كان شهر نوفمبر الحالي 2011 هو شهر الأحزان بامتياز بالنسبة لي ، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. ففيه انتقل خالي " النور " رحمه الله إلى دار الخلود في نهار يوم الجمعة الثامن من شهر الله الحرام ، ذي الحجة 1432 ه ، الموافق للرابع من شهر نوفمبر 2011 م. كان ذلك اليوم هو يوم التروية بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام ، وفيه كانوا يتأهبون للوقوف على صعيد عرفات الطاهر في يوم الحج الأكبر الذي كان موافقاً لليوم التالي مباشرة ليوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى. فإلى الله تعالى وحده اتضرع وأبتهل بأن يشمل خالي العزيز بالرحمة والمغفرة التامة التي أغدقها على حجاج بيته واللائذين بحرمه في ذلك اليوم المبارك إنه سميعٌ مجيب. ثم نقلت الأسافير إلينا النبأ الفاجع المتنثل في رحيل أختنا وزميلتنا وبنت دفعتنا بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ، السيدة الفاضلة الأستاذة " إشراق حسين ضرار " ، المديرة السابقة لوحدة التمويل الأصغر ببنك السودان ، رحمها الله رحمة واسعة ، وألهم زوجها المكلوم أخانا " محمد أحمد خيري " ، وأنجالها وجميع أهلها وذويها وزملائها ومعارفها الصبر وحسن العزاء. لقد كانت إشراق ( وكانت تصر على نطق اسمها هكذا ، وليس إشراقة بالتاء المربوطة في آخره كما درجنا على مناداتها على أيام الطلب ) ، كانت إشراقاً إسماً على مسمى ، إشراقاً حقيقياً ، حساً ومعنى ، وتألقاً دائما ، وأريحية ، وذكاء ، وخفة روح زانها أدب جم وتواضع ولطف آسر في غير تكلف ولا اصطناع. لم ألتق بإشراق منذ أن غادرنا قاعات الدرس بالجامعة في ثمانينيات القرن الماضي ، إلا في العام الماضي 2010 م ، عندما زرتها بمكتبها بشارع 15 بحي العمارات بالخرطوم ، وألفيتها إشراق ذاتها .. ما شاء الله .. تبارك الله.. هي هي ، لم تتغير ولم تتبدل ، ولم يفعل فيها الزمن ما فعله في سائر بنات جيلها ، وخصوصاً أبناء دفعتها. لقد لج بعض معارف أشراق في الواقع في القول جدا بملاحظة أن فقيدتنا العزيزة كانت ما تزال تحتفظ بإشراقها ونضارتها ، ولهجوا بذلك كثيرا ، لدرجة كانت تنذر فعلاً بانها قد تكون عرضة للعين الشريرة في أي وقت ، وقد جاء في الأثر: " كلكم معيان إلا من بورك ". غير أن تلك كانت هي إرادة الله ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا تبارك وتعالى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ألا رحم الله أختنا " إشراق " رحمة واسعة ، وغفر لها ، وجعل الجنة مثواها ، وبارك في ذريتها. وأما الحزن الثالث من هذه السلسلة من الأحزان التي توالت علي في شهر نوفمبر الحالي ، فهو حزن ذو طبيعة شخصية ذاتية ، وعامة في آن واحد ، ألا هو حزني على رحيل البلبل الغريد في خميلة الغناء السوداني ، والمغني المبدع ذي الصوت الشجي ، والأداء المتفرد الطروب الأستاذ " الأمين عبد الغفار " عليه رحمة الله. انطلقت مسيرة الفنان الراحل الأمين عبد الغفار في ساحة الطرب والغناء في السودان في أواخر سبعينيات القرن الماضي ، من ضمن كوكبة منيرة من المطربين الجدد والأفذاذ الذين ظهروا معاً آنئذ ، والذين يُذكر منهم على وجه التحديد المطربين الراحلين مصطفى سيد أحمد ، وعبد المنعم الخالدي رحمهما الله ، حيث دشن ثلاثتهم إطلالتهم على جماهير المتلقين في السودان وخارجه رسمياً ، من خلال مهرجان الموسيقى والمسرح الذي جرى تنظيمه في عام 1977 م على ما أذكر. وسبحان الله ، إذ سرعان ما انطفات تلك العبقريات المتوهجة الثلاث تباعاً وسريعا ، مثل اليراعات التي تومض إيماضاً مبهراً وأخاذا ، وما تلبث ان تخبو. فكأنما قد تعاهد هؤلاء الفنانون المبدعون الثلاثة ، الذين تصادف أيضاً أن ثلاثتهم من أرض الجزيرة الخضراء المعطاءة ، كأنما قد تعاهدوا وتواثقوا على الرحيل في أزمان