وبهذا أغلقت صفحة مجيدة من الرواية والكتابة الحصيفة في مصر، ليغيب بعدها عن القراء نفس طاعم من الكلمات التي تقصد الوجدان بذوق رفيع وتدفق سميح؛ مات خيري شلبي، الحكواتي الأعظم.. صاحب اللغة الرفيعه الممتده بلا سواحل، المليئة بالحكايا والأشواق. أول مناولتي له كان حين قرأت رواية "صالح هيصه"، واحده من أجمل ما قرأت في بحر السنوات العشرين الماضية. قصة عن وسط البلد القاهري، حين كان وسط البلد مازال عبارة عن حواري صغيرة تستطيل وتلتف حول بعضها لتشكل هذه الجغرافيا البديعه الندية الملأى بالناس والبشر من كافة الأصناف والأنواع. البشرية بطباعها وسلوكياتها كانت محل مراقبة عمنا خيري بذات القدر الذي كانت تأخذ بتلابيبه تفاصيل الأمكنة ومذاهب التاريخ وتحولاته. كنت حين أجلس أو أتخذ وضعاً أفقياً لقراءة روايات خيري شلبي أعدُ نفسي لجولة في اللغة والزمن والقرى والنجوع وأطراف المدن، مع مقدار عالي للفضول الذي كان ينتابني عند قراءة ملامح الشخصيات وتركيباتها. فخيري شلبي يتحرك في هذه العوالم بطاقة كاتب سيناريو مقتدر وخبرة مخرج سينمائي أريب ومعرفة إنسان حساس تجاه الحياة اليومية بلغة ناعمة الإيقاع، مليئة بالموسيقى الداخلية والمعلومات الغميسه عن الحال والأحوال. بداية الرواية دائماً ما تكون لقطات ومشاهد من عالم القصة المرجوة. نُتف سريعه مضيئة من هنا وهناك بإيقاع هاديء رصين وملتزم، ثم دخول في التفاصيل العويصه بلا هواده، كأنك تقف على بحر كبير مائج هائج ومضطرب، أحداث متوالية، قصص متفرعه، شخصيات تظهر فجأه لتختفي فجأه بعد أن تؤدي دورها المطلوب، أحداث متلاحقة ونكات وملامح من تاريخ حقيقي مع سخاء شديد في الحوار لا تغادره إلا وأنت تشعر بأنك كنت على طرف المجلس! الصنعة في أدب خير شلبي شأنها عالي، صنعة عليمة وممسكة بالظواهر والبواطن، بالمشهد ودخيلة النفس؛ وكلما قرأت له رواية تخيلت أنه لن يكتب رواية غيرها، لشد ما فيها من تفاصيل تحتاج لعمر بأكمله لتسجيلها ثم سردها مكتوبة على الناس؛ برغم هذه الغزارة العجيبة في الإنتاج، حيث ظل الرجل يكتب لعشرات السنوات بلا إنقطاع أبداً، كما أن عم خيري لم ينقطع أو يستغن عن الحياة.. كان صديقاً لفئة كبيرة ومتنوعه من الناس، ولم يكن يمر الأسبوع دون أن أراه في مجلسنا العامر ب"ميريت" في شارع قصر النيل، يجلس على كرسيه المفضل المحجوز دائماً بكامل هندامه وخاتمه اللامع في يده اليمين المتكية على عكازته الخشبية القيافه؛ يجلس مدة تخال أنه سئم المجلس والجالسين، صامتاً ناظراً في الوجوه والعيون تاره، ومحولاً بصره للتلفزيون تارة أخرى؛ ليست إلا ثواني ليعترض على جملة ما في وسط الثرثرة الجماعية المتصاعدة، ملتقطاً خيطاً ما، ليتناوله بمزاج معتدل ليبدأ كمراكبي فهيم في جر شبكة الكلام تجاه منطقته الخاصة؛ يتحدث برفعة وتؤده، ويحكي كأنه ملك رهيب يصدر فرمانات لا رجعة فيها؛ لا يلتفت لمجادل ولا يعبأ بمقاطع، فما يقوله الآن كلفه عمراً طويلاً من الجلوس بين الناس على المقاهي والمقابر والندوات وبين الكتب؛ لا أعتقد أن في العالم أو في زماننا المعاصر إنسان إحتفى بالحشيش مثلما فعل عم خيري، كتابات عم خيري تفصص سيرة الحشيش في أوج جماله وبهائه ، تقرأ فتعرف ما لهذا الحشيش من سلطان بهي على الأدمغة وتعرف ماله من نفوذ على علاقات شاربيه وما يفتحه بينهم من أبواب الوداد وأسباب الرحمة والتآلف؛ حتى لو لم يكن نصيبك من الدنيا أن تكون من مجربي هذا الصنف الذكي الطاهر، إلا أنك بلا شك ستكون من العالمين نوعاً ما بمعاني هذه النبتة العظيمه؛ ستعرف معنى الطيابه والأنس والونس والإلف والتداعي اللطيف وشفافية العلاقات الإنسانية. كل هذا بعيداً عن أي محمول أخلاقي أو قانوني خديج، فخيري شلبي يتناول الأمر من مجاميعه، بهدوء وثقة وخفة دم وصدق. الكاتب يجب أن يكون محايداً، هذا ما تقوله بعض النظريات النقدية؛ لكن من الصعب جداً أن يجعل الكاتب من القاريء شخصاً محايداً؛ هذا بالتحديد، أي جعل القاريء محايداً، هو ما يفعله خيري شلبي ببراءة شديدة، لا تملك إلا أن تقرأ وتتنفس بشغف ما تبقى لك من العمر لتكمل ما يقول ويكتب؛ السخاء الشديد والنمنمه والتشكيل الغني على وجوه الشخصيات وملامح وتكوينات الحياة تجعلك لا توفر وقتاً لمراجعة نفسك أو الجلوس على منصة القاضي: إنهم بشر، إننا بشر.. هذه معجزة خيري شلبي الكتابية، فهو صاحب منهج بهيج، لا يوصف، في المحبة والنظر إلى كيان العالمين والأحياء. دوافعي لزيارة مصر، بعد أن غادرتها في أوائل الألفينيات، كانت كثيرة، منها رؤية أصدقائي، ومجاورة أهلي لبعض الوقت، والنظر في مرآتها إلى أيام جميلة عشتها.. كذا كان من دوافعي دائماً، بل ومن دواعي سروري أن أنزل من الطائرة وأنام قليلاً في منزل إيهاب أو منزل ستي فاطمه أو أي فندق، ثم أنطلق صبيحة أول نهار إلى المكتبات بوسط البلد، مكتبة مدبولي أو الشروق، لأتبصر بما صدر أخيراً من كتب. كل عام كان من أولوياتي أن أسأل عن ديوان محمود درويش الأخير ورواية خيري شلبي، ويصادف أن تكون قد صدرت للأخير روايتين! متعه لا تضاهى وإنت جالس في البص، أو على مائدة الإفطار، أو قبل المنام لتقرأ حكاية يحكيها هذا المصري العالم ببواطن الأمور، لتشعر بأنك لم تغب لحظة، بل كمان أنك كنت في أجواء ما كتب الله عليك ولا على أجدادك أو أسلافك الأولين معايشتها.. هكذا ببساطه، تدخل في جوف التاريخ والجهات، تتوغل في المحروسه بين طيات ناسها المساكين والحرافيش والعتاولة الفتوات والمساطيل والطيبين والطيبات، ترتفع حرارة جسمك، تحب الناس أكثر، تفهم ما يدور حواليك بنعومة وسلاسة، وتنام بقلب نابض بالحياة والأحلام؛ بعد أن تقرأ رواية من روايات خيري شلبي، يحدث لك نوع من التحول الناعم، لكنه تحول حقيقي في رؤيتك للأشياء المحيطة بك، تمشي في الشارع بدراية أكبر، تتحدث مع الناس بثقة أعلى، تجلس في مجالس الأنس والصفا بهدوء أكثر، تحس غناء أم كلثوم بشغاف الفؤاد، تخشى الله في قراءات الشيخ عبدالباسط بمودة، تتعرف على المكامن والمخارج وكأنك تبلغ من العمر ألفين عام؛ في شبابي المشبوب بالبحث والإطلاع على الحياة، وجدت في كتابات خيري شلبي وحكاويه كنزاً لامعاً لا يفنى، وصرت أحدث كل أصدقائي السودانيين من الوافدين الجدد على القاهرة، انهم لو أرادوا التعرف على المحروسة، فعليهم بأربعة: خيري شلبي، أحمد فؤاد نجم، صنع الله ابراهيم وبليغ حمدي؛.. هذا الرباعي هو فتح الفتوح للدخول إلى بوابة مصر المؤمنه العمرانه؛ فالأول، هو سيرة الطبقات الشعبية والحواري والعالم السفلي المجيد. والثاني هو وجدان الناس وبوصلة المزاج العام. والثالث هو مرآة أحلام وإنهيارت الطبقة الوسطى والتحولات السياسية، والأخير، عم بليغ، هو الشارع العريض بكل ما فيه من دندشه وتأليب وبهار؛ إذن فقد كان خيري شلبي بكتاباته الجميله جداً إحدى العدسات التي أبصرت بها مصر... عدسة شديدة السخاء والألمعية والنشاط، صعدت بي إلى مراقي أوضح مما جعل الصورة شديدة البهاء والإتساق؛ لذا، فهو أحد الناس الذين جعلوا محبتي للقاهرة عامرة، وللمصريين، قاطبة، كاملة غير منقوصة بذم؛ وبقدر حزني على رحيله، فإنني وبذات القدر، أحمد الله أنه عاش وسطنا وكتب الكثير، كما أشكر الدنيا أنني تعرفت إليه بشكل إنساني ضافر من محبتي له وأحياها أمدا. ربما يمتد بي الحزن، لأن مجلسنا فقد فناناً آخر، ولأن مجلسنا فقد إنساناً آخر، ولأن سبحة الموت هلت علينا بهلالها الكتيم الكئيم، فبعد أسامة الديناصوري وعم سعيد عبيد، يطلع علينا عم خيري ليغيب.. على مقعد آخر في مجلسنا الطيب الحنون أن يظل شاغراً، وعلينا أن نتجاوز بألم فكرة الإتصال بصديق محبوب ليكمل مجلسنا العامر؛ كامل التعازي لعم نجم ولهاشم وإيهاب وابراهيم داوود ومجدي وداوود عبدالسيد ودعاء وخالد عبد الحميد وسمية ورامي، وكل أعضاء المجلس الموقر، فلكل أجل كتاب. طلال عفيفي سينمائي سوداني talal afifi [email protected]