تكمن الاهمية الأولى لهذه الرسالة في كون أن كاتبها هو نلسون روهلالا مانديلا, والاهمية الثانية في انها كتبت في فترة تاريخية مهمة تمر فيها العالم العربي بمتغيرات هائلة .توجه مانديلا برسالته الى الثوار العرب بشكل عام , وخصوصا في تونس ومصر , لان كتابتها في يوليو الماضي تزامنت مع تلك الاحداث. وقد اَثر في البدء ان يقدم لهم اعتذارا لخوضه في شانهم الخاص وهذا في حد ذاته يدل على تواضعه وادبه. يقول: (اعتذر اولا عن الخوض في شؤونكم الخاصة, وسامحوني ان كنت دسست انفي فيما لا ينبغي التقحم فيه), وانتقل بعد ذلك الى دوافع الرسالة وحصرها في دافعين هما : واجب النصح والوفاء. ثم انتقل يصف تجربته الشخصية في السجن وما بعدها باسلوب جميل ورائع , وهي تجربة صادقة لانها نابعة من قلب شخص عاش المعاناة بنفسه (لا زلت اذكر ذلك اليوم بوضوح , كان يوما مشمسا من ايام كيب تاون, خرجت من السجن بعد ان ُسلخت بين جدرانه عشرة اَلاف يوم . خرجت الى الدنيا بعد وُوريت عنها سبعا وعشرين حجة ً. لاني حلمت ان ارى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد ), ثم اضاف قائلا (ورغم ان اللحظة امام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي...إلا ان السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا ), بلا شك هذا السؤال والاجابة عنه يمثلان الهدف الاساسي من كتابة هذه الرسالة, وهو نفس السؤال الذى يؤرق قلوب الثوريين في كل مكان. كيف نحكم البلاد بعد نهاية الديكتاتور , وكيف سنتعامل مع الإرث الثقيل الذى تركه . ايجاد الاجابة لهذين السؤالين قد يختصرا المشوار ويحددا اتجاه البوصلة نحو النجاح او الفشل.فلنرجع الى الثورة الافغانية الاولى , والى الصومال ما بعد سياد بري , والى العراق ما بعد صدام , والى التجربة الافغانية الثانية. يقول مانديلا (إن اقامة العدل اصعب بكثير من هدم الظلم , فالهدم فعل سلبي والبناء فعل ايجابي. او على لغة احد مفكريكم - حسن الترابي- فإن احقاق الحق اصعب بكثير من ابطال الباطل ) نعم نتفق معه كليا فيما قاله, ونندهش في استشهاده بعبارة لدكتور حسن الترابي , وهذا يدل على انه رجل مثقف, وكما يدل ان الترابي نفسه مفكر له مكانة كبيرة في العالم الخارجي . ثم تحول بعد ذلك يصف لنا حال الثوار في مصر وتونس الذين بدأوا يعيشون صراعا داخليا بعد خروج الديكتاتور, مع العناصر السابقة التي خدمت في فترة الشمولية ويرى مانديلا بان الثوار قد يهدرون الكثير من الوقت في سب وشتم والانتقام . ويقول :(عليكم ان تتذكروا أن اتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد, فاحتواؤهم و مسامحتهم هي اكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة , ثم لايمكن جمعهم ورميهم في البحر او تحييدهم نهائيا , ثم ان لهم الحق في التعبير عن انفسهم وهو حق ينبغي ان يكون احترامه من ابجديات الثورة) , ومن المؤكد بان مانديلا في هذه الفقرة ينطلق من تجربته الخاصة التي طبقها في بلده , وهي تجربة مثالية جدا وكثيرا ما يخالف الطبائع البشرية وربما هذا هو سر نجاحها , وبروزه كقائد تاريخي ومعلم للثوار.