الشريعة الإسلامية بوصفها منهجاً ربانياً لا يقبل إلا أن يكون المهيمن في حياة الناس؛ لا تغفل السياسة، بل تعدُّها أداة أصيلة لتحقيق هذه الهيمنة، باعتبار أن الحكم هو أرقى صور التمكين للدِّين في حياة الناس. وقد أشار الرسول الكريم – عليه الصلاة والسلام - إلى هذا المعنى في عدة أحاديث، منها: «تنقض عرى الإسلام عروة عروة....» الحديث، و «أول ما تفقدون من دينكم الصلاة وآخر ما تفقدون الحكم». وقد شملت الشريعة الإسلامية في أحكامها جانب السياسة بالعديد من القواعد والمفاهيم والتوجيهات والأحكام، كما أن جانب الدعوة عُنِيَ بهذه المسألة، وكذلك الجهاد، وغيرها من جوانب الشريعة. وقد اعتنى القرآن الكريم بعرض قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - مع فرعون؛ وتكرارها، وبعرض أخبار عن أشخاص أُوتوا الملك من المؤمنين ومن الكافرين؛ مقارناً بين الصنفين، مع الإشارة إلى طبائع الملوك، وهو الأمر الذي يعني أن القرآن الكريم عُني بالتوعية بالسياسة؛ بأبعادها وتجلياتها وآثارها على الأمم والشعوب. وإذا وُجِدَ في أنبياء بني إسرائيل من جمع بين النبوة والملك كداود وسليمان - عليهما السلام - ومن لم يجمع بينهما؛ فإن الله - تعالى - جمع لنبيه - عليه الصلاة والسلام - بين النبوة والحُكم؛ ليكون ذلك تأكيداً – مع ختم النبوة - على أن الشريعة والحكم (السياسة) لا يفترقان في شرعة الإسلام؛ وهو ما وقع في الديانة النصرانية وذاق ويلاته أتباع المسيح؛ عليه الصلاة والسلام. أهمية الوعي السياسي والمطلوب اليوم من الدعاة الصادقين إعادة السياسة إلى مظلة الشريعة بعد أن خرجت عنها؛ تارةً تحت مبرر أن السياسة نجاسة تنزه عنها الشريعة، وتارةً تحت مبرر أن الشريعة لم تحفل بالسياسة كما حفلت بالعقيدة والعبادة والأحكام الشخصية والمعاملات والأخلاق، وتارةً تحت مبرر أنه لا يمكن العمل بالسياسة الشرعية في ظل الأوضاع المعاصرة؛ لأنها ستجلب على الأمة الأزمات والمشاكل! وهكذا تعددت المبررات والهدف متحد: إقصاء الشريعة عن الحكم. كما أنه بات من الضروري ممارسة السياسة وَفْقاً للرؤية الشرعية؛ لإخراج الأمة من الواقع المظلم الذي يكتنفها، وللتخفيف من هذه الحرب الشعواء عليها، ولإعادة الدور لأبنائها المؤهلين لقيادتها والوصول بها إلى برِّ الأمان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن ثمَّ يصبح «الوعي السياسي» ضرورة وواجباً حتمياً على الأمة. ولكي نقدر أكثر مدى أهمية «الوعي السياسي» فإن علينا النظر إلى الآثار المترتبة على غيابه عن الساحة، ومن ذلك: 1 - الجهل باللغة السياسية المستخدمة اليوم؛ سواء كان ذلك على مستوى الألفاظ أو العبارات، وهو الأمر الذي جعل بعضهم ينخدع بهذه اللغة أو يحاربها على ما فيها من حق. 2 - الجهل بأساليب السياسة وأبعادها، ومن ثم وقوع كثير من أبناء الحركات الإسلامية في أحابيلها. 3 - غياب الرؤية الإستراتيجية للواقع والمستقبل، ومن ثمَّ غاب التخطيط الإستراتيجي الشامل بعيد المدى. 