هناك مدن تبقى في الذاكرة دوما.. يشدك اليها حنين خفى ..تأخذها بين ضلوعك أينما سرت .. تشتم رائحة ترابها .. تتمفس أريجها الفواح المغموس برائحة الطين .. تمشى فى شوارعها تنام فى أحضان أهلها .. تتذكر أدق تفاصيلها .. مدن تسحر الالباب ليس لجمال مبانيها أوشوارعها الفسيحه ولكن لبساطة أهلها وطيبتهم وصدق مشاعرهم..فأنت تألفهم من الوهله الأولى وهم كذلك يألفونك دون حواجز ..ترى فى كل واحد منهم أباك وأخاك وفى كل واحده منهم أمك وأختك. الناس في هذه المدن تتباين سحناتهم ومعتقدات ولكنهم يتآلفون في محبة عجيبة ..قلوبهم عامره بالموده ومشاعرهم صادقه ويحلمون بالخير للكل لايصادقونك لمصلحه فهم لايأبهون بالمراكز الاجتماعيه أو المكانه الأدبيه لأنهم مغموسون حتى النخاع فى انسانيتهم .. لم أشاهدهم يختلفون كثيرا أو يتنافسون على منزله بل يؤثرون بعضهم بعضا .. يتألمون معا ويفرحون معا..يعيشون الحياة بكل بساطتها . لم أراهم والا هم سباقون الى عمل الخير .. لم أسألهم إلا وعلامات الرضا تميز محياهم .. عندما يتسامرون يفرحون وعندما يختلفون يحترمون بعضهم بعضا. بيوتهم بسيطه لاتكاد تميزها وحياتهم رضيه لايتطلعون إلا لما يرضى الله ويكفيهم مذلة السؤال. لايتبرمون أو يتشكون انما الحمد سمتهم ولسان حالهم. أناس هذه المدينه هم أهل القضارف وكما تحلوا لهم تسميتها بقضروف سعد أو قدارى عند البعض .. لم أرى أجمل منها وذلك ليس تحيزا فقد حباها الله بطبيعه اخاذه فهى محاطه بتلال متفرقه تزداد جمالا واخضرارا عند هطول الامطار فى فصل الخريف.. أرضها معطاءه يسمون تربتها بالبادوبه نظرا لسواد لونها فهى تحمل فى باطنها الخير لهم ولسواهم .. مبانيها من القش يسمونها ( القطاطى جمع قطيه) حيشانها واسعه يسورونها بالقصب ويسمى ( الصريف) أهلها قدموا من أطراف الدنيا منهم العرب بقبائلهم وفروعهم والأفارقه بمشاربهم المختلفه وسحناتهم المميزه .. منهم من أتوا من دول الجوار يلتمسون الرزق والأمان كالفلاته والاحباش والاريتريون والصوماليون والأقباط واليمانيه وبعضهم قدم من بعيد كالأرمن واليونانيون والعراقيون والصقليون .. اجتمعوا معا بكل هذا الثراء وتالفوا لم تفرق بينهم سحناتهم أو أعراقهم أو معتقداتهم أو جنسياتهم بل كانوا نسيجا اجتماعيا مميزا ..تجدهم معا فى الأفراح والأتراح يستقبلون الضيف كأنه واحد منهم ..يسارعون فى عمل الخير .. يتراحمون .. يتواددون .. يتزاورون. وعندما رأينا الحياة في هذه المدينه الجميله مطلع الخمسينات وترعرعنا من بعد فى شوارعها ووسط أهلها ولعبنا في ميادينها.. و شاهدنا حرائقها .. وتوغلنا في طينها.. سكنت محبتها في قلوبنا حتى عندما أخذتنا فيما بعد مشاغل الحياة وفرقتنا المعايش بقيت هي في الذاكرة بكل تفاصيلها .. أماكن لم يستطع الزمن أن يمحوها وهى جديرة بأن نتوقف أمامها نسترجع من خلالها شريط ذكريات محبب إلى نفوسنا ولمن عاش معنا فى تلك الفتره الزاهيه ولمن جاءوا من بعدنا .. هذه الأماكن لها محبه خاصة سنتناولها بشئ من التفصيل في مناسبة أخرى بإذن الله وهى: الأحياء بالمدينة - المدارس – الوحدات الحكومية – دور الرياضه – أماكن الترفيه – المكتبات – السكه حديد – الجزاره – سوق الخضار – المركز – السجن – مكى الشابك – السرف وعد الطين – الصومعة - الأندية الرياضية – نادي القضارف- البنوك. وجهاء المدينة وظرفائها.(يتبع). زكى حنا تسفاى مسقط – سلطنة عمان