الفاضل إحيمر/ أوتاوا 1/اكتوبر/ 2011 حينما كنا في السنة الأولى من المرحلة "الأولية" أو "الإبتدائية" أو "الكتاب" كما كانت تُعرف في زماننا وصاروا يسمونها الآن جوراً وبهتاناً "مرحلة الأساس" والتي هي لا أساس ولا يحزنون وربما تكون أساساً لأي شيئ غير التربية و التعليم، كانت حصة اللغة العربية أو "العربي" كما كنا نسميها أحب الحصص إلينا وكان أستاذ اللغة العربية "الضي"، الذي لم يتطوع أحد ولا هو نفسه بتعريفنا بإسم أبيه أو جده، أقرب الأساتذة إلى قلوبنا اليافعة التي لم يكن الزمن قد حجَرها أو عصرها بعد. لم يكن أستاذ "الضي" يرتدي سوى الجلابية "السودانية البيضاء" وعمة وطاقية سودانية وبيضاء أيضاً ومركوباً عادياً لا أصله ولا نمر أحسبه من جلد البقر. كان يحمل دوماً عصاة رفيعة مما يسمى "بسطونة" غير أنه لم يستخدمها ولو مرة واحدة في ضرب أي منا وكان يجيبنا عند سؤاله لماذا العصا بقوله "أنها لمن عصى و للكلاب الضالة". لم نكن نفهم كل ما كان يعنيه ذلك لكنا كنا مرتاحين له طالما كان يعني أن العصا لن تستخدم لضربنا. لم يكن ذلك وحده ما حبب استاذ "الضي" إلى نفوسنا فقد كان طيباً لا يُرى إلا ضاحكاً و قد كان يحبه الأساتذة وتلاميذ الفصول أو الصفوف أو السنين الأخرى كما كنا نسميها والعاملون بالمدرسة. بخلاف الأساتذة الآخرين، كنا حين نراه خارج المدرسة نسعى إليه و نحييه في حين أننا كنا نتفادى الأساتذة الآخرين ونهرب منهم خاصة في الحفلات حتى ولو كانت حفلات أهلنا لأن ذلك كان جريمة لا تغتفر وتوجِب العقاب في الطابور غالباً وفي صبيحة يوم الرؤية المشؤومة من قبل الأستاذ. قبل وأثناء تنفيذ العقوبة كنا نسمع أكلشيه "بدل ما تقعدو في البيت و تذاكرو وتحلو الواجب مبارين لي الحفلات". حينما كبرنا عرفنا سر حساسية بعض الأساتذه تجاه وجودنا في الحفلات وترهيبهم لنا حتى لا نقرب ناحيتها و لم يكن للمذاكرة و الواجب صلة بالأمر. أمر واحدٌ ظلّ يحيرنا تجاه حصة العربي واستاذها "الضي" هو أننا لفترة طويلة لم ندرس سوى "أ: أسد، ب: بقر وت: تمر" حتى ظننا أن تلك الحروف الثلاثه هي كل حروف اللغة العربية أو أنها كل ما هو مقرر من مادة العربي في السنة الأولي. رددنا "أ: أسد، ب: بقر وت: تمر" وكأننا في حولية ذكر قادرية قوية أو في مظاهرة يقودها طلاب الثانوية و يجوبون شوارع كسلا وهم يهتفون "لن تحكمنا حكومة الجوع وعاش كفاح الشعب السوداني" قبل التوجه إلى مبنى المديرية والبوليس يطاردهم ويرميهم ب"البمبان". رددناها فرادى وفي مجموعات تفنن استاذ الضي في تشكيلها وكتبناها على السبورة وفي الهواء وعلى الأرض. كان يوماً رائعاً يوم اصطحبنا استاذ "الضي" إلى خور القاش حيث كان يستريح بعض الرعاة مع ابقارهم وهتفنا بالقرب منهم بأعلى اصواتنا ب: بقر وتوجهنا بعد ذلك إلى حافة القاش حيث لعبنا مع أمواجه لعبة أن نكتب الثلاثية فتمحوها الأمواج فلا نضج ولا نثور ونعود لكتابتها ثانية و ثالثة وعاشرة. كان يوماً أروع من هذا يوم أن أحضر استاذ "الضي" معه ذات يوم "قفة" مملوءة بتمر من الصنف الجيد وحتى فرغت "القفة" تماماً ظللنا نمضغ و نضحك ملء أشداقما و نحن نحاول بين المضغ والضحك أن ننطق "ت: تمر". كتبناها بعد ذلك في حوش المدرسة بحروف كبيرة مستخدمين نوي التمر. بعد البقر والتمر بدأنا نتساءل ماذا سيفعل أستاذ "الضي" في مسالة "أ: أسد" و لا أدري لماذا كانت لدينا قناعة بأن أستاذ "الضي" الذي نعرقه قد يفاجئنا يوماً ما بأسدٍ في الفصل ولو في قفص. دارت الأيام سعيدة هنيئة ونحن مع الثلاثية الهجائية