بسم الله الرحمن الرحيم ليس من السهل تحديد الأسباب التي تستتر خلف عملية اتخاذ القرار في مجال السياسة الخارجية حيث أن هناك الكثير من العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار قبل التوصل إلى حقيقة الأسباب. ما يصعب هذه المهمة في بعض الحالات عدم توافر المعلومات الضرورية، ويصدق ذلك على العوامل الفردية على سبيل المثال السمات الشخصية والدوافع الذاتية. فأحيانا يكون صانعوا القرار أنفسهم غير متأكدين من الأسباب التي دفعتهم إلى القيام بتصرف معين. ولكن وعلى الرغم من تلك الصعوبات، فإن محاولة التوصل إلى تصور جلي للأسباب التي تدفع صانع القرار إلى تبني خيارات معينة ليست مجرد مسألة نظرية لا تهم سوي المختصين. إذ أن صانعي القرار أنفسهم يجب أن يهتموا بمعرفة الأسباب التي تدفع الدول الأخرى إلى تبني خيارات محددة كما يهتمون بمعرفة دوافعهم هم أنفسهم. تعود أهمية فهم دوافع السياسة الخارجية كونه – هذا الفهم- يمكننا من التنبوء بالأحداث الدولية ومن ثم التعامل بشكل فعال معها، هذا رغم أن الخبراء في هذا المجال لم يستطيعوا بعد التنبوء بالأحداث الدولية بشكل دقيق بعد. لكن لكي يتمكن الشخص من التنبوء بسلوك السياسة الخارجية عليه أن يطرح بدءا التساؤلات الصحيحة ولا بد من مراعاة المتغيرات المهمة. حيث أن مشكلة فهم السياسة الخارجية لا تكمن فقط في عدم توفر المعلومات بل أيضا في عدم القدرة على تصنيف المعلومات المتاحة المتعلقة بموقف محدد. وسنستعرض في هذا الجزء بعض أشهر النماذج في مجال تحليل السياسة الخارجية. والتي من بين أهمها: النموذج الاستراتيجي هذا النموذج يعد من بين أكثر النماذج شيوعا. إذ استخدم الخبراء هذا النموذج في وصف تفاعلات السياسات الخارجية للدول المختلفة ومواقف القيادات السياسية في هذه الدول تجاه بعضهم البعض. يقوم هذا النموذج على قاعدة أن الدول تشكل وحدات منفصلة تسعى إلى تعظيم أهدافها في السياسة العالمية من جهة، ومن جهة أخري يميل هذا النموذج إلى النظر لعملية صنع القرار بأنها معقدة ويصعب فهم القوى السياسية الداخلية المؤثرة في صنع القرار. عليه فإن هذا النموذج يفسر السياسة الخارجية في ضوء الفعل وردة الفعل وينظر لكل تصرف على أنه عملية حسابية رشيدة قام به الطرف الآخر. وبهذا يعد هذا النموذج من أبسط النماذج في مجال تحليل السياسة الخارجية لأنه يركز على الأفعال القائمة على حسابات رشيدة لصانعي القرار وهو تصور مثالي ونادر ما يتحقق. ومن بين النقاط التي تحسب على هذا النموذج أنه يفترض أن ما يعد رشيدا بالنسبة لفاعل معين يعد كذلك رشيدا بالنسبة للفاعل الآخر، وهو أمر غير صحيح. نموذج صنع القرار القصور الذي لازم النموذج الاستراتيجي دفع الكثير من الخبراء للبحث في إمكانية إيجاد نموذج آخر لتحليل صنع القرار في السياسة الدولية، فكان أن اهتدى هؤلاء إلى ما يعرف ب"نموذج صنع القرار" وهو نموذج يحاول الربط بين العوامل الداخلية والخارجية مع استصحاب البعد الإنساني في عملية اتخاذ القرار الخارجي. وأضاف بعضهم لهذا النموذج مفهوم "مناسبة صنع القرار" وهو معني بتحليل خصائص الموقف القائم لحظة اتخاذ القرار مثل وجود أزمة أو عدم وجودها لحظة اتخاذ القرار. نموذج السياسة البيروقراطية هذا النموذج بدلا من التركيز على صانعي قرارات السياسة الخارجية يؤكد على الدور الذي يلعبه البيروقراطيين من ذوي العلاقة بعملية صنع السياسة الخارجية. فنظرا لتغيرات الواسعة والكبيرة والمستمرة في الحكومات والأحزاب السياسية في كثير من الدول من جانب، ولافتقار السياسيين عادة للخبرة اللازمة في مجال السياسة الخارجية، نجدهم دائما ما يستعينون بموظفي الخدمة المدنية الدائمين بغرض النصائح والمعلومات الضرورية، وبالتالي يزداد دور هؤلاء البيروقراطيين في رسم السياسة الخارجية، هذا بجانب أن هؤلاء البيروقراطيين هم المعنيون بأمر تنفيذ هذه السياسات وبالتالي لديهم فرصة التأثير عليها سلبا وإيجابا. النموذج التكيفي منظري هذا النموذج ينطلقون من التأثير الذي تتركه القيود الدولية على عملية صنع القرار في بلد ما. حيث يرى هؤلاء إن