لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الدولة الإسلامية (2 من 3) .. بقلم: د. أمين حامد زين العابدين
نشر في سودانيل يوم 14 - 11 - 2011


amin zainelabdin [[email protected]]
مصدر وجوب الخلافة والدولة الإسلامية
اتفقت آراء فقهاء السنة الذين تناولوا القضايا الدستورية للخلافة والدولة الإسلامية في كتب الفقه على أنّ الشريعة هي مصدر وجوب تأسيسها بدليل انعقاد إجماع الأمة الإسلامية على انتخاب أبى بكر الصديق كأول خليفة لرسول الله. فكما قال الماوردي: ((الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع))28. ودرج معظم الفقهاء على عرض الآراء التي تعتقد بأن العقل هو مصدر شرعية الخلافة وتفنيدها بدعوى بطلانها لمخالفتها الإجماع وذلك مثل الجويني الذي قال: ((وذهبت شرذمة من الروافض إلى أن العقل يفيد الناظر العلم بوجوب نصب الإمام... ولو رددنا إلى العقول لم نبعد أن يهلك الله الخلائق ويقطعهم في الغوايات على أنحاء وطرائق ويصرفهم عن مسالك الحقائق))29
وأسهب الشهرستاني في شرح حجج دعاة المصدر العقلاني للخلافة والدولة الإسلامية مثل فرقة الخوارج المسماة بالنجدات وبعض أتباع المعتزلة مثل الأصم والفوطى. وذكر أن هؤلاء يعتقدون بأن الخلافة وشؤون الحكم تستند على المعاملات بين البشر الذين يمكنهم الاستغناء عنها إذا ما ساد العدل وتعاونوا علي أداء الواجبات التي تم تكليف كل عضو منهم بأدائها)) 30. ويبدو أن توجه حجتهم يشير إلى أن البشرية قد ابتدعت مفهوم العدالة عبر المنهج العقلاني لتسوية النزاعات في المجتمع ويمكنهم الاستغناء عن العدالة أذا ما توافرت ضروريات الحياة وصارت متاحة للجميع مثل الماء والهواء الأمر الذي يؤدي إلي غياب نزعة التملك والرغبة في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين عنوة. وأشاروا إلى استحالة الإجماع لصعوبة تصوره بواسطة العقل ((أليس أحق الإحكام بوجود الاتفاق فيه الخلافة الأولى؟ وأولى الأزمان في الشرع هو الزمان الأول؟ وأولى الأشخاص بالصدق والإخلاص الصحابة؟ وأقرب الناس إلى رسول الله أبو بكر وعمر ؟ فانظروا كيف انحاز الأنصار إلى السقيفة وقالوا: منا أمير ومنكم أمير؟ وكيف أجمعوا على سعد بن عبادة لولا أن تداركه عمر بأن بايع بنفسه حتى شايعه الناس؟ ثمّ قال بعد ذلك: ألا إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فوقى الله شرها.. فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه... فإذا لم يتصور إجماع الأمة في أهمّ الأمور وأولاها بالاعتبار دلّ على أن الإجماع لن يتحقق قط وليس ذلك دليلاً في الشرع ))31
وأحجم الفقهاء عن الاعتراف بأن مصدر الخلافة عقلاني كما يتضح من حقيقة أن مؤسسة الخلافة قد ظهرت كنتيجة للجدل والنقاش الحامي الذي نشبّ بين المهاجرين والأنصار قبل اتفاقهم على انتخاب أبي بكر الصديق لمنصب الخلافة. فرغم رأي الجويني بأن الشريعة هي مصدر وجوب الخلافة، ألا أن اعتقاده بجواز انعقاد الخلافة وصحتها بمبايعة رجل واحد له اتباع وقوة قاهرة يشير بوضوح إلي أن العقل هو مصدر الخلافة وشؤون الحكم. وقال في هذا السياق:((الذي آراه أن أبا بكر لمّا بايعه عمر لو ثار ثائرون وأبدوا صفحة الخلاف ولم يرضوا تلك البيعة لما كنت أجد متعلقاً في أن الأمة كانت تستقل ببيعة واحدة.. فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الاتباع والأنصار والأشياع تحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة..فإذا تأكدت البيعة وتأطدت بالشوكة والعدد واستظهرت بأسباب الاستيلاء...فإذا ذلك تثبت الأمامة...ثمّ أقول: إنّ بايع رجل واحد مرموق..مطاع في قومه وكانت منعته تفيد ما أشرنا إليه انعقدت الأمامة))32 وتظهر حقيقة أنّ العقل هو مصدر الخلافة في اعتقاد الجويني بإمكانية استغناء الشخص الذي تولى الخلافة عن شرط الاختيار والعقد (( فالرجل الفرد وإن استغنى عن الاختيار والعقد، فلابد أن يستظهر بالقوة والمنعة ويدعو الجماعة إلى بذل الطاعة، فان فعل ذلك فهو الإمام على أهل الوفاق والأتباع وعلى أهل الشقاق والامتناع ))33
