الفاضل إحيمر/ أوتاوا، 25/11/2011 "إن من اعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". أن السلطة تُفسد والسلطة المطلقة تُفسد إفساداً مُطلقاً. مقدمة مع أن الإسلام دينٌ عظيمٌ يعنى بكافة جوانب حياة البشر ويزخر بما من شأنه أن يجعل من توليهم الشعوبُ أمرَها راضية مختارة جديرين بتلك الثقة وأهلاً لذلك التشريف والتكليف وحملِ تلك الأمانه التي عُرضت "عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، فإنني لا أود "أسلمة" تناولي للموضوع وأرى أنه من الأجدى، خاصة لأغراض الطرح والمقارنه، أن يكون ذلك مطلقاً. هذا من جهةٍ، ومن جهة أخري فإنه مع كثرة وتعدد من حفل بهم التاريخ الإسلامي من ولاة أمرٍ مسلمين بحقٍ عظماء وعادلين، فإنه وبكل حسرةٍ وأسف ليس كلُّ من ظنَّ نفسه أو حسبه الآخرون مسلماً، حاكماً كان أو محكوماً، عظيماً وليس كلُّ عظيمٍ مسلماً، وطالما أنجبت ديانات أخرى وعقائد ومذاهب ومعتقدات وفلسفات وحضارات وثقافات بل أسرٌ وبيوتٌ أحسنت تربية وتنشئة بنيها وبناتها من أسهموا بقدرٍ وافرٍ في سعادة البشر وحققوا إنجازات عظيمة في مختلف المجالات وكان لهم في تاريخ كوكبنا الممتد ومسيرته السرمدية أعظمُ الأثر. ربطٌ بما سبق ذكرتُ في الجزء الأول من هذا المقال أن الدكتاتوريين يُصنعون ولا يصنعون هم أنفسهم وأن كلَّ من تدكتر وطغى وتجبر كانت وراءه بطانةُ سوءٍ وطغمةٌ فاسدةٌ استغلت ضعفه البشري وزيَّنت له وقبلت منه أن يستبد برأيه وأن ينفرد بالسلطة ويسحق كل من يخالفه ويخالفها الرأي أو تستشعر فيه خطراً على مصالحها وتهديداً لأطماعها وطموحاتها الي تتعاظم وتتفاقم وتتمحور وتتطور مع كرِّ الأيام ومضي الزمان حتي يبلغ الحال بتلك الطغمة أن تفكِّر وتتصرف على نحو "نحن أو الطوفان" و"ليدوم لنا نحن النعيم حتى وإن كان ذلك يعني للآخرين الجحيم". هذا وقد أضفتُ أن العلاقة بين الطغمة والطاغية تصبح في مرحلة من المراحل عضويةً لا فكاك منها يستمد من خلالها كلٌّ من الطرفين من الآخر مقومات وأسباب وجوده وسبل وضمانات استمراره. جاء في الجزء الأول أيضاً أن الدكتاتورية مؤسسة وآلة شيطانية ليس الدكتاتور سوى ترسٌ واحدٌ من تروسها، وأنها علةٌ الوقايةُ منها خيرٌ من العلاج وسرطانٌ لا يمكن القضاء عليه إلا بإجتثاث شأفته والإزالة التامة والنهائية للأوضاع التي يُسفر عنها أن يكون هناك "دكتاتور" و"مُدكتِرون" و"مُتدكترٌ عليهم. ما لم تتوفر البيئة وتكتمل وتتكامل العناصر والظروف التي يُضحي إزاءها ظهور دكتاتورية جديدة ضرباً من المحال، فسوف نظلُّ نُبتلى بها بين الحين والآخر بل سوف تكون خياراً سيئاً نُضطرُّ إليه ومُسكّناً نتواطأ ونتواضع على تلقيه وتعاطيه على مرارته فيخدِّرنا ويبلَّدنا بينما يستشري في جسد أمتنا الداء العضال، وهذا ما يتناوله الجزء الثاني من المقال. المقال في رأيي المتواضع تتخذ الدكتاتورية شكل ثلاثة دوائر ذات مركزٍ واحد co-centric يمثل الدكتاتور فيها الدائرة الداخلية وتمثل البطانة المحيطة به، مع طبقاتها المتعددة، حزباً آيدلوجياً كانت، جهة حغرافية، جماعة إثتية أو عقائدية، طبقة إجتماعية أو فئة مصلحية وانتهازية أو مؤسسة عسكرية “Junta"، تمثل