لم اكن أتصور ان تجبرني الظروف للكتابة في ظرف أسبوع واحد عن نماذج من الصحافة السودانية تصور غياب المهنية واختفاء ثقافة تحري الدقة فيما تنشره. ولقد تناولت في مقالي الأسبوع الماضي تحليلا سياسيا نشرته صحيفة (الرأي العام) وبينت بإسهاب كيف حولته كاتبته الأستاذة سامية علي بجدارة إلي مجرد دعاية سياسية لا ترتقي إلي مستوى العمل الصحفي بأي حال من الأحوال. غير أنني فوجئت بخبر نشر يوم الخميس 17 نوفمبر في صحيفة (الأهرام اليوم) بقلم الصحفية إخلاص النو جعل ما قرأته في (الرأي العام) أمرا بسيطا وهامشيا. وتكمن فداحة الأمر ان الخبر المنشور كفيل بتدمير مصداقية (الأهرام اليوم) وتجعل القارىء يتشكك فيما تورده الصحيفة من أخبار مستقبلا. والمحزن ان هذا الأمر كان من السهل جدا تلافيه بقليل من الجهد في البحث كما سأبين. عنوان الخبر كما نشرته (الأهرام اليوم) هو "الحكومة تسحب توقعيها من ميثاق المحكمة الجنائية" ومن الطبيعي ان يتصور القارئ من العنوان ان الخبر يتناول قرارا اتخذته الحكومة السودانية مؤخرا بسحب توقيعها من اتفاقية روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. يقول الخبر "كشفت الحكومة عن سحبها توقيعها على ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية. وقالت حسب تأكيدات مصادر حكومية قانونية إن الحكومة سحبت التوقيع لعدم اعترافها بقرارات المحكمة الجنائية الدولية التي اقتصرت فقط على الدول الأفريقية دون غيرها ". المفاجأة التي قد لا يدركها البعض ان السودان سحب توقيعه من ميثاق روما منذ اكثر من ثلاثة سنين وتحديدا في 26 أغسطس 2008 عبر خطاب رسمي بعثه وزير الخارجية أنذأك دينق الور للأمين العام للأمم المتحدة وجاء فيه ان "السودان لا ينوي أن يصبح طرفا في نظام روما الأساسي. تبعا لذلك، فالسودان ليس لديه التزام قانوني ناجم عن توقيعه يوم 8 سبتمبر 2000". إذن فعنوان الخبر الرئيسي مضلل لأن خطوة سحب التوقيع تمت قبل مدة طويلة وليس امرأ قريبا يستدعي اختياره كعنوان أو حتى نشره كخبر. ولم تكن الصحفية إخلاص النو تحتاج لأن تحصل على "تأكيدات مصادر حكومية قانونية" لأن الأمر ليس سريا ومنشور على صفحة ألأمم المتحدة لشؤون المعاهدات بكل التفاصيل التي ذكرتها. وحتى لو نحينا كل ذلك جانبا فالخبر لم يذكر تاريخا لأجراء الخرطوم أو أي تفاصيل فنية لعملية السحب تساهم في تثقيف القارئ. والطريف ان الخبر ذكر أيضا نقلا عن ذات "المصادر" ان " أن الحكومة فاجأت الجنائية بسحب التوقيع في وقت كانت تنتظر التصديق عليها" وكأن الحكومة السودانية كانت على وشك المصادقة فتراجعت وبالتالي سببت صدمة نفسية لمحكمة لاهاي التي استغربت لهذا الأجراء بعد مذكرة التوقيف التي تم طلبها من القضاة بحق الرئيس البشير في يوليو 2008. كما ان قرار الأحالة من مجلس الأمن الدولي تم عام 2005 قليس متوقعا ابدا ان تقدم الحكومة على خطوة المصادقة منذ ذلك التاريخ. كما ان هذه المصادر كشفت لصحيفة (الأهرام اليوم) عن "مصادقة 132 دولة على ميثاق روما آخرها تونس". وبغض النظر ان هذه المعلومة الأساسية ليست بحاجة إلي "مصادر" فهي إلي جانب ذلك خاطئة وتجعلنا نتساءل عن هوية هذه المصادر خاصة وقد وصفت بأنها "حكومية قانونية" أي ان عملها يختص بتقديم المشورة للحكومة في قراراتها القانونية مما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول كفاءة هذه الجهات. واقع الحال ان عدد الدول التي صادقت على معاهدة روما هي 119 وليس 132 كنا ذكر الخبر وحتى ان فرضنا ان القصد هو التوقيع وليس المصادقة فالعدد هو 139 دولة. كما ان تونس ليست اخر دولة صادقت على الاتفاقية كما نشر في (الأهرام اليوم) فلقد لحقتها الفلبين, جزر المالديف و كيب فيردي. وتستمر "المصادر" التي استند عليها الخبر في مدنا بمزيد من المعلومات المغلوطة عندما كشفت النقاب عن ان "المدعي العام للمحكمة الجنائية المرتقب سيكون أحد الشخصيات الكينية ولم تفصح عن الاسم باعتبار أنه من أبرز المرشحين". والحقيقة ان شر البلية ما يضحك لأن لجنة البحث المكلفة بالبحث عن مدعي جديد نشرت تقريرها الشهر الماضي على موقع المحكمة والذي سمى أربعة مرشحين لهذا المنصب وهم فاتو بن سودا (الجابون), محمد شاندي عثمان (تنزانيا), اندرو كايلي (بريطانيا) و روبرت بتيت (كندا). فليس هناك أي شخصية كينية ستتنافس على هذا المنصب ولا ادري من أين جاءت "المصادر" بهذه المعلومة خاصة وقد أكدت انه "من أبرز المرشحين". وقد جال في خاطري أنها نفس المصادر التي ذكرت قبل عدة شهور ان الدكتور كامل الطيب ادريس مرشح لهذا المنصب وهو الأمر الذي ثبت عدم صحته حسب بيان صدر من لجنة البحث في وقتها. واخر الأخطاء وان لم يكن أسوأها في هذا الخبر هي معلومة ان ولاية أوكامبو تنتهي في ديسمبر المقبل والصحيح ان مدته تنتهي في يونيو 2012. أتمني من إدارة صحيفة (الأهرام اليوم) ان تقوم بنشر تصحيح لهذا الخبر الكارثي احتراما لقراءها ولمصداقتيها في الوسط الصحفي. وفي رأيي ان هذا الخبر هو جرس إنذار لأي صحيفة ان قارئ اليوم ليس كقارئ الأمس وان ثورة المعلومات جعلت الحقائق في متناول اليد فمن البديهي ان تقوم الصحف بمراجعة ألأخبار قبل ان تنشر تلافيا لهذه الأخطاء القاتلة.