أثناء فرار حركة طالبان و "قاعدة الجهاد لقتال الصليبيين و اليهود" من قندهار في أعقاب الهجوم الأميريكي علي أفغانستان انتقاما لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة سأل أحد الأفغان العرب الفارين عبر الحدود الي باكستان وهو في غمرة الحيرة و الارتباك ، سأل مراسل و كالة الصحافة الفرنسية عن ماهية السلاح الذي "أذاب لحم بني آدم من رفاقه من المقاتلين" و أحالهم هياكل عظيمة متفحمة. و كان بالطبع يعلق علي صاروخ أطلقته طائرة أميريكية علي سيارة تقل رفاقه و تنطلق أمامهم مباشرة نحو حدود باكستان. بعد عامين من ذلك قصفت اميريكا وبريطانيا العراق و أحالت جماجم جنوده القابعين في الدبابات كرات من الفحم الحجري المتبلور ، وتساءل الضباط العراقيون كما تساءل قبلهم الأفغاني العربي عن سر هذه الأسلحة الرهيبة ، غير أن اللحظة الفارقة كانت بعد الحملة "شبه السرية" و البعيدة عن شاشات الإعلام التي قادها الناتو لإقتلاع القذافي و جماهيرتيه العظمي من جذورها . علق أحد الليبيين بأن تلك كانت "معجزة" لأننا "و بدون "الناتو" لم نكن لنفلعلها ولو بعد مئة عام". تحدث كثيرون أن الغرب و بأجندة سرية بالاتقاق مع دولة قطر و حلفائها من الحركات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين والتي تولت الحكم في كل من تونس و المغرب و تلك التي تنتظر دورها في مصر و ليبيا واليمن ، وربما سوريا ، قد أقرت بأنها لا قدرة لها الآن علي طرح شعار "الإسلام هو الحل" أو الحكم بما أنزل الله أي "الشريعة" وأن هاتين المسألتين يمكن تأجيلهما والاشتغال علي مسائل فضفاضة يفهمها أو يقبل بها "المجتمع الدولي" مثل العدالة والحرية و محاربة الفساد ، دون الولوج الي الجدل الديني والعقدي تحديدا ، أي لعب سياسة فحسب حتي يأتي الله أمراً كان مفعولا. أما السلفيون في مصر فهم بدوا أكثر صدقا واتساقا بين ما ينادون به و ما ينتظرون فعله إذا دانت لهم مصر وهو الأمر الذي يثير حتي الآن قلق الغرب و التنظيم الدولي معا. في غمرة الحملة الأميريكية علي العراق في 2003 و المشروع الأميريكي لدمقرطة الشرق الأوسط الكبير، نشب تلاسن لاذع في العلن بين دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميريكي آنذاك و الرئيس الفرنسي جاك شيراك ، إذ عارض شيراك الانضمام الي غزاة العراق أميريكا وبريطانيا ، و وصف رامسفيلد الموقف الفرنسي بأن فيه "نفس (بفتح النون و الفاء) من العنصرية" ! كيف؟ وفرنسا هي رائدة ثورة الحرية والإخاء والمساواة التي ضربت و قوضت فيما بعد أسس الإقطاع و ممالكه و دوله في أوروبا ، بل كانت الرائدة في تقنين العلمنة في دستورها المكتوب في أوائل القرن العشرين (1905) . كيف إذن لرامسفيلد "الغر" في نظر اليمين الفرنسي أن يتهم شيراك بأنه "إمرئ فيه عنصرية" . لأمثالنا الذين عاشوا ردحا من الزمن في أوروبا أو أميركا الشمالية فإن استيعاب مغزي كلام رامسفيلد الملغز قد يبدو في غاية البساطة كبساطة النكتة الانجليزية السخيفة في وصف الانجليز لفرنسا التي يعشقونها و يعشقون بالتحديد نبيذها (العنب لا يثمر في الجزر البريطانية) بأن فرنسا "جميلة من غير الفرنسيين" . ما عناه رامسفيلد أن المسيو شيراك يعتقد في قرارة نفسه (و نفسه هنا هي سليلة بونابرت و الامبراطورية الفرنسية التي جابت المحيطات والقفار) أن الحرية و الديمقراطيه و سيادة حكم القانون هي "اختراع" أوروبي بحت لن يقدر "آخرون" من الأقل قيمة علي تمثله و هضمه لأنهم ببساطة ليسوا من نفس الأرومة والمستوي . و المقصود ب "الآخرون" الشعوب التي تقطن الفجوة من باكستان و حتي بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي) و تفريعاتهم في بلدان الساحل و جنوب الصحراء الكبري ، والمعني أن شيراك يقول لخاصته و