في رسالته التي وجّهها إلى الثوّار العرب في تونس ومصر، والتي نشرتها وتناقلتها عدّة صحف ومواقع إلكترونيّة 'الوطن الموريتانية، الأوان...'، اعتذر مانديلا بداية عن خوضه في الشؤون الخاصّة، واستسمح الثوّار 'إن كان يدسّ أنفه فيما لا ينبغي التقحّم فيه'، لكنّه يحسّ بأنّ واجب النصح والوفاء للمساندة التي أُولِيَها أيّام قراع الفصل العنصريّ يحتّمان عليه ردّ الجميل، 'وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتْه الأيامُ وأنضجته السجون'. المفاجأة غير السارّة بالنسبة لي، (بحسب متابعتي)، هو عدم إيلاء هذه الرسالة الأهمّيّة التي تستحقّ، لا من قبل 'المعارضات'، سواء تلك التي غدت سلطات أو تلك التي في طريقها لتغدو سلطات، ولا من قبل السلطات التي تستميت للاحتفاظ ببعض سلطاتها، ذلك يعكس أنّ مختلف الأطراف غائصة في وحل الإقصاء والتهميش بطريقة أو أخرى، وأنّ هناك مَن لا يريد الإنصات إلى صوت التعقّل في بحر الفوضى.. لا أريد أن أعيد التذكير بتاريخ مانديلا، فالرجل يتقدّم تاريخه، وأفعاله تتحدّث عنه، ولأنّ في محاولة تعريف المعرَّف تنكير بطريقة ما.. ولا أبالغ إن قلت إن رسالة مانديلا تصلح منهج عمل للفترات اللاحقة، وخطّة طريق لامناصّ من العودة إليها.. يستذكر مانديلا يوم خروجه من السجن الذي وُوري فيه سبعاً وعشرين سنة، لأنّه حلم أن يرى بلاده خالية من الظلم والقهر والاستبداد.. ويذكّر بالسؤال الأهمّ الذي كان يلحّ عليه، وهو كيف سيتعاملون مع إرث الظلم ليقيموا مكانه عدلاً؟ ويحسّ أنّ السؤال نفسه يقلق الثوّار العرب، 'وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتّجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم'. يؤكّد مانديلا 'أنّ إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبيّ والبناء فعل إيجابيّ'. ويبدي أسفه على الجدل السياسيّ اليوميّ في مصر وتونس، الذي تشي تفاصيله أنّ معظم الوقت هناك يهدر 'في سبّ وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء..'. يعدّ ذلك أمراً خاطئاً، برغم إقراره بصعوبة التخلّص من هذه المشاعر، وتفهّمه العميق للأسى الذي يعتصر القلوب، ومعرفته بمرارات الظلم التي ما تزال ماثلة، لكنّه يرى أنّ استهداف هذا القطاع الواسع من المجتمع قد يسبّب للثورة متاعب خطيرة، 'فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميّز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن'. ينطلق مانديلا من تجربته الحكيمة وخبرته العميقة، ويدعو إلى احتواء مؤيّدي النظام ومسامحتهم، ويعدّ ذلك أكبر هديّة للبلاد في هذه المرحلة، ويعلم ما يزعج الثوّار وما قد ينصفهم، لكنّه يركّز على النظر إلى المستقبل بعيداً عن النوايا المبيّتة والدعوات الانتقاميّة، 'إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير'. ويقرّ بمرارة سياسة التصارح والمسامحة، 'إنها سياسة مرّة لكنها ناجعة' لكنّه لا يجد عنها بديلاً للمضيّ نحو المستقبل بوعي الثورة، لا بعقليّة الثأر.. كما يؤكّد مانديلا أنّ الثوّار بهذه الطريقة، برأيه غير الملزم، سيرسلون 'رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتفّ حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها'. ويتمنّى