الدائرة الثانية "الوسطى" بينما يمثل الدائرةَ الثالثةَ الخارجية الشعبُ المُتدكتر عليه والذي تقبل بعض فئاته بذلك الوضع بسبب الجهل أو قلة الحيلة أو المصلحة أو وجود رابط جهوي، عرقي، عقائدي أو فئوي بينها وبين الدائرتين الأخريين. يشبه ذلك لحدٍ ما تكوين الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة، الأميبا على سبيل المثال، ليس من حيث الشكل فقط (نواة يحيط بها إندوبلازم يحيط بهما إكتوبلازم" بل من حيث المهام أيضاً إذ تمنح الدائرتان الخارجيتان النواة الطعام والأكسجين بينما يمنحهما هو الفضلات وثاني اكسيد الكربون كما تستغل النواةُ الدائرةَ الخارجية في الإلتفاف حول الضحايا والتهامهم من خلال ما يعرف ب"الأقدام الكاذبة". الدائرة الداخلية، الدكتاتور على الرغم من أن هذه الدائرة أقل خطراً وأضعف أثراً من الدائرتين الأخريين ففي يد الدكتاتور بعض الخيارات الهامة وبمقدوره أن يكون قائداً قدوة ونوراً لأمته وعلى الفاسدين والمُفسدين حوله ناراً أو أن يكون قمة الفساد وأن يصير للدف ضارباً وتصير شيمة من حوله الرقيص على أحزان وأشلاء شعبهم. في ذات الوقت، وعلى الرغم من كلِّ ما يحيط به الدكتاتور نفسه أو يُحاط به من أسباب القوة من مالٍ و"رجال" وسطوةٍ وجاهٍ زائفين فهو كونه شخصاً واحداً أكثر الدوائر الثلاث وضوحاً وأوهاها وأسهلها في أن يُستهدف وأن يُنال vulnerable the most ولعل فيما حدث لبن علي وحسني مبارك والقذافي وصدام قبلهم خير دليل على ذلك وأوضح مثال إذ لم يغن كل ذلك عنهم شيئاً، وحينما دارت عليهم الدوائر وأدبرت عنهم الدنيا انفضَّ من حولهم من ألَّهوهم ونصَّبوهم أصناماً بل كان منهم أول من رماهم بحجر وكان في قصر كل قيصرٍ منهم أكثر من "بروتس". ليست العلاقة بين الدكتاتور والطغمة المحيطة به بالقائمة على مثلٍ وقيمٍ عليا من بينها الوفاء والفداء وقبل ذلك على إبداء الرأي السليم وبذل المشورة وهي ليست في الأساس بين طرفين نبيلين فتنتهي نهاية نبيلة. عليه، يموت الضغاة أو ينتحرون أو يقتلون لوحدهم أو في نفرٍ قليل من مخلصيهم أو الذين ترتبط مصالحهم بهم إرتباط حياة أو موت وقبل نهاياتهم المحتومة يتحاماهم المحيطون بهم كما يُتحامى الكلب المسعور ويتفادونهم كما البعير الأجرب بدلاً عن أن يحموهم ويزودوا عنهم بالمقل والمهج. إن قيادة الأمة شرفٌ لا يدانيه شرف ومسؤوليةٌ لا تعادلها مسؤولية وفرصةٌ مواتيةٌ لكل من يملك عقلاً سليماً وخلقاً قويماً وروحاً زكية ونفساً أبية لأن يستفيد من هذا الظرف في أن يضع ما يقدر عليه من لبنات في بناء أمته و أن يرفعها فوق مصاف الأمم ولو درجة واحدة. يتطلب ذلك عفة وزهداً وتضحية وفداء ومثابرة ومجاهدة نفسٍ وإباء. يتطلب أيضاً شفافية ومقدرة على نقد الذات وتقييمها وتقويمها وملكة لإختيار المعاونين الأخيار وريادتهم مع جعل النفس قدوة حسنة لهم. على من لا يأنس في نفسه الكفاءة لذلك أن يتنحى وأن يستقيل مُعززاً مُكرماً وإن لم يفعل أو حسب نفسه ظلّ الله على الأرض ووارثها ومورِّثها، فمن الواجب أن يُقال وأن يكون ذلك بمبادرةٍ من المحيطين به والمقريين منه، إن لم يكونوا على شاكلته ومن