من واقع التاريخ فان حزبي الامة و الاتحادي الديمقراطي هما اكبر حزبين سياسيين في السودان. و الدليل هو احرازهما اعلى الاصوات و غالبية مقاعد النواب في الجمعيات التاسيسية او البرلمانات السابقة. و لقد حافظ الحزبان على موقعهما القيادي و جماهيرهم حتى بعد حكم النميري الذي استمر ستة عشر عاما، في فترة حكم ظن فيها النميري انه قضى على الحزبين الكبيرين الى الابد. لم يكن اقتلاع حكم النميري في ابريل 1985 بالساهل. فقد استخدمت جماهير الشعب السوداني كل الاساليب النضالية من مظاهرات و منشورات و اعتصامات و اضرابات و حتى الانقلابات و العمل الجماهيري المسلح للقضاء على نظام النميري. لقد قدم الشعب السوداني تضحيات جسام من الدم و المال لاستعادة الديمقراطية. كان من واجب الاحزاب الحاكمة تقدير هذه التضحيات بالحفاظ على الديموقراطية فعلا لا قولا. كان ميثاق حماية الديمقراطية الذي وقعته الاحزاب في ميدان المدرسة الاهلية بام درمان البداية في هذا الاتجاه للحفاظ على الديمقراطية و استعادتها من اي طامع في الوصول غير الشرعي للسلطة. و لكن هل كانت الاحزاب صادقة في الحفاظ على هذا الميثاق؟. اسئلة كثيرة تطرح نفسها.هل حمت الاحزاب الديموقراطية؟ و هل وضعت اي برنامج او خطة او منهج للحفاظ عليها؟ كيف استطاع عدد محدود من كوادر الجبهة الاسلامية ثمانين في المائة منهم من المدنيين الانقلاب على الحكومة الشرعية؟ و لو اننا آمنا و قبلنا الامر الواقع بوصول الاسلامين للسلطة بهذه الصورة الغير شرعية، فهل كان للمعارضة خطة واضحة لمقاومة الانقلابيين و استعادة الديمقراطية؟ هل كانت تجربة التجمع الوطني الديموقراطي بقيادة الاتحادي الديموقراطي الاصل ممثلة في السيد محمد عثمان الميرغني تجربة ناجحة؟ هل حقق التجمع الوطني اهدافه او أي جزء منها؟ هل نجا الانقاذيون بجلدهم فاستجابوا صاغرين لنداء الميرغني بالتسليم ليسلموا من غضبة الشعب؟ ام انهم اهتدوا بهدي المهدي في رحاب تهتدون او رضويوا بما قال الامام فيما حلم به من التراضي؟ هل قادنا الجهاد المدني الى شئ، او القت اليه الانقاذ بالا؟ و حتى عندما قبل التجمع الوطني المشاركة في السلطة و دخل برلمانها و وزارتها ممثلا بالفريق عبدالرحمن سعيد و فاروق ابوعيسى و غيرهم، هل غيروا من الخط السياسي للانقاذ، او غيروا في طبعها و نهجها المعادي للحرية و الديمقراطية و العلم و حقوق الانسان؟ و بعد كل ذلك هل جلس التجمع الوطني مع نفسه ليقيم تجربته في المعارضة لاستخلاص العبر و الدروس منها لتصحيح مسار المقاومة مستقبلا؟ و اختتم هذا السيل من الاسئلة بالسؤال التالي، لماذا حكم العسكر ثمانية و اربعين عاما بينما حكمت الديموقراطية ثمانية اعوام بعد ستة و خمسين عاما من استقلال السودان، و لماذا استطاعت الانقاذ ان تبقى على سدة الحكم ثلاث و عشرين عاما، رغم اجرامها المنظم، و فسادها المطلق، و تدميرها للبنية التحتية للزراعة و الصناعة متبوعا ذلك بتمزيق السودان و اتساع نطاق الحرب و موت الاخلاق و الفضيلة؟ لنعد بذاكرتنا الى اكتوبر 1964 و ابريل 1985. ما هي القوى الحقيقية التي قادت التغيير في هاتين الثورتين؟ الفضل في اكتوبر يرجع للنقابات العمالية و في قلبها السكة حديد، و الى الطلاب و في قلبهم جامعة الخرطوم مع الوعاء السياسي لجبهة الهيئات. اما في ابريل 1985، فحتى السادس من ابريل 1985 و في الساعات الاولى من صباح ذلك اليوم اطلقت اذاعة ام درمان حديثا مباشرا لمولانا الميرغني واصفا فيه ان ما يحدث في الشارع هو عبث طلاب. و حتى السادس من ابريل 1985 كان الصادق المهدي عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي و على عثمان محمد طه رائدا لمجلش شعب نميري و احمد عبدالرحمن رئيسا له. اما القصر الجمهوري فقد كان يعج بالنيل ابوقرون و عوض الجيد و امثالهم. و ان لم تخني الذاكرة فلا اعلم من انصار الجبهة الاسلامية غير المرحوم الصحفي محمد طه محمد احمد مناصرا لانتفاضة ابريل. كانت ابريل من صنع نقابات اهمها نقابات الاطباء و المهندسين و الصيارفة و اساتذة جامعة الخرطوم مع كم هائل من المستقلين، و لم يكن احد من قادة الحزبين الكبيرين في قيادتها. صحيح ان حزب الامة واجه النميري بالسلاح بقيادة الشهيد الامام الراحل الهادي المهدي في ابا و ودنوباوي، و صحيح ان تجمع الاحزاب باسم الحركة الوطنية واجه نميري بالسلاح في عام 1976 بحركة الشهيد محمد نور سعد، لكن بعد ما يعرف بالمصالحة الوطنية في عام 1978، دخلت الاحزاب الكبرى بيت الطاعة المايوي من اوسع ابوابه. و مهما يكن او يقال، فان الحزبين الكبيرين لم يكونا في الصفوف الامامية لحظة الحسم و هزيمة الديكتاتوريات العسكرية ابان الانتفاضتين. لهذا لم يكن احساسهما بعظمة الانتفاضتين عميقا كبقية الذين اكتووا بنيران دكتاتورية عبود و حكم الفرد نميري. و كما يقول اهلنا في الريف (الاحزاب ما كان ضاربا حجر دغش) في الانتفاضتين، لهذا لم يكن قلبها على الانتفاضة كما قلب الشعب السوداني، و لهذا فشل الحزبان الكبيران في الحفاظ على الانتفاضتين و فشلا في قيادة الشارع لاستعادة الديمقراطية. و على ضوء ما ورد اعلاه، دعونا نراقب السلوك الفعلي للحزبين الكبيرين الآن، و لننظر لما يطرحانه من حلول للخروج من محنة الانقاذ. الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل لا يناقش الآن كيفية النهوض بالحركة الجماهيرية لمقاومة الانقاذ، و لا يشغل باله بالتفكير في ابتكار اساليب نضالية للتغيير، تلهم جماهيره قبل جماهير الغير. كما انه لا يطرح اي برنامج لقاعدته لتغيير النظام. كل ما يدور بخلد الاتحادي الديمقراطي الآن هو مشاركته في السلطة و بالنسبة التي يرتضيها. التفنن في ابتداع اساليب النضال و المقاومة تنبع من العقول و القلوب التي تعيش و تعي حجم المشكل الذي يواجه السودان، القلوب التي تحمل هم التغيير ليل نهار، القلوب المكتوية بنار الكبيت و التشريد و القمع و القتل في كثير من الاحيان. و ما ارى من عاقل ينتظر فرجا من حزب ليس في قلبه هذه الهموم و ليس من اولوياته تغيير النظام. و الخط الذي يتبناه حزب الامة ليس ببعيد عن خط السيد الميرغني, و بالامس القريب، و اثناء زيارته للولايات المتحدة، اعلن السيد الصادق المهدي انهم ليسوا بصدد تغيير النظام، و انما هم بصدد اصلاحه. يبدو ان الجيل المصادم في حزب الامة قد انتهى باستشهاد الامام الهادي، لان مسك العصا من النصف - وهو المبدأ الذي يعتمده الامام الصادق في كل خطواته – له نتائج كارثية اذا ابتعد طرفا العصا و غابا عن رؤية العين. هنا فقط يحدث التخبط و لا يعرف المرء الى اي طرف يسير. يمكن ان نقبل بالوسطية ان كان السيد الامام ممسكا طرفا بيده اليمنى و الطرف الآخر بيده اليسرى. و لكن ان يكون وسطا بين طرفين احدهما الانقاذ، فهذا لا يمكن ان يوصف الاّ برابع المستحيلات. المواقف الرمادية دائما تخلق حالة من الضبابية، خاصة اذا ارتبطت هذه المواقف بشكوك في مصداقية المواقف. و اقف هنا عند نقطة هامة و خطيرة لا ادري كيف تغاضى عنها حزب الامة و شباب حزب الامة و شباب الاتحادي الديموقراطي. من وثائق ويكليكس – و التي لم