة للحاكم هي المطلقة؛ الحاكم هنا هو (مولانا – الإمام – الرئيس أو أو أو..الخ)، وفي الثقافة كذلك، ويظنون كما ظن دبشليم في حكاية (كليلة ودمنة) أن الحكمة تؤتى من أفواه الحيوانات ومن غير ذوات العقول، وما يجعل هذه الطبقة مكلفة للوعي السوداني أنها تتسيد المشهد وتروج (لإلوهية) من نوع ساذج، فالجماعة المسماة (العامة) تقتات على موائدهم الفارغة. إن هؤلاء العامة لا يصلحون لشيء سوى ديكور للعويل، فذاك يتبرع بدوره في كشف زيف التصورات المجانبة للصواب في المشهد الاجتماعي السوداني!، مثل هذا الحديث غير مفهوم وغامض إن لم يكن ساذج، فمشهد من أطلقنا عليهم (العامة) متكدسون، وغير بعيد كم العويل الذي انفجر فوق ورق الصحافة السودانية حزناً الأطفال الذين لقوا حتفهم تسمماً بمادة (السلسيون)، وهذه الطبقة لا يؤلمها مجاراة الخروج عرض جنائزي الدخول إليه مجاناً بل ويومي، فحالة القلق الطارئة التي يحتمى بها الكثيرون، بعضهم ينعى حال هؤلاء (العامة) جوعى وعراة، والآخر يبكيهم وبعض آخر يؤبنهم! وكأن هؤلاء (العامة) طفح على سطح المجتمع!، وهو لشيء مريب أن يتحرك المثقف فجأة لأرض الحدث ويحمل معه أعلام صارخة، فيتجمهر في ميدان الموت حاملاً جنائز وهمية تضامناً منه مع الموت. إن علينا النظر للأمر من داخلنا نحن، نحن (الطبقة) دعاة التعالي الزائف عن واقع المجتمع! والمثقف الراغب عن مجتمعه هو مثقف انتهازي بل ويعاني من ملازمة تعويض تكراري، كلما مات أحدهم رفع ينادي لصلاة الجنازة، إنه حانوتي بامتياز، يسترزق من دموع الآخرين. و(العامة) عند المثقف السوداني هم جماعة من الناس يشكلون (التيه) لكل ما هو حداثي، وذلك يقودهم ليصدروا أفعالاً خارجة عن الوعي، وأن هؤلاء (العامة) لا يملكون غطاءاً اجتماعياً ليسوا (مثقفون،متعلمون،ساسة، رياضيون..الخ) وهذا ما يمنع عنهم الحق في ممارسة وجودهم ومشاركة غيرهم أمور الحياة إلا بإذن الطبقة وحاخاماتها، فلا رأي لهم يؤخذ به بسبب اللاغطاء الذي يعيشون تحته، ولم يمنحوا الفرصة في إثبات جدوى حياتهم فعمدوا إلى الصمت وانتظار الإجابات من أعلى، إن تعالي "أناتنا" الثقافية، واستسلامنا للأوصاف الجاهزة عن "العامة" في مجتمعنا جعل أفعالنا عرضة للزيف. وقد حلل الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، قيمة التعاون في كتابه (السلطة والفرد) ترجمة وتقديم د. نوري جعفر: "إن التعاون الذي يؤدي لوحدة الجماعة مبني على أساس غريزي في جميع المخلوقات الادتماعية ومن ضمنها الإنسان، وإن هذه الظاهرة تتضح في النحل والنمل، تلك الحشرات التي لا يظهر على سلوكها ما يدعو إلى الاعتقاد بأنها تسلك سلوكاً اجتماعياً، ولكن أوهام الطبقة (طبقتنا) حالت دون هذا التعاون فرفضوا التعاون فيما بينهم، دع عنك التعاون مع آخرين لا يشاركونهم نفس الملكات، إن هذه الطبقة بجميع فئاتها تتخلف عن مجتمعها فالسياسيون يحكمون مجتمعاً من لوحات سريالية وجدت في كهف مهجور، والأدباء يجتمعون على رسم ملامح مجتمعات غير مجتمعهم، والرياضون يلعبون لأجل الشيكات وليس الجماهير، وغيرهم.. وفيلسوفنا (راسل) يواصل التأكيد على قيمة التعاون الاجتماعي في سبيل المصلحة العامة. (الطبقة) التي تتحكم في عملية الوعي، الطبقة التي تصدر المعرفة عن قرائن هي وليدة مظانها المعرفية، هذا يوجد في كل مجتمع، ولكن في سوداننا فإن الطبقة التي أعني تضم المشتغلون بالثقافة والاجتماع في كافة ضروبه، وسيظل أفراد هذه الطبقة مستنيرون، ومثقفون، وأكاديمون، أدباء، وكتاب، ورياضيون..الخ، خارج مجتمعهم طالما أن وجودهم طارئ، يبرزون بكثافة عند الحدث وكأنهم كاميرات بكماء تنظر فقط دون أحاسيس لتعود وتوضع في دواليبها في انتظار مأساة جديدة!..