متقاربة. " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا ". صدق الله العظيم. لقد تميز المطرب الراحل الأمين عبد الغفار بصوت شجي وآسر ورخيم ، وخصوصاً في المناطق الحادة العليا ( لست متأكداً عما إذا كانت هذه العبارة صائبة ودقيقة علميا من وجهة نظر علم الموسيقى وخصوصا الصوت ) ، ولكنه محض تعبير عن إحساس ذاتي باقتدار هذا المطرب الاستثنائي وافتناننه الذي يبلغ الذروة في التطريب خصوصاً عندما يؤدي – على سبيل المثال – هذا المقطع من أغنية " اشيل الريد " ، وهي بكل تاكيد جوهرة غناء الأمين عبد الغفار ، وواسطة العقد من مجمل تراثه الفني ، وقد أبدع في وضع لحنها وموسيقاها الموسيقار المطبوع وملحن الأجيال الأستاذ عبد اللطيف خضر ، أمد الله في أيامه: مسافر سفرة المشتاق تخلي وراي ريدي بعيد براي ما بعرف الحاصل أريت الفاكرو هاني سعيد أطرز من خيالي وشاح وارسلو ليهو باقة عيد.. شيء يذكرك بتلحين ود الحاوي نفسه لابراهيم عوض ، ملك المناطق الحادة العليا في الأداء ، في أغنية " غاية ألامال ": قل ليا ليه بتخاف تكتم عواطفك لييييييه حبك مع الأيام من قلبي ليك بحكييييه .. الخ ويستمر ذلك الشلال المتدفق من من الشجن المترع ، والافتنان في الأداء والتطريب ، وتصوير المعاني ، وتجسيد تباريح الهوى وآلام الفراق بدقة متناهية الذي امتاز به الأمين عبد الغفار في أغنية " يا هَنا " بفتح الهاء: آه يا هنا من فتنا .. هجر الكنا ر زاهي الغصون ساب الغنا والزهرة ما عاد النسيم يرقص معاها يحاننا آه.... آه... آه.. آه .. آآه يا هنا إلى قول الشاعر المتيم في جملة تقريرية مفعمة بالحسرة والشجن ، وما أكثر الحسرات والشجون في هذه الحياة الدنيا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد: كان عندي والله شعور غريب إنك تفوت من دون وداع وترجع الآهة الهنا آه يا هَنا .. لقد قيل إن الفنان الأمين عبد الغفار كان متاثراً في طريقة أدائه وتطريبه بمدرسة الفنان الراحل " أحمد الطيب " ، والد الفنان الشاب " عماد أحمد الطيب " ، وأسلوبه الذي كان يعتمد بصفة أساسية على محاولة تطويع الصوت البشري ، وغنغنته ، وترخيمه ، بطريقة معينة ، وباستخدام سائر مكونات الجهاز الصوتي والتنفسي من فم وشفاه وحنجرة وصدر وخياشيم من أجل إحداث التطريب المطلوب. وكمثال على ذلك: الطريقة التي كان يؤدي بها الفنان أحمد الطيب أغنية " ضاع صبري الليلة يا وصلي " ، والطريقة التي كان يخرج بها الأمين عبد الغفار عبارة " يا حليلهم " من أغنية " ناس معزتنا ما بنريد غيرهم ". فهذه العبارة تستحيل عند عبد الغفار الى " يا حلووووووولمْ " أو شيء من هذا القبيل. فهاتان الطريقتان كلاهما ، كانتا تمتحان من مصدر واحد ألا وهي مدرسة الفنان : أحمد الطيب " المذكور في التطريب ، خصوصا وان احمد الطيب فنان رائد ومتقدم تاريخيا كما هو معلوم ، فضلا عن ان هذين المطربين كليهما يجيئان من منطقة واحدة تقريبا ، هي منطقة شمال الجزيرة. ولعل لحقيقة أن الفنان أحمد الطيب هو من بلدة " طابت الشيخ عبد المحمود " ، معقل الطريقة السمانية بالجزيرة ، حيث ظلت أصوات مرتلي القرءان الكريم ، تمتزج بأصوات المنشدين والمادحين ، واصوات الذاكرين في حلقات الذكر لعقود مديدة خلت ، ولكون أن مسقط رأس فناننا الراحل نفسه ليس ببعيد عن تلك المنطقة ، لعل لذلك دورا في التوجه الصادق الذي انتهجه الأمين عبد الغفار في أواخر سني عمره غير الطويل ، التي قضاها بين حلق الذكر والمديح النبوي الذي أدى منه عددا من القصائد الجياد بصوته الشجي ، مثل رائعة الشيخ عبد الرحيم وقيع الله البرعي: يا جَناني صيح وهيم لى من جانا رؤوف رحيم ألا رحم الله بلبل روضة الغناء السوداني ، الفنان الأستاذ الأمين عبد الغفار رحمة واسعة ، وأجزل ثوابه ، وغفر له ، وجعل الجنة مثواه مع الذين أنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. khaled frah [[email protected]]