في النهاية أن يستحضروا قولة النبيّ محمّد: 'اذهبوا فأنتم الطلقاء'، في إشارة إلى سنّة المسامحة التي تساهم في تنقية القلوب وتحييد الشرور المحتملة، وتثوير الجانب الخيّر في الأشخاص الأشرار.. يحرص مانديلا على الأبعاد الإنسانيّة لرسالة الثوّرة، يدرك صعوبة التهدئة في هذه المرحلة الحرجة، ويدعو إلى التسامي على الجراح والمكابرة على الآلام والمآسي، يذكّر بالقيم العظمى التي يضحّي من أجلها الثوّار، وأنّ الثأر لا يليق بالثورات، وقد يساهم في إضعافها.. لاشكّ أنّ مانديلا ينطلق من وعيه الخلاّق، ومن إدراكه للتخبّط اللاحق الذي قد يوقع فيه الثوّار أنفسهم، ومن هنا تكتسب رسالته أهمّيّة استثنائيّة، هو الذي لا يفترض فيها خطوطاً أو هياكل، بل يركّز على جانب أوحد وهو المسامحة، المسامحة التي تشكّل سبيلاً للمساواة.. الأمر لا يتعلّق بالثوّار في تونس ومصر فقط، وهم الذين نجحوا في إسقاط الرئيس، لكن دون إسقاط النظام بالكامل حتّى الآن، بل ينطبق على ليبيا واليمن وسورية، حيث العنف محتدم ومتفشٍّ، مع ملاحظة الفروق والاختلافات الكبيرة بين النماذج كلّها، إذ تبقى لكلّ دولة خصوصيّة تميّزها، وتميّز الحركات المناهضة للنظام فيها. كما يختلف كلّ نظام عن الآخر في طريقة عنفه واستشراسه.. تشكّل الاختلافات المتعاظمة في مصر وتونس بين الثوّار أنفسهم وبينهم وبين القوى الأخرى، نقاط قوّة، بطريقة أو أخرى، للأنظمة التي لم تسقط بعد، إذ تستخدم تلك الأنظمة التفاصيل الخلافيّة، لممارسة الترويع والإرهاب النفسيّين ضدّ مواليها ومناوئيها، بموازاة العنف الذي لا ينقطع، وهي بهذه تسعى إلى تمتين سبل وآليّات التمسّك بها من قبل أتباعها ومنتفعيها، وتقوّي من تمترسهم خلفها، واستماتتهم في المحافظة عليها، خوفاً من العقوبة اللاحقة والمحاسبة المؤكّدة، يساعدها في ذلك، ويدعم موقفها، انقسامُ المعارضين أنفسهم حول آليّات المعارضة، وضبابيّة البرامج اللاحقة.. (مع الاختلاف بين معارضة وأخرى). ومن هنا تتضاعف البؤر وتتكاثر الأحقاد، بحيث لا يجدي معها تجسير أو تهدئة، لأنّ كلّ طرف يتراجع إلى أقصى درجات الحمائيّة، والتي لا تخلو من استلابيّة مطلقة.. سياسات الاجتثاث المحتملة تشكّل مصدر رعب وإقلاق، ومن هنا لابدّ من الإكثار من الطمأنة الحقيقيّة والتسامي على الجراح النازفة، لأنّ الوطن يبقى الأهمّ في النهاية، وهو يستحقّ التضحيات السابقة واللاحقة كلّها، ولا يعني التسامح عدم محاسبة مَن تلطّخت أياديهم بدماء الشعب بأيّ حال من الأحوال. ولا بديل عن الحوار في هذا المجال، حوار الأنداد والمتكافئين، لا حوار الأتباع والمريدين.. وهو ما ابتدأ منه مانديلا في بناء أسطورة جنوب افريقيا المعاصرة، وما حرص أن ينصح به الثوّار العرب أن ينطلقوا.. قد يكون رأياً مثاليّاً في هذه المرحلة الحرجة الخطيرة، لكنّه المثال المنشود. والمرحلة الثوريّة لا تتطلّب من الثوّار لعق الجراح ومغالبتها فقط، بل تستوجب عليهم المكابرة عليها وتناسيها في سبيل بناء أساطير حقيقيّة معاصرة لدول تليق بالتضحيات التي قدّمت في سبيل بنائها.. هذا ما سيفهمه الجميع عاجلاً أو آجلاً، لكنّ العِبرة في تطبيق هذه العِبرة..! *روائيّ سوريّ القدس العربي