طينته..... و"رحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه" و"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". كلما تمّ التعجيل بذلك، كلما قلَّ الضرر الذي يلحق بالأمة والثمن الذي تدفعه من أجل التغيير بل الذي يدفعه الحاكم المتدكتر وطغمته ... ويقودنا هذا للدائرة الثانية. الدائرة الثانية، المحيطون بالدكتاتور لعل هذه الدائرة أشدُّ الدوائر خطراً يستوي في ذلك أن يكون الدكتاتور قد أختارها أو فُرضت عليه ويستوي أيضاً أن يكون اختيار أفرادها كان من المقربين الطائعين Yes Men الذين تُحري في اختيارهم الولاء وليس الأداء أو من المؤهلين، حملة الشهادات العلمية والألقاب الأكاديمية، الذين حسب الدكتاتور مخلصاً أنهم سيعينونه على إنجاز ما يريد أيَّاً كان أو كان هدفه من تعيينهم مجرد تزيين "مجلسه" بهم ليس إلا وتعليقهم في دواوين حكمه كالنياشين في صدره وأنه من أجل ذلك "يريّسهم ويتيّسهم" ... وأيَّاً كان الإختيار تبقى العبرة دائماً بالنتائج. يتيح قرب تلك الدائرة الشديد من الدكتاتور وربما ثقته فيها واعتماده عليها أن يكون لها تأثير قوي عليه. تبعاً لذلك أمام أفرادها خياران أولهما، أن يتحلوا بالأمانة والشجاعة والمسؤولية فيقدموا مصلحة الشعب على مصالحهم الخاصة بل يرون في إيثارٍ عظيم ونكرانٍ للذات أن مصلحة الشعب هي جماع مصلحتهم وغاية طموحهم ومنتهى آمالهم فيقدمون للحاكم الرأي السديد والموعظة الحسنة ويدلُّونه على سبل الحكم الحسن والقيادة الرشيدة ويردونه بالقول والفعل السليمين والموقف الحاسم عن الإنحراف والإنجراف خلف هوى النفس واستغلال المنصب من أجل مكاسب شخصية أو إتخاذ قرارات واتباع سياسات تورد البلاد موارد الهلاك مهما كان حُسنُ النية. الخيار الثاني، هو أن يرى المحيطون في المتدكتر تجسيداً لآمالهم وقنطرة لطموحاتهم غير المشروعة فيصبح بين عشية وضحاها "الحارس" و"الفارس" و"الرائد" و"القائد" و"المُلهِم" و"المُلهَم" وكل شيئ "الأعظم" ويضحي "إمام المسلمين" و"حامي الملة والدين"، "صفوة الأخيار" "جامع الرعية" و"راعي الجامعة"، "جبل الحديد" و"صاحب الرأي السديد". تنفخ تلك الفئات في فقاعة دكتاتورها حتى تسدَّ الأفق وأفرادها مختبؤون خلفها يخبثون وينهبون، وتضخِّم صنمه وأفرادها بظله يحتمون حتى إذا ما أوشك البالون على الإنفجار والصنم على الإنهيار انفضوا من حوله وتنكروا له ومالوا نحو من عنده مالُ أو سلطلة أو وذهبوا بقضهم وقضيضهم إلى من عنده ذهبُ. بذلك تكون الأمة قد أصيبت مرتين وفي موضعين حساسين وهامين، رأسها أو قمة هرمها وما يليهما من جسدها وبنيانها ويالها من مصيبة عظيمة تبقى آثارها الجسيمة حتي بعد أن تفيق الأمة من سباتها وتصحو من "دقستها" فتبتر الرأس وتستأصل ما دونه. تتوقع الأمة من صفوتها وزٌبد وليس زَبَد مثقفيها أن يكون من يولَّون منهمم مناصبَ عالية ومؤثرة عيونها على الحاكم وليس أعوانه عليها ومعينيه على الباطل. إن حادت الصفوة عن جادة الطريق أو خانت ثقة الأمة فيها وصارت بعضاً من الدكتاتور يروِّج لمزجي بضاعته، فمن حق الأمة بل واجبها أن تزيحهم عن كاهلها وأن تدينهم تماماً كما تدين الدكتاتو، و ..... "حوا والده" ... ويقودنا هذا للدائرة الثالثة.