يتجرأ احد من اي بلد كان حتى الآن ان ينفي صحة ما ورد فيها – و في الوثيقة رقم KHARTOUM19809 بتاريخ 10 فبراير 2009 ورد فيها ان القيادي بالمؤتمر الوطني فاروق احمد ادم ذكر للقنصل الامريكي بالخرطوم البرتو فردنانديز بان المؤتمر الوطنى اشترى ذمم المهدي و الميرغني. ليت فاروق وقف عند ذلك، بل ذهب الى الابعد عندما قال ان الميرغني و المهدي يبيعان ذممهما لفترة قصيرة، في اشارة صريحة بانهما يتجاران بقضايا الشعب. لا شئ افظع من ذلك يمكن ان يقال في حق الرجلين، و لا خيار لجماهير الحزبين مهما صعف احتمال صحة ذلك سوى التحقيق الدقيق مع زعيميهما ان كان في حزبيهما مجالا للمساءلة العادلة. و إذا ربط المرء بما قاله القيادي بالمؤتمر الوطني فاروق آدم، و بما كان يعلن عنه السيد الصادق في منعطفات معينة يمكننا التصديق بما ورد في هذه الوثيقة. فقد اعلن السيد الصادق المهدي ان يوم السادس و العشرين من يناير 2010 – و هو يصادف اليوم التاريخي لسقوط الخرطوم في يد الامام المهدي عام 1885 – هو الحد الفاصل بينه و بين السياسة او تغيير النظام. مر ذلك اليوم مرور الكرام، اذ لم يتغير النظام و لم يعتزل الامام السياسة. ثم اعلن مرة اخرى ان التاسع من يوليو – يوم انفصال الجنوب – هو يوم الفصل. و لكن مر ذلك اليوم دون ان نرى شيئا. و في اكتوبر الماضي اعلن الامام بانه تم التنسيق مع الاتحادي الديمقراطي يالخروج في مسيرة عقب صلاة الجمعة حاملين مذكرة تطالب بتغيير سياسة الانقاذ. تجمع الناس في مسجد ود نوباوي و لكن خطيب المسجد اعلن عن الغاء المسيرة لان السلطات لم تصادق عليها. و اذا اخذنا في بالنا المليارات التي تلقاها السيدان – وهي امر معروف بثه التليفزيون القومي على اساس انه تعويضات لآل الميرغني و آل المهدي – فاننا لا نملك الاّ ان نقبل بما جاء في تسريبات ويكليكس. و لو اننا قبلنا ان هذه الاموال هي بالفعل تعويضات عن عقار او جنينة او متجر فقده آل البيتين، فهناك من جماهير الحزبين من فقد ما هو اغلى من العقار و من الجنينة. كيف يتم تعويض الذين فقدوا حياتهم و ضحوا ببعض اطرافهم لاقتلاع الانقاذ. من يعوضهم و كيف يتم تعويضهم؟. لا نفهم تعويضا لهؤلاء الاّ بحمل قضيتهم و الانتصار لها، و هو اضعف الايمان. ما يقوم به الحزبان الكبيران هو تجارة بقضايا الشعب المصيرية و استخفاف بعقول الناس و لا شئ غير ذلك. فاقد الشئ لا يعطيه. لا توجد ديمقراطية داخل الحزبين الكبيرين حتى يوفرانها لغيرهم. كل اللاعبين على السطح السياسي الآن سواء في السلطة او خارجها اباطرة، فقط تنقصهم التيجان. فالبشير يريد ان يبقى في السلطة مدى الحياة. و الميرغني و المهدي بقيا في قيادة حزبيهما اكثر مما بقي القذافي، كأن السودان عقم عليهم و لم تلد حواؤه غيرهم. لهذا لا امل في ان يقود الحزبان التغيير في السودان. اعتقد ان السودان يحتاج الآن لحزب جرافة (بلدوزر) يجرف الذين تسببوا في تفتيت الوطن من الانقاذيين و الذين امدوا في عمر النظام من احزاب المعارضة. حزب قوامه المهمشين و الخريجين الجامعيين العاطلين و المشردين من الخدمة المدنية و العسكرية، و المهجرين قسرا، و العاملين بالمشاريع الزراعية الكبرى في الجزيرة و المناقل و الرهد و ما معهم من العمال الزراعيين. هؤلاء يمكن ان يكونوا نواة لحزب جديد، حزب من اجل سودان مؤسس على المواطنة وحدها مهتديا يالديموقراطية و العدالة الاجتماعية و استقلال القضاء. حزب رمزه الجرافة و شعاره لا زعامة للقدامى. م. عبدالله محمد احمد الدمام ABDALLA F-ALMULA [[email protected]]