الميكروفونات مغلقة: لا تتعبوا أنفسكم فهذه الشعوب نحن نفهما أكثر منكم ، فإذا احتكمت لصناديق الانتخابات فستاتيكم ببن لادن نفسه خليفة أو امبراطورا في الخلافة السادسة ، أو حسب المثل المصري العتيق "ديل الكلب عمره ما ينعدلش" . و لا ندري هل تلفن المسيو شيراك لغريمه الجمهوري العتيد رامسفيلد بعد الانتخابات المصرية التي جرت مؤخراً !! كان بعض الإعلام الأميريكي بالمرصاد للغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي في زيارته الأخيرة في نوفمبر الماضي للولايات المتحدة بدعوة من بعض الجماعات الاسلامية "المعتدلة" ففي حوار في معهد واشنطن للدراسات ضبطته الصحف الأميريكية و فاجأته بالسؤال الذي يجعل التنظيم الدولي "ينطط عيونه" ألا و هو ماحكم من يغير دينه في الاسلام؟ كان رد الزعيم الإخواني "الناس أحرار في ان يغيروا أديانهم" أما عن السؤال الأقل إرباكا فهو عن قضية الاعتراف باسرائيل أو العلاقة معها فكان جوابه " في الدستور التونسي سنذكر تونس فقط و ليس أي بلد آخر" أي أن اسرائيل لن يجري النقاش حولها في البرلمان التونسي. في برنامج للبي بي سي العربي "أجندة مفتوحة" قبل نحو عام ذكر الدكتور الباقر العفيف في تعليق حول حكومة المؤتمر الوطني في السودان بأن أحزاب و جماعات التظيم الدولي (الإسلام السياسي) لا "تخاف الله" بل تخاف إلها جديدا هو "الغرب" . كيف ؟ بلا شك كانت 9/11 احدي الطامات الكبري في تاريخ الاسلام السياسي الحديث ، فقد وجدت الجماعات نفسها و بدون مقدمات مضطرة للإدلاء بأقوال كانوا في 10 سبتمبر و ماقبله لا يقرونها البتة ، أي قبل أن يقوم الشيخ المحترم الراحل بن لادن بإفساد الطبخة كلها بما فيها و ما عليها ، إذ انتفض الشيطان الأكبر وشياطينه الشبيهة به بعد تلك الغزوة الشهيرة ليتحول من كائن مجازي كما رآه الخميني يوما الي شيطان حقيقي بقرون وأسنان كالسكاكين و مخالب حادة ، فسمعنا فلسطينيي منظمة "كير" الأميريكية التابعة للتنظيم الدولي يعلكون أقوالا جديدة مثل "حقوق الإنسان في الإسلام" ، وسمعنا الباكستانيين الذين يعيشون في الغرب و غير الضالعين في اللغة العربية يقولون "الإسلام لغةً معناه السلام" ، و يلتقط الخيط مرة أخري قادة منظمة كير و إخوان مصر ويؤكد كبيرهم "نعم .. نعم إنه المعني المقصود بالتحديد" ، غير مدركين أن "أبواب الجحيم" كانت قد فتحت بعد "غزوة" نيويورك و بعد أن عثر المحققون الملاعين علي أوراق تركها خلفه الشاب المصري "محمد عطا" قائد الغزوة في السيارة المستأجرة و التي قادها لآخر مرة في دنياه الفانية قبل أن يذوب جسده في حطام الطائرة المختطفة و البرج الأول. لم يكن هؤلاء مدركين أن "أفاعي" الغرب الرهيب ستعلن علي الملأ و بالصوت و بالصورة الملآنة أن المسلمين الحركيين يسعون لتدمير الحضارة المعاصرة . واستعان الشيطان الأكبر والشياطين الصغري بخدمات عقول من أمثال بيرنارد لويس مؤلف السفر الضخم "العرب في التاريخ" مرورا بكتب المستشرقين الأوائل الكاشفة والتي كان الغبار قد غطاها في أضابير كليات و معاهد البحوث (في الغرب طبعا) مثل لويس ماسينيون و مكسيم رودنسون و مونتغمري وات . و حتي في العالم العربي برزت من جديد و إن علي استحياء كتابات المؤرخين العرب الأوائل محمد الشهرستاني في كتابه "الملل و النحل" و المقريزي "الخطط" و المسعودي ، إضافة إلي و بعض العرب المعاصرين من عينة طه حسين و فيليب حتي و حسن مؤنس و حسين مروة وعبدالله العلايلي و جواد علي و محمد أركون و أحمد أمين و فيكتور سحاب و خليل عبدالكريم و غيرهم. ساهم كل ذلك و غيره في تضييق الخناق ، خارج العالم العربي والاسلامي و تحديدا في الغرب ، علي حركات الاسلام السياسي ، و لاننسي أيضا السمعة الرهيبة والشنيعة التي خلقها مايشبه النجوم الأعلاميين