4 - عجز العاملين للإسلام عن تقديم حل متكامل لأزمة الأمة يستوعب ظروفها وأوضاعها والمخاطر التي تتهددها والأولويات التي ينبغي الالتفات إليها. 5 - تنفيذ بعضهم لمخططات الأعداء أو خدمة أهدافهم دون الشعور بذلك. 6 - غياب فقه المقاصد والمصالح والضروريات والخلاف، في مقابل الإصرار على الاجتهادات الفردية والرؤية الحزبية والافتراق على مسائل فرعية. 7 - ضعف أساليب جلّ الحركات الإسلامية في مواجهة المشاريع المعادية للإسلام، واعتمادها على الآنيَّة والظاهرة الصوتية والارتجالية الفردية. 8 - ضعف الخطاب السياسي الإسلامي وقصوره عن طموحات الأمة. 9 - النكبات المتتالية التي تتلقاها فصائل العمل الإسلامي بأطيافها كافة وهي تحاول الوصول إلى السلطة. 10 - غياب التوازن في الحلول الإسلامية بين التشدد المُفْرِط بذريعة الالتزام، والانحلال المُفَرِّط بذريعة العصرنة. 11 - ضياع الفرص المناسبة، وعدم الشعور بالخسائر الراهنة والمستقبلية جرَّاء ذلك. 12 - الخلاف والصراع بين فصائل العمل الإسلامي. وفي العموم: فإن من «الوعي السياسي» ما هو فرض عين على كل مسلم، ومنه ما هو فرض كفاية إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، أما العمل السياسي فهو فرض كفاية مطلقاً إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين. فمن «الوعي السياسي» الذي هو فرض عين لا يجادل فيه أحد؛ وعي المسلم بضرورة الاجتماع والولاء للأمة، وضرورة نصب وليٍّ للأمر، له من الحقوق مقابل ما عليه من الواجبات، ووعيه بلازم البيعة بينه وبين وليِّ الأمر، ووعيه بضرورة احتكامه إلى شرع الله، وصور هذا الاحتكام، ووعيه بضرورة الشورى والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أهداف «الوعي السياسي»: يهدف «الوعي السياسي» إلى فهم الواقع الذي تعيشه الأمة، وتقدير موقعه في مسار حركة التاريخ صعوداً أو هبوطاً، مع معرفة نقاط الضعف وعوامل القوة، والفرص المتاحة والمخاطر المتوقعة، والمشاكل الخفية والظواهر المؤثرة، وسُبل الحل وآليات المعالجة، وإدراك القوى الفاعلة في الأحداث والمصالح المتقاطعة بينها، وكيفية إدارة الصراع على السلطة مع تفادي الخسائر والحفاظ على المكاسب. و «الوعي السياسي» يستلزم الوعي بالسنن الإلهية الكونية في الدول والمجتمعات، والوعي بمسار التاريخ صعوداً وهبوطاً؛ إقبالاً وإدباراً، والوعي بطبيعة السلطة وتأثيرها في النفس البشرية، والوعي بأساليب ممارسة السلطة والعوامل المؤثرة على أدائها، ودوائر صنع القرار والقوى المؤثرة عليها، والوعي بمراكز القوة والضعف في المجتمعات، والوعي بالمخاطر والأزمات، والوعي بطبيعة النفس الإنسانية والعوامل المؤثرة عليها بوصفها اللَّبِنة الأولى التي يبنى عليها المجتمع، والوعي بصلة السياسة بالدين والأخلاق والمصالح، وتأثير كل منها على الآخر. إذن ف «الوعي السياسي» عموماً يستلزم كل ما له صلة بتفسير الظواهر الإنسانية والاجتماعية والتاريخية المتصلة بالأمم والشعوب