ذكر شيخ الصحفيين السودانيين الأستاذ الراحل عبد الله رجب في صفحة ( 259 ) من كتابه الرائع ( مذكرات أغبش) أنه في سنة 1932م زار من السوكى الأخ المرحوم الطيب عبد الحفيظ مدينة سنجه بدعوة من الأخ المرحوم أمين نابرى .. ولما عاد قال لي ساخرا أن سنجه وليد صغير .. فقلت ماذا تعنى ؟ قال أعنى أنها بلدة صغيرة الحجم بالمقارنة مع القضارف.. وفى سنة 1937 اتضح لي أن للقضارف بعض الترجيحات .. أول مايدهشنى هو بناء السوق بنظام مخطط بناء متينا تتزاوج فيه قطع الصخر المنحوت مع الاسمنت والطوب الأحمر ..كما كانت توجد أيضا مباني أهلية قليلة في ثلاثة شوارع غرب السوق مبنية بالبناء المتين .. وقد ساعدت طبيعة أرض القضارف على متانة البناء فالطبقة الطينية تحتها قاعدة صخرية .. وحتى القش فان القضارفيون يعتمدون على قش يسمى ( البوص ) أقل جاذبية لألسنة النار.. وماساعد على توسع هذه المدينة تمركز الاقتصاد بها وفى الخمسينات سمعتهم يقارنون القضارف بالكويت ..إن سنجه تظل اقل جسامة من القضارف .وصدق الأخ الطيب عبد الحفيظ رحمة الله عليه عندما قال أن سنجه وليد صغير.. انتهى حديث الأستاذ الراحل عبد الله رجب. لم يكن الهدف من الديباجة عالية المقارنة الضيقة بين سنجهوالقضارف.. وإنما تقديم لمحة عن ماكانت علية القضارف في الثلاثينات من القرن العشرين وماهى عليه اليوم .. فقد سنحت لي قبل يومين الفرصة لزيارة أخونا العزيز مرتضى جعفر الخليفة طه بدارة العامرة بحي دارسيت بمدينة مسقط ... أتحفني من خلالها وعبر جهاز اللاب توب بصور قديمة لأصدقاء أعزاء من أبناء قضروف سعد الحبيبة .. من بينهم أخونا العزيز عمر سعيد .. والباشمهندس محمد على عثمان أعادت إلينا ذكريات لأيام طيبة جمعتنا بهم في سلطنة عمان قبل أن تتفرق بهم السبل .. غير أن مالفت نظري حقا أن من بين هذه الصور صوره حديثه لمدينة القضارف .. والصورة مأخوذة من زاوية تبرز المعالم الحضارية للمدينة .. وعلى بعد ظلال لصوامع الغلال أحد المعالم الخالدة بالمدينة . وبالرغم من روعة وحلاوة الصورة وماطرأ على مدينتنا الحبيبة من تطور وعمران جديرين بالإشادة والتقدير والفخر.. إلا أن حنين خفي شدني وأعادني إلى ذكريات قديمة في مراتع الطفولة والصبا ..عندما كانت القضارف تتمدد على مساحات شاسعة تغطيها القطاطى من كل صوب بشكلها المتميز ولونها الداكن..وهى محاطة بأشجار النيم.. وشوارع ضيقة متعرجة تكاد البيوت على جانبيها من الالتصاق مع بعضها البعض .. وكانت القطاطى في تلك الفترة الزاهية لايخلو منها حي من الأحياء.. فالمشهد من حولك يشير إلى ذلك والأحياء العريقة المكونة للمدينة تؤكد ذلك.. ابتداء من الصوفي و ديم بكر وحلة أبكر جبريل وسلامة البيه.. ومرورا بديم النور والرابعة والبطرى وأبايو ... وانتهاء بحي الميدان وديم الخامة وحلة حمد وحى الشايقية ومن حولهم حي الجناين وروينا وطردونا وحلة الملك . تلك أيام كانت للحياة فيها طعم آخر.. أيام مشبعة بالحنين والألفة والمحنه .. لم تكن الأحياء بالمدينة سوى جسور للتواصل والحراك الاجتماعي .. وجوه طيبه تألفها وتحبها من الوهلة الأولى ..سماء صافية وارض طيبة معطاءة نسميها عشقا بالبادوبة .. طبيعة ساحرة .. تلال وجبال وسهول ومرتفعات ..وفى الخريف أمطار غزيرة .. وحصاد وفير .. وخير يعم ويشمل الجميع ..رجال ونساء ديدنهم التكافل والتراحم .. تلك هي قضروف سعد بقديمها وحديثها .. وستظل أبدا زينة المدائن ..وفرحه للنفوس .... تعطى بسخاء وتجزل العطاء . تفتح زراعيها بلا من وتحتضن الكل .. تزرع الأمل والبسمة . وتحتل في قلوب أبناءها المنتشرين داخل وخارج السودان تلك المكانة السامقة التي لاتتغير مهما ادلهمت الأمور وتوالت الأحداث ..