"يا ولدي محمد بدوي! لمن الحكومة تفرض علينا نحن المساكين ضرائب قدر الليلة وبكرة مش من المفروض الأموال الكتيرة دي توظفها لينا نحن المساكين ديل؟ يعني تقدم لينا بيها نحن المواطنين درجة عاشرة ابسط الخدمات الممكن نحسها خلال الحياة اليومية في البيت وفي الشغل وفي الأمجاد وفي سوق الشمش وفي شارع البلدية وجنب طبلية حاجة كلتوم؟ والله كلامي ده ما في بكانو يا ولدي؟ وبعدين النقولك يا وليدي: البنية البتجي كل اسبوع دي شايلة شنطها ودفتر الوصولات التقطع وشيها مني! خلاص ما تعتب على حوشي تب... وعليّ الطلاق لو جات تاني إلى أطردها بي قرجتي دي ..." هكذا خرجت حرقة حاج التوم بكلماته البسيطة المعبرة عندما سألته عن مشاكل القمامة بالبلد. فله الحق فيما قال أو كما قال. فهو محروق على خدمات البلديات التي حطمت كل أرقام الفكر الصائب القياسية بعدم اتباعها لأبجديات الخدمة الوطنية تجاه مواطنيها. فللبلديات واجبات تجاه المواطنين أمثال حاج التوم من جمع القمامة ونظافة الطرق والمرافق العامة ومن ثم الصيانة واصلاح المعالم العامة للعاصمة المثلثة، أليس كذلك؟ أين ولاية الخرطوم وبلديات محلياتها المختلفة من التعامل الحضاري مع أكوام الزبالة وملايين أكياس البلاستيك وأطنان التراب والأوساخ في كل أرجائها ناهيك عن اهمال التشجير وتناسي التنسيق وتجاهل رعاية المظهر العام لوجه العاصمة الحضاري. يقول حاج التوم: "الزول يتفاجأ كل أسبوع بمرور موظفة تحمل وصولات استلام تسأل اهل الفريق بيت بيت عن الضريبة الشهرية للقمامة. أه دفعنا لمن فترنا لكن وينا النظافة؟" ...والله يا ولدي العربية البتمر بيك تمرّ مرور الكرام وفي بعض المرات يجب عليك تحليف السائق بالله وبالنبي والتوسل للعمال عشان يشيلوا الزبالة معاهم، ولو عصرت ليهم الفيها الخير قاموا بالعمل ولو ما اديتهم شئ ما يسوا التكتح! ويسرد حاج التوم بأنه ياما انتظروا الأسابيع الطوال بأن يمر هؤلاء الفضلاء لأخذ ما تبقى من فضلات امتلأت بها الجوالات وتكدست بها بواقي الأكل لأسابيع عدة وتحت وطأة حرارة الصيف المحرقة حتى صارت قنابل ذرية تفوح بأقذر الروائح المتفاوحة بين أركان بيوت الأحياء، تنتظر الخلاص الأخير، ولكن لا حياة لمن تنادي! كيف تتناسى وتتجاهل ولاية الخرطوم وبلديات محلياتها المختلفة أهمية وكيفية التعامل مع القاذورات من حيث الالتزام بنقلها وتجميعها وفرزها وحرقها أو دفنها حضاريا بعد معالجتها؟ ففي ألمانيا على سبيل المثال لا الحصر، وبدون ترفع أو تتطاول، يتعامل كل الناس بمبدأ النظافة من الإيمان الذي تربوا عليه منذ الصغر فاصبح واقعا ملموسا في حياتهم اليومية ينعكس كالمرأة على أنفسهم ومن يقابل الجمال والنظافة والنظام في حياته اليومية، يعكسهما على الآخرين - وهذا أمر طبيعي. ومن جهة أخرى ففاقد رؤية الجمال لا يعطيها، أليس كذلك؟ فبمدينة كونستانس الصغيرة تجد أن الزبالة تفصل إلى أربع فئات: العضويات (بواقي الخضرة الطازجة من سلطة الخ)، البلاستيك والألمونيوم ومواد التعليب، الورق والكارتون، البواقي اليومية. وكل برميل له لون ويغسل بعد الاستعمال ويعامل معاملة حضارية حيث يوضع بمكان نظيف أمام البيت وذلك محافظة على المنظر العام للأحياء. وبالطبع عربات القمامة من أربعة أنواع ومواعيد جمعها معلنة على موقع الإنترنت الخاص بالبلدية بالتمام والكمال. ومن أهم الأشياء التي تقع أيضا على عاتق المواطن هي الحفاظ على الماء النقي. سألت المواطن الألماني هيرمان ماير عن مسؤولية المواطن في الحفاظ على الماء النقي وعدم تلوثه: عندما نحافظ على الماء النقي ونقتصد في استعماله فسوف يبقى لنا نقيا لأقصى فترة من الزمن وإن أسأنا استعماله فسوف "ينقرض" ويعود لنا في شكل ماء مكرر لا تتوافق قيمته الصافية مع ما كان عليه من قبل، قبل أن يكرر. وتلك البيانات تقودنا إلى أسئلة عدة: - هل يفتقد السودان إلى كفاءات بشرية، هندسية ومهنية وطبية في مجال معالجة النفايات والقمامة وايقاظ ضمائر المواطنين؟ - أليس لنا المقدرة في تحويل بعض الشاحنات المصنعة بالسودان إلى عربات نفايات؟ - كيف يجب أن يشارك كل مواطن سوداني في حل هذه المشكلة المتعلقة بالقمامة والنفايات ومشكلة الماء؟ من جهة أخرى وانطلاقا من نزاهة الطرح، يجب علينا أن لا نضع كل المسؤولية تحت أيدي البلديات. فالمواطن هو الألف والياء في هذه القضية. يجب على المواطن السوداني أن يطبق مبدأ النظافة من الأيمان في حياته اليومية بصدق وأمانة: في البيت، في العمل، في الشارع، بالمدرسة، الخ. ويجب عليه إن رأى منكرا في هذا الشأن أن يصححه وأن يبدأ بسوق أمدرمان: مثلا تجد التجار يرمون الزبالة وبقايا الكراتين وكل ما خطر لهم ببال أمام دكاكينهم وهكذا يفعل اصحاب الطبالي، فهم يرمون ببقاياهم أمام طبالي الآخرين. ومن ثم تجد بين الطبلية والدكان والطبلية الأخرى آلاف الأكياس البلاستيكية. ونحن نعلم أن وباء أكياس البلاستيك أصبح كالقرين يصاحبنا في كل خطوة؛ في كل الطرق، الأحياء، القرى النائية وحتى في أرقي الأماكن بكل أنحاء السودان. لقد قمت برحلة إلى مدينة كوستي وللأسف وجدت حتى القرى البديعة قد غزتها آفة هذا الطاعون الآثم. وإذا انطلقنا إلى آفاق أخرى لعثرنا على ما خفي بتربة المشاريع الزراعية وما يرمى بماء النيل من مخلفات كيميائية، صناعية وطبية تنعكس بصورة مباشرة على المياة الجوفية. وضف إليها تكاثر البالوعات، ورفات البشر، ومخلفات المنازل من الأدبخانات والسيفونات التي يجد أرباب البيوت أنفسهم مجبرين لبلوغ العين عندما يحفرون الأبيار. وكل هذه المواد تجدها في شكل شوربة خطرة في المياه التي تأتي إلينا عبر حنفيات المنازل؛ وهي مياة شرب لا تُشرب. أما في ما يخص النفايات الصحية فمن المعروف حقيقة أن مناطق عدة أصبحت وكرا للنفايات الصحية على سبيل المثال لا الحصر منطقة جبل طورية بأم درمان. لقد صدرت بعض التقارير التي كشفت أن هذه المنطقة السكنية المكتظة بالأهالي مازالت مكبّاً للنفايات الطبية مثل الحقن والإبر والدربّات الملوثة بالدماء الفاسدة وضمادات الجروح والشاش وما خفي أعظم. لقد رُمي بها على مقربة من الجبل دون أن توارى تحت الثرى (أضعف الإيمان) فتقصده المارة والحيوانات الهائمة من قطط وكلاب على مقربة من خيرة المؤسسات التعليمية العليا، أحياء جامعة أمدرمان الاسلامية، ومنطقة "الصالحة" التي تمتد الى الجنوب من الجبل. لقد صار هذا المكان مقبرة تجد عليها النفايات الطبية وما شابهها مثواها الأخير. ومن المؤسف أن هذه الأكوام قد أضحت مرفأ للأطيفال الأبرياء يجدون فيها ملاذا يبنون على أعتابه عروش ممالكهم الصغيرة وفيه يجدون موادا يجعلون منها لعبا يفتقدون إليها في بيوتهم الفقيرة. فهم يلعبون في هذا المكان "لعبة الطبيب والمريض" وستعملون تلك النفايات ويضعونها في أفواههم ويحملون منها إلى اصدقائهم بالمدرسة أو بالحي. فالمنطقة وبدون مبالغة تعتبر قنبلة متفجرة، فعتادها ليس المسامير، لكن النفايات الطبية الخطرة المتروكة في عراء الله ورسوله، محملة بمليارات الجراثيم والأوبئة لا سيما في فصل الخريف، حيث أن فعالية القنبلة تزداد خطورة يوما بعد يوم. فالحقوا أطفالنا في منطقة جبل طورية وبالصالحة وبكل البقاع التي ترقد فيها قنابل النفايات تنتظر لحظة الانفجار الموعودة في كل لمحة ونفس! Dr. Mohamed Badawi [[email protected]]