خيارات بعض الدول غير مطلقة، ويحاولون بالتالي تحديد خصائص البيئة الدولية التي قد تؤدي إلى نتائج معينة بغض النظر عن التصرفات والأفعال التي يتحدث عنها صانع القرار. وبناء على هذا النموذج يمكن استبعاد بعض خيارات السياسة الخارجية للدول استنادا إلى قدراتها المحدودة وموقعها الجغرافي وغيره، وكذلك مقارنة سلوك الدول حسب الفرص المتاحة لها أو القيود المفروضة عليها، لأن تلك الفرص والقيود تختلف من دولة إلى أخري. كما إن القدرات التكيفية للدول تختلف طبقا مقدراتها وإرادتها. صنع القرار التدريجي يؤكد هذا النموذج صعوبة التوصل إلى قرارات شاملة وإجراء حسابات رشيدة في مجال السياسة الدولية وذلك لوجود عنصر عدم التأكد ونقص المعلومات المطلوبة في الشؤون الدولية وكذلك لكثرة العوامل الخاصة والعامة ذات الصلة بعملية صنع قرارات السياسية الخارجية. لذا فإن هذا النموذج يميل للقول بأن صانعي القرارات لا يفكرون في الخيارات العديدة المتاحة بل يركزون على إعادة تشكيل السياسات القائمة والعمل على إصلاحها. ومن ثم لا تبنى الخيارات، في أغلب الأحيان، على الحسابات الرشيدة، ولكن على أساس ما يمكن أن يتفق عليه صانعوا القرار. لذا نجد أن هذا النموذج هو مزيج من النموذج الديمقراطي والنموذج التكيفي. تفسير السياسة الخارجية بما أن قرارات السياسة الخارجية يتخذها الأفراد فلا بد أن يكون للبعد الإنساني تأثيرا مباشرا على خيارات السياسة الخارجية. لذا فإن الخبراء في هذا المجال تناولوا أيضا العوامل المشتركة بين البشر التي تؤثر في طريقة إدراكهم وتعاملهم مع بيئتهم الدولية وعن مدى تأثير العوامل الشخصية في تبني خيارات سياسية بذاتها. كما حاول المختصون بين سلوك الأفراد والمجتمعات التي ينتمون إليها لمحاولة فهم مدى تأثير انتماء فرد ما لمجتمع معين على تصوراته وسلوكه. ومن بين الأمور المهمة في مجال تفسير السياسة الخارجية أثر تطوير المعتقدات التي تكونها المجتمعات عن نفسها وعن غيرها من المجتمعات على رؤيتها للواقع حيث أن جل هذه المفاهيم مستمدة من الأيدلوجيات والمعتقدات الدينية المختلفة وكذلك من الخبرات التاريخية للدول والمجتمعات. هناك كذلك الهياكل والمؤسسات التي تطورها المجتمعات لصنع السياسات الخارجية ومتابعة تنفيذها، ولا شك أن السياسات تختلف باختلاف هذه الهياكل. كما إن النظام السياسي المتبع في الدولة المعنية له تأثيره المباشر على عملية تفسير السياسة الخارجية مثل هل الدولة ديمقراطية أم تسلطية؟ برلمانية أم رئاسية؟ وغيره. ولا بد أن يكون للعوامل الاقتصادية وكيفية توزيع الموارد أثر على عملية صنع قرارات السياسة الخارجية. كما إن مفهوم القوة، أي هل تملك الدولة القوة أم لا؟ وهل تستطيع الدولة تحويل قدراتها إلى نفوذ في مجال السياسية الخارجية، يعتبر من العوامل الأساسية في عملية صنع القرار. ويجب الانتباه كذلك إلى تأثير الدول الأخرى على خيارات السياسة الخارجية لدولة معينة. وللوصول إلى تفسير وفهم أقرب للواقع للسياسة الخارجية، يجب الربط بين كل هذه العناصر المؤثرة مع استصحاب تفاعلها مع بعضها البعض. إن قيمة أي نظرية تكون مستمدة في التحليل الأخير من مقدرة فروضها على التعبير عن ظروف الواقع ومعطياته، وأيضا من مقدرتها على توفير المقاييس والأدوات التي يمكن تطبيقها على الواقع الذي تتعامل معه بصورة موضوعيه ومحايدة. النماذج أعلاه القائمة على نظريات محددة تجد صعوبة بالغة في تحليل وتفسير وفهم قرارات السياسة الخارجية وذلك بسبب العدد اللانهائي من العوامل والمتغيرات التي تتكون من مجموعها قرارات السياسة الخارجية. ولكن وبرغم هذه التحفظات والمشكلات العملية يمكن القول بأن هذه النماذج توفر أداة مفيدة وإيجابية في تحليل حقائق السياسة الخارجية في ارتباطها بمواقف خارجية محددة. وقد لا يكون مهما التوصل من وراء تطبيقها إلى نتائج بالغة الموضوعية ودقيقة لأننا سنظل دائما أمام مواقف تتحكم فيها أساسا الدوافع والمؤثرات الإنسانية بكل ما فيها من غموض وتضارب وتعقيد، وهو ما يجعل من شرط الموضوعية الكاملة في تتبعها وتحليلها أمرا قابلا للتحفظ.