ويقول ايضا (اذكر جيدا انني عندما خرجت من السجن كان اكبر تحد واجهني هو ان قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون ان يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق لكنني وقفت دون ذلك, وبرهنت الايام ان هذا كان الخيار الامثل , ولولاه لاغرقت جنوب افريقيا اما الى الحرب او الديكتاتورية من جديد.......ولذلك شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة ....وهي سياسة مرة ولكنها ناجعة ) لو حاولنا ان ننقل هذه الفقرة ونطبقها في واقعنا السوداني الحالي , قد نجد انفسنا مضطرين لنقدم لمانديلا وجهة نظر اخرى تختلف عن وجهة نظره , وذلك مع فائق احترامنا الشخصي له ولرايه. ان القانون الجنائي قد تطور كثيرا على المستوى الدولي في الجوانب التي تتعلق بالجرام ضد الانسانية اذا قارناه مع الفترة التي يتحدث عنها مانديلا, فمثلا قضية المسئولين السودانيين الذين ورد اسمائهم في قائمة المحكمة الجنائية الدولية تعتبر من اختصاص المحكمة الجزائية ومدعيها العام.فمطلوب من القادمين فقط ان يبحثوا في كيفية التعامل مع المحكمة مثلما يحدث في صربيا اليوم.اما القضايا الاخرى فيمكن ان يحل في اطار اخر علينا ان نبحث عنه.ويقول:(ارى انكم بهذه الطريقة – وانتم ادرى في النهاية – سترسلون رسائل الاطمئنان الى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الاخرى ان لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة, مما قد يدفع الكثير من المنتفعيين قد يميلون الى التغييركما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها ), المحاسبة او المحاكمة تعتبر ايضا اداة من ادوات الردع فعندما ينظر القادمون الى مشهد محاكمة حسني مبارك يحسبون الف حساب , و يعلمون بان الدهر يقبل ويدبر ولا يبقى على حال. ورغم ذلك نثمن تجربة جنوب افريقيا التي تعتبر اليوم من اروع قصص النجاح الانساني . وختم مانديلا رسالته بقول لرسول الكريم (ص) قائلا: اتمنى ان تستحضروا قول نبيكم" اذهبوا فانتم الطلقاء" ) , ونستغرب مرة اخرى باستشهاده بقول الرسول الكريم(ص) ويدعونا لنتذكره ونحن في نشوة الانتصار وهذا ايضا ينم على ثقافة واسعة واطلاع متبحر. ان يلجم الانسان نوازع الغضب والانتقام في ساعة النصر وهو في حد ذاته قمة العظمة, فلنرجع معه مرة اخرى الى قول الرسول الكريم ولنتخيل معه عن العذاب الذي لاقاه الرسول(ص) شخصيا من جيرانه وعشيرته , وعن عذاب صحابته من امثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر, نتخيل معهم يوم المغادرة اى يوم الهجرة , ويوم العودة يوم النصر يوم الفتح. وهو القائل "اذهبوا فانتم الطلقاء " وهو القائل ايضا من" دخل بيت ابي سفيان فهو امن" يا له من العظمة, يا له من القائد.ولنرجع الى مانديلا بعد سبعة وعشرين عاما من السجن وبعد المعاناة التي واجهها شعبه يخرج ويقول ( هم مواطنون , لهم حق التعبير, احتووهم , سامحوهم , الحقيقة والمصالحة............), يا له من القائد. لا نريد ان نكون مثاليين اكثر من الازم , ولكن نحب ان نقول جميل جدا ان يعش في عالمنا المعاصر اناس طيبين ومثاليين ومثقفين من امثال نلسون مانديلا, واجمل من ذلك ان ياخذوا من وقتهم ويخرجوا من متاعب العمر ويتهيأوا نفسيا وثقافيا ليكتبوا لنا عن تجاربهم بشكل مقالات او كتب او رسائل. وهو المعلم وكم نحن بحاجة الى ان نتعلم منه الابجديات. شاكر عبدالرسول مساعد تدريس بجامعة لويزفيل – كنتاكي shakir abdelrasool [[email protected]]