وأقرّ الغزالي بان العقل هو مصدر وأساس شؤون الحكم في معرض دفاعه عن رأيه بان الفقه علم دنيوي وليس دينياً وذلك بقوله: ((فان قيل لم الحقت الفقه بعلم الدنيا؟ فاعلم أنّ الله أخرج آدم من التراب إلى الدنيا.. وخلق الدنيا زاداً للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا .. ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الخصومات بالفقه. وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى، بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به، فكذلك معرفة طرق السياسة والحراسة))34
ويتضح من جدل الغزالي بأنه قد أدرك حقيقة الأصل الدنيوي والعقلاني لشؤون الحكم، والذي تعتبر مؤسسة الخلافة أحد أشكاله، رغم أنه قد ذكر في أحد كتبه بأنّ((وجوب نصب الإمام من الشرع وليس العقل..))35 ولا ينسجم هذا الرأي الأخير مع التجربة التاريخية التي تؤكد الدور المحوري للعقل والتدبير والتنافس في نشوء الدول وأنظمة الحكم.
نجح فلاسفة الإسلام الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية في مواءمتها مع تعاليم الإسلام، وتبنوا آراء أفلاطون وأرسطو حول الأصل العقلاني لنشوء المدن والدول عندما أدرك البشر ضرورة الاجتماع المدني لإدارة شؤونهم ودور التغيير الطبيعي في تعاقب أنظمة الحكم المختلفة. وحرصوا في نفس الوقت على تأكيد ارتباط الدين بشؤون الحكم بسبب تقيد تفكيرهم بالرأي الفقهي التقليدي الذي يقول بأن الشريعة هي مصدر وجوب الخلافة والدولة الإسلامية. وينعكس هذا الأمر في نظرية الفارابي عن النبوة التي يعزي فيها اكتساب النبي الملك والفيلسوف (عند فلاسفة اليونان ) للعلوم والمعارف إلى اتصال نفوسهم بالعقل الفعّال ((فإنّ الإنسان إنما يوحي إليه إذا بلغ هذه الرتبة وذلك إذا لم يبق بينه وبين العقل الفعّال واسطة، فحينئذ يفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوة التي يمكن بها أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة.. فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل بان يتوسط بينهما العقل المستفاد هو الوحي.))36
وترتب على نظرية الفارابي اعتقاده بالتطابق بين الملك الفيلسوف كما وصفه أفلاطون والنبي, ويعتبر ((رئاسة هذا الإنسان الرئاسة الأولى... والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار... وإن كانوا في أمة فتلك هي الأمة الفاضلة.. وإن كانوا أناساً مجتمعين في مسكن واحد كان ذلك المسكن هو المدينة الفاضلة)) 37. ويؤكد الفارابي هذا التطابق بقوله في كتاب تحصيل السعادة ((فواضع النواميس هو الذي له قدرة على أن يستخرج بجودة فكرته شرائطها التي بها موجودة بالفعل وجوداً تنال به السعادة القصوى.. فتبين أن معني الفيلسوف والرئيس الأول وواضع النواميس والإمام معنى كله واحد وأي لفظة أخذت من هذه الألفاظ ثمّ أخذت ما يدل عليه كل واحد منها عند جمهور أهل لغتنا، وجدتها كلها تجتمع في آخر الأمر في الدلالة على معنى واحد بعينه.))38