والجماعات، فهو ليس مجرد معلومات تُجمع وآراء تُقرأ، بل هو عملية متواصلة عميقة تأخذ حظها من البحث والدراسة والتأمل والتحليل والمقارنة والتجربة؛ لذلك فإنه لا يتأتَّى من مقاعد الدراسة ولا من منابر الخطابة ولا من قراءة الكتب، بل يجب - إضافة إلى ذلك - مراقبة الأمور وتتبُّع الأحوال ورصد المتغيرات والتدقيق في الأحداث والمواقف وربطها مع أنساقها ومساقها التاريخي. كما أن «الوعي السياسي» أداة من أدوات تشكيل الرأي العام الجماهيري، وهو المدخل إلى توحيد الصفوف وتوجيه طاقاتها الوجهة الصحيحة، بحيث تصبح الجماهير مؤثرة بمواقفها في تحقيق إرادتها الجمعية، والدفاع عن حقوقها العامة ومقدراتها القومية، وانتخاب من يمثِّلها لاستلام زمام القيادة لإدارة قدراتها وإمكاناتها لصالح أمنها واستقرارها ورخائها وقوتها ونموها. مصادر «الوعي السياسي»: لا يشك عاقل أن التاريخ - من حيث هو - مرجع مهم ل «الوعي السياسي» الإنساني عموماً؛ فهو يمثل تجربة إنسانية مشتركة، ومثالاً حياً في ذاكرة البشرية على حركة سير المجتمعات؛ لذا فإن الأمم والشعوب والدول اهتمت بكتابة التاريخ بل وقراءته وإطلاع أبنائها عليه. وقد ورثت البشرية منذ العصور الأولى مدونات تاريخية نُحت بعضها على قطع الصخور الصلبة العملاقة؛ للتأكيد على أن هناك تجربة جديرة بأن يُطَّلع عليها ويُستفاد منها. كما أن القرآن الكريم والسنة المطهرة حملا لنا شيئاً من التاريخ، إلا أنهما تضمَّنا أيضاً تفسيراً وتحليلاً إلهياً لمجريات هذا التاريخ، هذا بالإضافة إلى عدد من القواعد والأدبيات والمبادئ والأحكام في الجانب السياسي. ومن ثمَّ يمثل الوحي مرجعاً مهماً ل «الوعي السياسي» لدى الأمة، فنصوص الوحي تحدد معالم الأمة الإسلامية وترسم خصائصها وسِمَاتها، وتُجَلِّي أعداءها والمخاطر المترتبة منهم، وأساليبهم في حربها والقضاء عليها، وتقدم لها خطة للمواجهة ومشروعاً استباقياً للمعالجة، كما أنها تضمنت الوسائل السياسية المباحة في التعامل مع الآخر، في حال الضعف وحال القوة، وحال السلم وحال الحرب، كما أنها تحذر الأمة من صور الانحراف التي تقع فيها التجمعات فتصيبها بالوهن والعجز، وتجرُّ عليها أسباب الفشل والهزيمة داخلياً قبل أن يتمكن الأعداء منها. غير أنه لا غنى للمرء المسلم عن مصادر أخرى تزيد من مستوى وعيه بواقعه السياسي الذي يحيط به وتعيشه الأمة، ولهذا الوعي السياسي مصادره المختلفة، التي تتباين فيما بينها صحةً ودقةً وموضوعيةً وشمولاً. ومن هذه المصادر: - وسائل الإعلام المختلفة: التي ينبغي على المسلم التعامل معها بقدر من المهنية الصحفية والنظرة الناقدة؛ فغالباً ما تكون المعلومة الإعلامية مجتزأة وموظفة. - مواقع صنع القرار الرسمية: مؤسسات الدولة. - المشاركون في صنع القرار، والحاشية القريبة منهم: فكثيراً ما تتسرب الأخبار من مراكز صنع القرار عبر هذه المنافذ لسبب أو لآخر. - المفكرون والمحللون السياسيون: وعلى الرغم من أنهم غالباً ما يقدمون تحليلهم