هناك بمقاربة ما فعلته الهولندية الصومالية الأصل "إيان حرسي علي" وفيلمها "الخضوع" و تفسيرها للمعني اللغوي لمفهوم الاسلام بأنه "الخضوع و التسليم لله" ، مرورا بمواطنها الهولندي جدأً "غيرت فيلدرز" و فيلمه الانترنتي "فتنة" و دخوله البرلمان الهولندي كزعيم لحزب الحرية و حملته الشرسة ضد الاسلام و المسلمين المغاربة المهاجرين ، و كذلك كتاب الانجليزي المتأمرك الذي رحل عن عالمنا قبل أسابيع "كريستوفر هيتشنز" الذي حاز كتابه الذي صدر في أعقاب تداعيات 9/11 و الذي تصدر قائمة "البست سيلر – أكثر الكتب مبيعا في الغرب" بعنوان صادم للإسلام السياسي وهو "God is not Great - الله ليس أكبر" . و أيضا الأحاديث التي يدلي بها هذه الأيام في التلفزينات والقنوات الأوروبية "مجدي علم" المصري الأصل و النائب المفوه في البرلمان الأوروبي (من ايطاليا) و دفاعه الشرس عن الدولة العلمانية في مصر المضادة لمشروع الدولة الدينية. كذلك الضجة التي اثارها ما فعله تنظيم القاعدة و آخرها قبل نحو عامين أي كارثة الطيران التي كاد يفجرها "عبد المطلب" القادم من نايجيريا عبر اليمن في رحلة أميركان ايرلاينز المتجهة من أمستردام الي شيكاغو . و لاننسي الرسام الدنماركي و كاريكاتوراته المسيئة لرسول الاسلام و السيدة عائشة . و يجب الاشارة هنا بالطبع بالتحدي السياسي الكبير والتمسك بقيم أوروبا الحديثة و علمانيتها في وجه يقينيات و غيبيات الاسلام السياسي و ذلك بما جري في سويسرا أخيرا من منع بناء المآذن و ماقام به البرلمان الفرنسي و البرلمان البلجيكي من حظر للنقاب (الحجاب و النقاب تعدان من رموز الاسلام السياسي). بنظرة فاحصة يمكننا أن نستقرئ أن حركات الاسلام السياسي قد استشعرت الخطر في أعقاب 11/9 و تحسبت له كتنظيمات بعيدة عن السلطة و لكن في أعقاب ما يسمي بالربيع العربي أضطرت للخضوع للعبة السياسية بشروط الغرب و ليس بشرطها وألا و هو الاحتكام الي اللعبة الديمقراطية حسب مخترعيها الغربيين و ليس حسب الشوري أو "أهل الحل و العقد" أو تولي السلطة عن طريق الاغتيالات السياسية و التوريث كما درج عليه مفهوم السلطة و آليات بلوغها عبر التاريخ الاسلامي . فكلنا يذكر تلك التصريحات المتبجحة والمتعالية في ذروة سطوة الاسلام السياسي أيام الرئيس المخلوع مبارك قبل 9/11 ، زمن عدم الخوف من ما يسمي ب "الرأي العام" المصري و زمن الاتكاءة المريحة وقتها بأن الغرب غير معني بمقاصد الجماعة و أسرارها ، كلنا يذكر تلك الفتوي الشهيرة التي نشرتها الأهرام ويكلي في 13 أبريل 1997 و التي قال فيها المرشد الاخواني مصطفي مشهور "بأن مرجعية الحكم في مصر هي الشريعة الاسلامية و أن علي الأقباط أن يدفعوا الجزية بديلا عن التحاقهم بالجيش حتي لا ينحازوا الي صف الأعداء عند محاربة دولة مسيحية" !! . و ما كانوا يقولونه ليل نهار ، أن شرط حكم مصر أو قيادة جيشها هو "الاسلام والذكورة" في استبعاد واضح للمرأة و الأقباط . بالطبع استمرت مثل تلك التصريحات و غيرها حتي ما قبل اجتياح العراق في 2003 ولكن بعد سقوط بغداد و بعد تسليم الراحل القذافي لمعدات محاولة صنع أسلحته النووية لجورج بوش ، اختفت تلك العنتريات و تلك النغمة اليقينية الغيبية التي "لا جدال حولها أو فيها" و أصبحت لغة الخطاب الاسلاموي الإخواني في أيامنا هذه قريبة إن لم تكن مشابهة لخطابات حسن نصر الله أي عن أميريكا واسرائيل و عن العدالة و رفع المظلومية. كل ذلك يجعلنا نتساءل بدهشة خصوصا أمام محاولات إخوان مصر الآن بالابتعاد عن الترشح لرئاسة مصر ، هل فعلا أحس الاسلام السياسي بعيون الغرب الفاحصة والتي تحدق فيه أناء الليل و أطراف النهار حتي لا يحيد عن شروط اللعبة و هل فعلا خضعوا "للناتو الإله" !! كما تقول الأسطورة. مدينة توبنغن - ألمانيا