تتغير نغمات و تشكيلات ترديدنا لها بدون أن تغيير أو تزيد "أ:أسد، ب: بقر، ت: تمر" إلى كان يوماً لن أنساه. دخل استاذ "الضي" الفصل وهو على غير العادة بادي الغضب أو الحزن مهموماً ومغموماً، وبعد فترة صمت خلناها دهراً طلب أن نردد الثلاثية واحداً تلو الآخر ففعلنا بدون الحماس والأنفعال الذي عهدناه إلى أن جاء دور أعز اصدقائي في الفصل "سهيل" أو "سوهو" كما كنا نسميه و لقد ألتقطنا تلك التسمية على ما أظن من أهله. كان "سوهو" مختلفاً عنا في أنه كان "مرتاح" أي من أسرة ميسورة الحال حتى أنه كان يحضر احياناً إلى المدرسة بسيارة والده وكان يحضر معه اشياء لا نعرف بعضها ولا نرى البعض الآخر في بقالات حينا. عدا ذلك وربما بسبب ذلك كان "سوهو" دائماً رائق المزاج مرحاً مهظاراً لدرجة أنه كان يوصف ببهلوان الفصل. حاول "سوهو" أن يغير جو الغم الذي هيمن على الفصل من خلال واحدة من دعاباته فقال لما جاء دوره وبصوت عالٍ "أ:أسد ب: بقر، ت: تفاح" وقال الأخيرة بصوت أعلي بكثيرٍ من الأخريات. سررنا لذلك وضحكنا له غير أن الضحكة سرعان ما تلاشت من وجوهنا وماتت في دواخلنا حين أنتفض أستاذ "الضي" واقفاً و اندفع نحو "سوهو" و بلهجة غاضبة سأله: ت: شنو؟ ت: تفاح؟؟ أنا علمتك كده؟؟؟ بكره قول لي ت: تمباك، مش كده؟؟؟؟ و قبل أن يجيب إنهال عليه ضرباً ب"البسطونة" لم تسلم منه يداه اللتين حاول أن يحتمي بهما ولا كتفاه اللذين نالا بعض من ضربات الأستاذ التي كان يحاول أيقاعها على ظهره. لم يشفع ل"سوهو" جعيره ولا دموعه الغزيرة أو حتى صراخه من بين الدموع و العبرات: ت: تمر يا استاذ .... أ: أسد و ب: بقر و ت: تمر ..... و الله تاني ما أقولا يا استاذ..... ت تمر تمر يا استاذ... توقف الأستاذ عن الضرب بعد أن اشبع "سوهو" منه وعاد بعدها إلى مقدمة الفصل حيث جلس ساهماً عابساً على حافة طاولة كانت هناك كما كان يفعل في الكثير من الأحيان إذ أن كرسي الأستاذ المخصص لفصلنا كان قد اختفي بعد أن فقد رجلاً ثم الثانية. ران على الفصل صمت رهيب لم يكن يقطعه سوى نشيج "سوهو" و انتحابه و أخيراً رنين الجرس الذي أنهى أطول و أبأس حصة في حياتنا. بكى الكثيرون منا في صمتٍ وخوف ولم نكن ندري هل كان بكاؤنا تعاطفاً مع "سوهو" أم شعوراً بالفجيعة والنكبة في استاذ تعودنا منه غير ما رأينا في ذلك اليوم. في صبيحة اليوم التالي و نحن وقوف في الطابور جاء "سوهو" و حينما وقعت أعيننا عليه كان لا يزال يبكي أو أنه عاود البكاء حينما وصل المدرسة. كان معه أبوه وشخص آخر علمنا فيما بعد أنه "مفتش" من مكتب التعليم. كان والد "سوهو" يشتم و يسب و كان المفتش الذي يمشي في عصبية بالغة بل يركض في كل الإتجاهات ولا يتوقف أثناء ذلك عن رفع بنطاله الذي ينزلق عن وسطه ونظارته التي ننزلق عن أرنبة أنفه، كان يصرخ و ينطق بعبارات لم نميزها. صُرف الطابور على عجل وطُلب منا التوجه إلى الفصول التي كنا نسمع من داخلها ومن خلال تدافعنا نحو النوافذ الأقرب إلى المكاتب تداخل الصراخ الشديد و تبادل السب و الشتم مع محاولات التهدئه وكنا نميز من بين الأصوات صوت الناظر و أستاذ "الضي". كان ذلك آخر يوم أرى فيه استاذاً كان عزيزاً علينا و صديقاً هو الأقرب إلي بين كل زملائي في الفصل و المدرسة بأسرها. لم أكن أعرف ما هو التفاح و في طريق العودة إلى المنزل في ذلك اليوم فكرت أنه لا بد أن يكون شيئاً لعيناً، شيئاً لعيناً جداً، لعيناً لدرجة أن مجرد ذكره مرة واحدة فقط أفقدني أستاذاً وصديقاً ولا كل الأساتذة و الأصدقاء. [email protected]