الشخصي وتفسيرهم الخاص للأمور في ثنايا حديثهم عن الوقائع والمجريات؛ إلا أنهم غالباً ما يحاولون تقديم التحليل والتفسير الأصوب لإثبات وجهة نظرهم. - الأحزاب والتيارات السياسية الفاعلة: فهي جزء من العملية السياسية والمؤثرة فيها. - الأبحاث والدراسات العلمية الجادة: وهذه - في الحقيقة - نادرة في بلداننا العربية؛ لأسباب موضوعية أو تقنية أو فنية، لكنها بدأت تظهر في الدراسات الإسلامية الرصينة وعبر بعض التقارير والمجلات البحثية والأبحاث الجامعية. - الظواهر المشاهدة والوقائع الملموسة: إن على الراغبين في توسيع آفاق إدراكهم السياسي ووعيهم؛ استمرار المتابعة للأحداث والوقائع والظواهر بصورة ذاتية أو عبر فريق عمل خاص مدرَّب ومؤهَّل لهذه الغاية. - دراسة النماذج المثيلة: هناك مقولة تتكرر مع كل حدث جديد: (التاريخ يعيد نفسه)! وهي مقولة منطقية ولها رصيدها من السجل التاريخي للبشرية. وعليه؛ فإن دراسة سقوط الدول تعطي محصلة للأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة، وهذه الأسباب تتطلب شروطاً موضوعية، بحيث لا يمكن إسقاط هذه الأسباب اعتباطاً، وإنما بحسب الحالة المماثلة؛ فالأمور تُقاس بأمثالها. وإذا كان علماء السياسة يُجمِعون على أن الظاهرة السياسية معقدة التركيب؛ نظراً لارتباطها بالعديد من الأطراف والمحاور وتأثُّرها بالعديد من الأبعاد والجوانب، ومن ثمَّ فهي تتشكل بحسب تفاعل هذه الأمور مجتمعة؛ فإنه يكون من الخطأ رهن «الوعي السياسي» بحدث معين أو فرد بعينه أو حالة مستقلة؛ بل الواجب هو الرصد والتتبع والاستقراء والربط بين الأمور. وعليه؛ فمصادر الوعي المذكورة سابقاً لا تعطي بمفردها رسماً دقيقاً لسير الأمور ولا تفسيراً صحيحاً لها، لكنها تعطي مؤشراً ينضم إلى بقية مؤشرات المصادر الأخرى، التي تستطيع - بالاستعانة بالتاريخ والدين وعلوم الاجتماع والنفس والنماذج المقاربة في العصر - رَسْمَ مسار واتجاه عام للأمور وتقديم تفسير لها هو أقرب إلى الصواب. مراحل تشكيل «الوعي السياسي» وأبعاده في الأمة: إن صناعة «الوعي السياسي» في ظنِّي تتضمن ثلاث عمليات متعاقبة، هي: - عملية الاتصال والتأثير والإقناع: وهي عملية تهدف إلى التواصل بالشريحة المستهدفة والتأثير فيها لجذبها نحو الخطاب المقدم لها ومن ثَمَّ إقناعها بمضمون هذا الخطاب. - عملية الصياغة والترسيخ: وهي تهدف إلى إعادة صياغة الوعي وَفْقاً للفكر منشأ هذا الوعي، كما تهدف إلى ترسيخ منهجية هذا الوعي للتصدِّي لمحاولات التضليل أو التشويه أو التعمية. - عملية الحماية المستمرة للوعي المتشكل لدى الجماهير: وهي عملية تقوم على مبدأ التغذية المستمرة والاستحثاث الدائم للوعي الجماهيري من خلال تواصل علني دائم وشفَّاف ومواجه لأيِّ محاولة اختراق أو زعزعة. وهنا تمرُّ صناعة «الوعي السياسي» بثلاث مراحل: - مرحلة الوعي بالذات: ويقصد بها المرحلة التي يتشكل فيها الوعي بالذات بوصفها شيئاً مستقلاً عن الآخرين، وفي العادة يأتي هذا الوعي