عام 1982م كنت عائداً بالقطار مع صديقي الدكتور احمد علي الإمام من رحلة قصيرة من مدينة مانشستر ، إلى أدنبره في اسكتلندا ، ولفت نظر صديقي شخصان يتحدَّثان بلغة قريبة من العربية ، فسألهما عن اللغة التي يتحدَّثان بها فأجابا : " إنَّها اللغة العِبرية لغة بني إسرائيل " وذُهل صديقي من المفاجأة التي لم يتوقعها ، واستمر الرجل يقول : " كلانا يعمل تاجراً في مجال الاستيراد في تل أبيب " ، وسألنا : من أين أنتما ؟ فبادرتهما بالحديث بأنَّني سبق أن درست اللغة العبرية في الجامعة ، وكنتُ مُبرِّزاً فيها ولكنني واجهتُ صعوبةً في فهم حديثكما ، إلا بعض الكلمات ، فجاء الرجل يسألني عن معاني بعض المفردات ، وحدَّثني عن التطور الذي حدث في اللغة العبرية ، مبيِّناً لي أنَّنا درسنا اللغة الكلاسية القديمة ، ثم أخبرني أنَّ بإمكاني حسب استعدادي الذي رآه أن أُتقن هذه اللغة في فترة وجيزة . وتحدَّثنا عن الكلمات المتقاربة المتبادلة بين العربية والعبرية ثم كرر لي الثاني سؤالهما الأول : من أيِّ بلدٍ أنتما ؟ ولمّا عَلِم أنَّنا من السُّودان ، بدأ يحدِّثنا عن علاقة إسرائيل بمصر ، وسألنا عن رأينا في السادات ومبادرته, مواقفه ، ولم يلبث أن ربط بين العلاقة الحميمة بين السادات وجعفر نميري ليقول لنا : " نحن أصدقاء أصدقائكم ، فلماذا لا تتحاورون معنا وتعطونا فرصةً لتبادل الزيارات والمعرفة ؟ " وطال حديثنا في هذه النقطة التي انقطعت بوصول القطار إلى محطة أدنبرة . بعد أيام كتبتُ إلى أحد مراكز تعليم اللغات أُخبرهم حسب إعلانهم برغبتي في العودة إلى تعلُّم العبرية ، فإذا بالبريد يحمل كُلَّ أسبوع رسالتين عن استعداد المركز للتدريس بلا مقابل إذا اجتزت امتحاناً صغيراً في العبرية مع بعض الإغراءات . أردتُ أن أخلُص من ذلك كُلِّه إلى حرص الأعداء الصهاينة على تعليم لغتهم للناس ، والمحاولات الدءوبة لمدِّ جسور التواصل مع المثقفين وانتهاز كل فرصة للحديث عن قضيتهم وآرائهم ، بينما يعيش المثقف العربي في عُزلةٍ تامة عن دراسة العقلية اليهودية والمكوِّنات النفسية والشخصية لهذه الأُمة . إنَّ إسرائيل تجهِّز نفسها منذ سنوات لمحاربة العرب حرباً ثقافية وفكرية ، لشعورها بأنَّها عاجزة عن التفوق عليهم في المجال العسكري ، لأنّ حرب رمضان المجيد حطمت أسطورة التفوق العسكري ، فاتجه الصهاينة اتجاهات كثيرة ، ومنها مجال الأدب والثقافة والفِكر ، ولعلَّ هذا يتضح لنا من اهتمام إسرائيل بمركز الدراسات الإسرائيلية في القاهرة أكثر من اهتمامها بالسفارة نفسها ، كما يتضح ذلك من مجموعة كبيرة من الروايات والقصص والدواوين العربية لأدبائنا وشعرائنا التي تُرجمت إلى اللغة العبرية ، إضافةً إلى سيطرة العلماء اليهود على أقسام الدراسات العربية والإسلامية في جامعات أوربا وأمريكا ، وهم يهدفون من دراسة الأدب العربي المعاصر بفنونه المختلفة إلى دراسة مكوِّنات الشخصية العربية ، ونفسية الإنسان العربي وطرائق تفكيره ، واهتمامات شبابه ورجاله ، ومعتقداتهم وأفكارهم وتطلعاتهم حتى يسهِّل ذلك لهم مساعدة أصحاب القرار السياسي والعسكري في وضع أُسس التعامل مع العرب . وقد بُذلت في مصر محاولات في سبيل دراسة العقلية الإسرائيلية عن طريق دراسة آدابها ، ولكنها ما زالت في طور المحاولات التي لم تتجاوز حدود مصر ، باستثناء مركز الدراسات الفلسطينية الذي حرصت إسرائيل على تدميره ونهبه عند اجتياحها للبنان ، وما زالت منظمة التحرير تطالب بتلك الدراسات والوثائق الهامة ، وقد كان دافع إسرائيل إلى ذلك أنَّها بفعلها تدمِّر نوعاً من الثقافة العربية ، والدراسات التي تُشكِّل خطورةً عليها لا تقلُّ عن خطورة المفاعل النووي العراقي الذي دُمِّر على مرأى ومسمع من العالم المتحضِّر . وفي عام 1970م صدر كتاب الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر للشاعر الفلسطيني "معين بسيسو " بعنوان " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة " تحدَّث فيه عن العوامل التي تُشكِّل العقلية الإسرائيلية ، والجهات التي تكوِّن عقلية الجندي الإسرائيلي وبعض المفاهيم الخاطئة في أذهان المثقفين العرب الذين يهتمون بالعوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية والتاريخية في تشكيل عقلية المقاتل الإسرائيلي ، مع إغفال تام لبعض الأدب بفنونه المختلفة ، فهو يذكر أنَّنا نرتكب خطأً فادحاً وربُّما يكون قاتلاً لو أسقطنا عنصر الأدب والفن من معادلة تكوين الرجل الإسرائيلي ، حيث يظن كثير منَّا أنّ الأدب الإسرائيلي يرتكز على الدعاية ، وعلى أساس سلقة مزيفة تقدّم للعالم ، ويُبيِّن المؤلِّف أنَّ الأدب الإسرائيلي يهدف إلى أهداف معينة منها : 1. إعطاء المحارب الإسرائيلي الإحساس بالارتباط بالوطن بعد أن عانى من التشريد والابتعاد مئات السنين . 2. تعميق الإحساس بالفرح بالعودة إلى أرض الميعاد بعد أن كان لا ينتمي إلى وطن وأرض ، وبعد أن كان يتحدَّث غير لغته ، وينتمي إلى غير جنسيته ، وإفهامه أنَّه قد أصبح صاحب وطن ولغة ، وجنس يستحيل التفريط في أيٍّ منها . 3. تعميق الإحساس بأنَّهم ولأول مرة يتميزون بفنونهم وآدابهم بعد أن ارتبطوا مئات السنين تاريخياً ونفسياً بآداب أُمم أُخرى ومجتمعا غريبة . 4. يركِّزون على على أنّّ قدر الجندي الإسرائيلي أن ينتصر على الدوام ، وأن يقتل قبل أن يُقتل ، وإلا كان طعاماً لأسماك البحر ، حيث لا خيار له إلا أن ينتصر . يبقى أنَّ رفض العرب لإسرائيل ليس معناه رفض دراسة فكرهم وأدبهم وصولاً إلى دراسة نفسياتهم وتفكيرهم ، ومعتقداتهم وطرق تعاملهم ، لأنَّ ذلك كله يُسهِّل مهمة التصدي لهم وكشف مخططاتهم . وفي كثير من الجامعات العربية أقسام للدراسات واللغات الشرقية في كليات الآداب ، غير أنَّ هذه الأقسام لا توجد في كل الجامعات العربية ، مع أنَّ الحاجة ماسة لدراسة آداب الأُمم ولغاتها لأسباب كثيرة ، أهمها بالنسبة لأعدائنا أن نقترب من تفكيرهم ، ونتعرّف على نفسياتهم ، ونُفسِّر تصرفاتهم وأفعالهم ، وننظر لصورتنا في الأدب الإسرائيلي حيث أصبح العربي "هو العدو الأول بعد أن حلَّ العرب محلَّ النازيين " وبعد أن أصبح الأدب يبثُّ كثيراً من المفاهيم والأفكار التي تحتقر العربي "الذي يعيش على هامش الحضارة ويقتات من موائد الأُمم " . إنَّنا بحاجة إلى طلاب يتخصصون ي اللغة العبرية حتى يمكنهم أن يترجموا لنا ما يكتب هؤلاء القوم عنّا وما يكتبونه لأنفسهم ، وحتى يمكننا أن نجد في عالمنا العربي علماء يقدِّمون لنا الدراسات المختلفة في جوانب المعرفة وأنماط التفكير في العقلية اليهودية ، وحتى يمكننا أن نعرف الفرق بين الأدب الذي يكتبه اليهود بغرض الدعاية والرأي العام في الخارج ، وتصوير اليهود بصورة مغايرة لواقعهم وممارساتهم وتفكيرهم ، وبين الأدب الذي يُكتب معبِّراً عن النفسية الإسرائيلية والواقع الداخلي لهم ، ونظرتهم الحقيقية للعالم الذي يتفاعل معهم ، وكما يقول " معين بسيسو " : "فإنَّنا بحاجة إلى أن نُحيط بتلك التجربة التي تتم وراء الأسلاك الشائكة ، وفي سراديب المختبرات السِّرية والعلنية داخل الأرض المحتلة ، حيث يتم صنع ذلك السلاح الذي اسمه الكتاب ، فلأول مرة في التاريخ يقوم فريق من الأدباء والمفكرين والفنانين بمحاولة صنع عقل جديد للكائن الإسرائيلي ، ولأول مرة في التاريخ أيضاً يكتب هؤلاء الخبراء في مجال الأدب والفن في محاولة لغسل الدماغ الإسرائيلي من شوائب الثقافة الأجنبية ، وتأليف تلك الطبعة الحجيجة الخاصة التي اسمها " الإسرائيلي الجديد " هذا ما كتبه المؤلف عام 1970م ولا ندري ما الذي جدَّ واُستحْدِث وتحقِّق منذ ذلك التاريخ .