ويؤكد ابن سينا في سياق عرضه لأهمية الاجتماع المدني والسياسي وتنظيم المعاملات بين البشر ضرورة وجود سنة وعدل ((ولابد للسنة والعدل من سان ومعدل... يخاطب الناس ويلزمهم السنة.. فواجبٌ إذن أن يوجد نبي وواجبٌ أن يكون إنساناً وواجبٌ أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس، فهذا الإنسان إن وجد، وجب أن يسن للناس في أمورهم سنناً بأمر الله تعالى وإذنه، ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه.. وتعريفه إياهم أن لهم صانعاً واحداً قادراً وأنّه عالم بالسر والعلانية وأنّه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد ولمن عصاه المعاد المشقي حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الإله والملائكة بالسمع والطاعة... ويجب لا محالة أن يكون النبي قد دبر ما يسنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيراً... فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدد متقاربة.. وبالجملة يجب أن تكون فيها منبهات إما حركات وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات مثل الصلاة.. والمنافع الدنيوية للناس أيضاً أن يفعلوا وذلك مثل الجهاد والحج والقرابين..))39
وسعى فلاسفة الإسلام عن طريق تفسيرهم العقلاني للنبوة إلى المواءمة بين الرأي الإسلامي التقليدي الذي يعتقد بان الشريعة هي مصدر وجوب الخلافة وشؤون الحكم وأفكار أفلاطون وأرسطو التي تعتقد بان العقل قد كان العامل الأساسي الذي حفزّ الناس إلى التنبه لضرورة الاجتماع المدني وقادهم إلى تأسيس المدن والدول لتنظيم المعاملات بينهم. وكان رأى الفارابي بتطابق معنى الفيلسوف وواضع النواميس، والرئيس الأول والإمام تلميحاً من جانبه بان النبوة موهبة عقلية يمكن اكتسابها بواسطة الفيلسوف الحاد الذكاء. ويفسر هذا نقد ابن خلدون لأفكار الفلاسفة المسلمين حول النبوة، فرغم اتفاقه معهم بان الملك وشؤون الحكم خاصة طبيعية للإنسان ولابد لهم منها، إلا أنه يعتقد بان الفلاسفة قد تجاوزوا البرهان الذي يثبت هذه الحقيقة وذلك بقوله: ((وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى نهايته وأنه لابد لبشر من الحكم الوازع.. وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله.. وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود وحياة البشر تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم... فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليست لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار... وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة))40
اعتبر فلاسفة الإسلام الشريعة والدين من المكونات الأساسية لمؤسسة الخلافة وشؤون الحكم، كما دفعهم إعجابهم بالفلسفة اليونانيّة ومحاولة إيجاد صيغة توفيقيّة بينها وبين تعاليم الإسلام إلى الاعتراف في نفس الوقت بالأصل والمصدر العقلاني لنشوء الدول وأنظمة الحكم المختلفة. فاعتقد الفارابي بان المدينة المثالية التي رسمها أفلاطون في كتاب الجمهورية قد وجدت بالفعل في الماضي وتجسدت في الدولة الإسلاميّة في المدينة عندما كان يحكمها النبي  والخلفاء الراشدين رغم أنّ غرض أفلاطون من تصميمه للمدينة المثالية (الطوباويّة) عن طريق العقل قد كان هدفها تنزيلها إلى حيز الواقع وتنفيذها من أجل إصلاح النظام السياسي للمجتمع اليوناني. وتناول الفارابي في فلسفته السياسية أنظمة الحكم اليونانيّة التي أدانها أفلاطون لافتقارها الكمال وفشلها في الوصول إلى مستوى المدينة المثالية الفاضلة. وأطلق على هذه النظم مصطلح المدن الجاهلية بعد أن أسبغ على كل واحدة منها اسماً مألوفاً لأذهان المسلمين الذين كانت مؤسسة الخلافة نظام الحكم الوحيد المعروف لديهم. فأطلق اسم دولة الكرامة على نظام الحكم التيموقراطي، ودولة النذالة على نظام الحكم الاوليجاركي، ودولة التغلب على نظام الحكم الاستبدادي، ودولة الجماعيّة على نظام الحكم الديمقراطي. 41