في إطار جمعي له الخصائص والسمات الفكرية والشعورية والسلوكية نفسها، بحيث تمثِّل هذه الخصائص عامل ربط وانسجام بين أفراد جماعة أو أمة ما، وعامل تميز عن الآخر المخالف لهذه الخصائص والسمات. - مرحلة الوعي بالبيئة المحيطة والظروف الحالية: وهذه مرحلة تالية للمرحلة الأولى وانعكاس لها؛ فإن الإنسان عادة ما يرى بيئته ويقيم أوضاعه من خلال الجماعة التي ينتمي إليها بخصائصه وسماته، وإذا كانت هذه الجماعة لدى بعضهم تتمثل في الأسرة أو القبيلة؛ فإنها تتمثل كذلك في المذاهب الفكرية والسياسية في مراحل متقدمة من الانتماء الأوسع. - مرحلة الوعي بالعالم وحركة التاريخ: وهذه المرحلة من الوعي تأتي عقب المرحلتين السابقتين؛ شريطةَ أن يسمو المرء في انتمائه إلى ما هو أبعد من الانتماء الأسري أو القومي، ألا وهو الأفق الفكري والسياسي بشكل عام؛ فهنا يتساءل المرء عن قضايا كبيرة لا يجد لها تفسيراً في حدود الانتماء الأسري أو القومي، في حين يسعفه الفكر والسياسة بالتفسير المنطقي لها؛ إلى حدٍّ ما، وفي هذه المرحلة يكون الوعي عميقاً ومركباً حيث يبتعد المرء عن السطحية التي نشأ عليها أسرياً أو قبلياً. ويمكن ترتيب هذه المراحل بتعبير آخر: - مرحلة الوعي البسيط الجزئي. - مرحلة الوعي البسيط الشامل. - مرحلة الوعي المركب الشامل. ثمَّ إن صناعة «الوعي السياسي» تتأثر بعدة جوانب: - الجانب الفكري السائد في البيئة المراد توعيتها سياسياً: فبيئة الاستبداد لا تسمح بتشكيل وعي سياسي؛ لأنه - بالضرورة - يهدد طبيعة الاستبداد ويأتي عليها بالنقض، كما أن سيادة الفكر الفوضوي أو العبثي في بيئةٍ ما يعني غياب المنطق الذي يُبنى عليه الوعي السياسي، والشيء ذاته في بيئة تسودها الشهوانية الحيوانية فتكون هي الموجه لحركة الناس وتحديد ولاءاتهم وانتماءاتهم. - الجانب المعرفي والخبراتي: فالمجتمعات البسيطة والمعزولة غالباً ما تفقد المعرفة والخبرة، ومن ثَمَّ فهي تتعامل مع القضايا غير المألوفة لبيئتها بسطحية وسذاجة، على خلاف المجتمعات التي تنتشر فيها المعرفة ووسائلها ولها خبراتها المتراكمة تاريخياً؛ فإنها تجد في صفحات المعرفة وسطور التجارب ما يسعفها لإدراك الأمور إدراكاً عميقاً والتعامل معها بأكثر من أسلوب، وعليه؛ فإنها غالباً ما تكون أكثر وعياً بالسياسة وممارستها. - الجانب التربوي: فالتربية ترسخ المفاهيم وتؤصل القيم وتمنهج الأخلاق. وتنعكس التربية على الفرد منذ طفولته الأولى وعلى إدراكه للأشياء؛ فإذا كانت المفاهيم المرسَّخة خاطئة أو القيم المؤصلة فاسدة أو الأخلاق الممنهجة دنيئة؛ كان لها تأثيرها في مدى وعي المرء وتعاطيه مع مدركات هذا الوعي في الواقع العملي، فالجبان يرى الأمور بعين غير العين التي يرى بها الشجاع، وعلى هذا فقِسْ. - خُلطة ذوي الشأن في هذا الجانب: فمَنْ أكثرَ الجلوسَ مع قوم تشبَّع مما لديهم؛ في الفكر أو الوجدان أو الطبائع والأخلاق، وإنما تُؤتى المعرفة والخبرة في شأن من الشؤون بمجالسة من عرفوا واتصفوا به؛ فلا يدرك السياسة من غاب عن أربابها وعاف مخالطتهم على ما فيهم. ومنازلة الرجال رغم مخاطرها تجلب الفروسية، وحريٌّ بمن أراد القيادة أن يجالس الربَّان. وسائل صناعة «الوعي السياسي» وأدواتها: إن من أهمِّ وسائل صناعة الوعي السياسي العام وأدواتها في الأمة اليوم وسائل الإعلام المختلفة التي أصبحت تصل إلى أكبر قطاع من الناس في بيوتهم وأعمالهم ومجالسهم العامة وأماكن تنقُّلهم وحيثما حلّوا أو كانوا؛ فالقنوات الفضائية والإذاعات والصحف والمواقع الإلكترونية والجوَّالات تحيط المرء اليوم بالمعلومة وتجعله دائم الاطلاع على الأحداث، بل ومتفاعلاً معها إن لم يكن مؤثراً فيها. لذلك تنصبُّ جهود الدول والأحزاب والتيارات الفكرية الفاعلة على امتلاك أكبر قدر من هذه المؤسسات الأكثر شعبية على الصعيد المحلي والعالمي. ويضاف إلى هذه الوسائلِ الوسائلُ التقليدية؛ كالمجامع من دواوين وأندية ومقاهٍ وأسواق والتي غالباً ما تكون مصدر تبادل للأخبار والمعلومات وتجاذب للحديث وتعبير عن الآراء بين الناس. وجميع هذه الوسائل تقوم على فكرة الاتصال والتواصل ونقل المعلومات والأفكار وإقناع الآخرين بها من خلال صياغتها في قالب جذاب وسهل للجمهور المستهدف. المهارات اللازمة لصناعة «الوعي السياسي»: إن نجاح صناعة «الوعي السياسي» يعتمد بشكل أساس على قدرة تيارٍ ما على الاتصال بالجماهير وإقناعهم، وهذا يتطلب مهارات متنوعة تتحدد وَفْقاً لطبيعة القائمين بهذا الاتصال وخصائصهم الشخصية ومستوياتهم الثقافية والإمكانات المتاحة لهم والجمهور المستهدف والبيئة المحيطة. ومن هذه المهارات مثلاً: المهارات القيادية والإدارية، ومهارات التفكير والتخطيط الإستراتيجي، ومهارات الاتصال والإقناع، ومهارات التفاوض وإدارة الخلاف، ومهارات إدارة الأزمات وحل المشاكل، ومهارات التحليل والنقد السياسي. وحتى يتحقق «الوعي السياسي» في الأمة لا بد لها من امتلاك التالي: - مصادر معلومات تتصف بالدقة والموضوعية والشمول، أو في أقل الأحوال مصادر معلومات متباينة في أجواء من حرية التعبير. - خبراء مؤهلون في جانب تحليل المعلومات وتفسير المواقف وقراءة الأحداث واستشراف المستقبل. - قدر كبير من المساحة الفكرية والحوار لاستيعاب الآراء المختلفة وتبادل وجهات النظر. - قدرة بيانية على تقديم خطاب جماهيري متوازن ومقبول، يحافظ على الثوابت ويراعي المتغيرات ويستوعب الخلاف ويقدِّم الحلول. - قنوات مؤثرة لنشر الوعي السياسي وتشكيل الرأي العام. وإذا كنا جادين في تشكيل «الوعي السياسي»؛ فإنه علينا القيام بما يلي: 1 - تشكيل وعي الأفراد الذين من حولنا. 2 - حثُّهم على التفاعل الإيجابي مع الأحداث السياسية التي تؤثر على مستقبلهم ومستقبل أمتهم. 3 - إرشادهم إلى الأساليب والوسائل الصحيحة والمجدية لعكس إرادتهم على تفاعلات الواقع السياسي. 4 - حثُّهم على المشاركة والمساهمة في الأنشطة التي تساعدهم على التأثير الإيجابي في المجتمع وسياسة النظام الحاكم.