واعتقد ابن رشد، مثل الفقهاء والفارابي، بان الشريعة هي مصدر وجوب الخلافة وشؤون الحكم. وأقرّ في نفس الوقت بان أصل ومصدر نشوء الدول ونظم الحكم عقلاني، وذلك كما يتضح من تعليقه على كتاب الجمهورية لأفلاطون، ورأيه أن مصطلح الملك الفيلسوف يشير إلى الشخص الذي يحكم المدن بفضل أهليته وتمتعه بمكارم الأخلاق والعلوم النظرية وفضيلة الذكاء وأن وضعه أشبه بحالة "واضع النواميس (الشريعة) الذي يحتاج إلى نفس هذه المؤهلات.. لذلك فهذه الأسماء مترادفة، أي الفيلسوف، الملك، واضع النواميس وكذلك الإمام، وذلك لأن الإمام تعني في اللغة العربية الشخص الذي يقتدي به ويتبع في أعماله وسلوكه، ومن يتبعه الناس في الأشياء التي صار بفضلها فيلسوفاً، يكون إماماً على وجه الإطلاق".42 وأشار ابن رشد إلى إمكانية ظهور المدينة الفاضلة إلى الوجود إذا ما تولى حكم الدولة شخص يتميز بنفس صفات الملك الفيلسوف والإمام مثل سمو الأخلاق والإلمام الواسع بالعلوم النظرية والعلميّة.43 كما يمكن ظهور المدينة الفاضلة بعد أن يتعاقب على حكم الدولة ملوك أخيار لفترة طويلة من الزمان "ويستمرون في التأثير على الدولة تدريجياً حتى يحين الوقت الذي تبرز فيه المدينة الفاضلة إلى الوجود. ويتجلى تأثيرهم عن طريق أعمالهم ومعتقداتهم مباشرة, وتعتمد سهولة آدائهم لأعمالهم وصعوبتها على طبيعة القوانين السائدة في الدولة في وقت معين وعلى قرب والتزام الدولة بهذه القوانين أو بعدها عنها. ويكون توجههم في الوقت الحاضر نحو الأعمال الفاضلة أكثر مما يكون نحو المعتقدات السليمة "44.
ويتفق ابن رشد مع رأي الفارابي الذي يرى بأنّ المدينة الفاضلة قد وجدت في الماضي. ويقول في هذا السياق: ((يمكنك أن تفهم من نموذج حكومة العرب في الماضي ما ذكره أفلاطون عن تحول دستور المدينة الفاضلة إلى نظام الحكم التيموقراطى والإنسان الفاضل إلى الإنسان التيموقراطى ، إذ درج العرب على إتباع الدستور المثالي ثمّ تحولوا في أيام معاوية إلي الإنسان التيموقراطى .)) 45 كما أشار إلى أن دولة المرابطين التي حكمت شمال إفريقيا في القرن الثاني عشر الميلادي قد مرّت بنفس تجربة الدول اليونانية التي شهدت التحول من الدستور المثالي للمدينة الفاضلة إلى دساتير أنظمة الحكم الناقصة حيث قال:(( وتعتبر مملكة المرابطين نموذجاً لذلك في هذا العصر،إذ قلّدت نظام الحكم الذي يعتمد على القانون في عهد حاكمها الأول ثمّ تحولت إلى نظام الحكم التيموقراطي في عهد ابنه الذي كان يحب جمع المال والثروة، وتحولت بعد ذلك في فترة حكم حفيده إلى حكومة الملذات، وكل صفات الشخص المنهمك في الملذاتhedonistic ، وزالت تلك المملكة في عهده لأن الحكومة التي قامت بالهجوم عليها كانت اشبه بالحكومة التي تعتمد على القانون. وهذا هو بيان لتحول الإنسان التيموقراطي إلى الشخص الاوليجاركي حيث يتضح الفرق بينهما، فالشخص الاوليجاركي أخس من الشخص التيموقراطي، كذلك الحال مع مدنهم وحكوماتهم.)) 46
وتبنى ابن خلدون رأي الفلاسفة اليونانيين الذي يقول أنّ مصدر الحكم طبيعي وعقلاني ((لأن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروراتهم.. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة.. واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحكم عليهم وهو بمقتضى الطبيعة البشريّة الملك القاهر المتحكم ولابد في ذلك من العصبيّة))47. واعتبر ابن خلدون العرب استثناء لهذه القاعدة وأن مرجعية الحكم عند ظهوره بينهم هو الدين، وليس العقل، وذلك بسبب طباعهم المتوحشة التي تمنعهم من تأسيس الحكم المستقر. ولن يستطيع العرب تأسيس الدولة في رأيه ألا بعد تبدل طباعهم بصبغة دينية ((فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس.. فذا كان النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله.. تمّ اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك))48.
ويبدو أن حرص ابن خلدون على الاحتفاظ بالتعريف الفقهي لحكومة الخلافة الإسلاميّة التي وصفها بأنها((حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الآخروية والدنيوية.. فهي حقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به))49 قد قاده إلى تقسيم الحكومات إلى حكومة مدنية عقلانيّة وحكومة دينية، بالرغم من أن سبب وجودهماraison d'etre هو الاجتماع الضروري للبشر والذي يعتبر العقل العامل الأساسيّ الذي أدى إلى نشوئه في المقام الأول. ولكي يدعم رأيه بأن الدين هو مصدر وجوب الحكم عند العرب علي وجه الإطلاق، حاول ابن خلدون إسباغ الطابع الديني على حكم معاوية بعد أن تحولت الخلافة إلى حكم ملكي دنيوي وعقلاني يستمد شرعيته من القوة والعصبيّة، وذلك بقوله:(( لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية، وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل.. وعهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة فلو عهدوا إلى غيره اختلفوا عليه.. وعندما صار الأمر إلى الملك ذهبت معاني الخلافة ولم يبق ألا اسمها.. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقياً فيها لبقاء عصبية العرب والخلافة والملك في الطورين ملتبسين بعضهما ببعض..))50. وشرح دكتور ستيفن همفري رأي ابن خلدون الذي يعتبر أن العقل والدين مصدر ومرجعية الحكم والسياسة بقوله:(( يعتقد ابن خلدون بإمكانية قيام حكومة دنيويّة عقلانيّة شرعية في حالة عدم وجود دين حقيقي أي أنه لا يوجد أي عذر لحاكم مسلم بأن يحاول الحكم خارج الإطار والحدود التي وضعها الإسلام بعد ظهوره وانتشاره في جميع أرجاء العالم))51. ويفسر هذا تأكيد ابن خلدون لاستمرارية وبقاء الطابع الديني في فترة حكم الأمويين رغم الأصل الدنيوي والعقلاني لحكومة الدولة الأموية .
أدرك رفاعة رافع الطهطاوي في العصر الحديث عبر التجربة الشخصية أثناء إقامته في فرنسا الفترة ما بين 1826-1831م أن العقل هو مصدر وجوب الدولة والسياسة في القوانين عندما ذكر أنّ قوانين المجتمع المدني في أوربا التي يعود أصلها إلى الاستنباط العقلي متطابقة مع مباديء الفقه الإسلامي. وأشار إلى أن حقوقهم الطبيعية وقوانينهم المدنية هي الأحكام العقلية للخير والشر التي وضعوا على أساسها قوانين المجتمع المدني، فما نطلق عليه العدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والمساواة. 52 وتنسجم الشريعة في رأيه مع معظم القوانين الطبيعية التي تعتبر المصدر الرئيسي للقوانين الأوربيّة "لأن الله سبحانه وتعالى قد خلقها مثلما خلق البشر ولم يفصلها عنهم.. فهي سابقة للأحكام التي أنزلها الله للأنبياء ونشأ على أساسها الاجتماع البشري وقوانين الحضارات المصريّة والبابليّة والفارسيّة واليونانيّة والتي هداهم الله لها عند ما ظهر وسطهم بعض الرجال الحكماء."53


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.