فتحت حادثة اغتصاب نزيل شاب في مزرعة سجن سنجة من قبل عساكر بشرطة السجون الباب من جديد للجدل بشأن جدوى السجن في أدنى عقوبة.. لاسيما وان دولاً مختلفة سبقت في التجربة لما يعرف ب(العقوبات البديلة) كبديل آخر للحبس والتوقيف.. وهناك أمر آخر يمكن استخلاصه من عقوبة الصبي التي استحالت الى مأساة مروعة، في أن الجزاء من جنس العمل والعقوبة عملية ايلام بدني ونفسي تكافئ الجريمة التي حط عليها المتهم.. فهل استحقت جريمة تعاطي (الشيشة) لو سلمنا جدلاً بأنها جريمة جزاء بقضاء الشخص ثلاثة اشهر مخفوراً خلف القضبان؛ حيث القي القبض عليه في الخرطوم وأحيل الى سجن سنجة مع نزلاء آخرين لقضاء العقوبة.. وأن تفضي به عقوبة السجن لمأساة لا شك انها ستلقي بظلالها السوداء على مستقبل ايامه؟، سؤال قطعاً للإجابة. ثم هل كان جزاء الظالمين يوازي ما اقترفوا من جرم حيث قضت المحكمة بحبسهم وجلدهم وطردهم من الخدمة العسكرية. ثم كيف يكون السجن إصلاحاً وتهذيباً إن كان الداخل فيه مفقود، لا يأمن على نفسه وماله وجسده.. واخيراً ألا يجب ان تكون الحادثة المرعبة مدخلاً منطقياً للحديث كما اسلفنا عن جدوى السجون بطريقتها التقليدية ولماذا لا تتجه الدولة لتشريع عقوبات بديلة عن السجن؟ هذا وغيره ما حمل (الأحداث) على الإبحار في هذه الملف الشائك. (1) يُعتبر مفهوم إدخال العقوبات البديلة، من حيث عدم اللجوء إلى الاحتجاز في السجون، تأكيداً لمراعاة حقوق الإنسان في الشريعة وفي القوانين الوضعية، وعدم تقييد حريته، أو التصرف في حياته دون نص شرعي، أو نظامي، - خاصة - إذا لم يكن صاحبه من ذوي السوابق الكبيرة، أو سلوكاً متأصلاً بالجاني، وهو ما يتوافق أيضاً مع المواثيق الدولية، المهتمة بالشأن الحقوقي في هذا الباب. ويؤكد الدكتور سعد عبد القادر القويعي في مقالة بصحيفة (الجزيرة) السعودية عن (تقنين العقوبات البديلة) :"في ظني، أن إقرار العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية بدءًا من بدائل العقوبة، تليها عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية، وانتهاءً بعقوبات سالبة للحرية، تُعتبر أكثر إنسانية من العقوبات المعمول بها - حاليا-. لكونها تدعم فكرة إدماج السجين في المجتمع، عن طريق السماح له بإشراكه في اختيار العقوبة المناسبة له، كتقديم خدمات اجتماعية، أو حضور السجين دورات تدريبية إصلاحية، أو المشاركة في الأعمال الخيرية، أو غير ذلك، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنها ستبرز النهج الإنساني، المتمثل في حفظ كرامة الإنسان. وهو ما يصب في نهاية المطاف، في منظومة العدالة؛ وليكون خياراً مهماً في التخفيف من إشكالية اكتظاظ السجون، والتقليل من النفقات التي يتحملها، والمساهمة في القضاء على عقوبات الحبس قصيرة المدى" . وعطفاً على المقالة المار ذكرها فإن العقوبات البديلة التي التجأت لها دول عديدة ليست بدعاً فقد صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، انه اشترط على بعض من أسارى معركة (بدر) من مشركي مكة على تعليم (10) من الصبية المسلمين، مقابل إطلاق سراحهم. إذن تلك عقوبة بديلة لأسارى الحرب التي كانت لا تتعدى الثلاثة أنماط، إما القود أي الإعدام وإما الفداء أي الغرامة أو المن أي إطلاق الأسير بلا مقابل. وهذا ما كان في الزمان الأول. وفي السودان يمكن أن تصبح العقوبات البديلة ترياقاً لكل العلل التي تعاني منها سجونه، كالتكدس وكلفة ميزانية التأمين والغذاء التي تزداد يوماً بعد يوم كما تؤكد وزارة الداخلية ذاتها.. وغير منكور أن سجون السودان تشكو من التكدس فسجن كوبر على سبيل المثال يضم بين جنباته ما يقارب الأربعة آلاف نزيل في حين أن طاقته مصممة على استيعاب (1200) نزيل في الحد الأقصى. وللتكدس إشكالات ذوات العدد ومنها تفشي الأمراض. وفي جولة شاركت فيها (الأحداث) داخل سجن الهدي العام الماضي أكد الطبيب المسؤول عن الوحدة الصحية بالسجن الملازم طبيب الجزولي حمد: "إنهم يستقبلون ما بين (100) الى (120) حالة من نزلاء السجن كل اليوم، مشيراً الى أن الأمراض الشائعة تتمثل في التهابات المسالك البولية، والقارديا والدسنتاريا والنزلات"، لكن هنالك أشد فتكاً من تلك يساعد التكدس في إفشائها. الأمر الآخر المتمثل في غذاءات السجون التي كثيراً ما أثارت لغطاً كثيفاً حولها؛ وفي ذات الجولة كشف مدير مدينة الهدى الإصلاحية العميد صالح حسين سلمة: أن متوسط الاستهلاك الشهري للنزلاء نصف مليون رغيفة بمعدل (180) رغيفة للنزيل الواحد. أما الأمر الثالث الذي يدخل ضمن كلفة السجناء.. نظام المراقبة داخل السجن التي تحتوي على أنظمة المراقبة الالكترونية "الكاميرات" جنباً الى جنب مع عمليات التأمين الداخلي التقليدية كالكلاب البوليسية والديدبانات.. ومن المعروف أن تكثيف الانتشار الشرطي يتناسب طردياً مع زيادة عدد النزلاء بالسجن. وذكرت مصادر مطلعة ل(الأحداث) أن تكلفة النزيل الواحد تتراوح بين (30) الى (40) جنيهاً في اليوم تشمل الأكل والشرب والحراسة والخدمات الأخرى كالكهرباء والمياه. في المقابل يؤكد نزيل قضى قرابة العامين داخل سجن كوبر أن كلفة الأكل والشرب والعلاج يمكن أن تبلغ (20) جنيهاً يومياً في المتوسط للنزيل الواحد، ويذهب اللواء سمير خميس الذي شغل منصباً رفيعاً في شرطة السجون قبل الانفصال أن ميزانية السجون يمكن أن تصل الى (42) ملياراً سنويا. ويسوق اللواء سمير ما تقدم ذكر دلائل على عدم جدوى الحبس دائماً فيما عدا حالات الضرورة القصوى. ويتساءل ماذا سيفيد الدولة أو المجتمع من سجن مدان باحتساء خمر.. مع العلم أن هذا المدان يمضي مدة العقوبة كاملة على نفقة الدولة. ويشير اللواء سمير الذي استفسرته (الأحداث) عن السبب وراء عدم اشتمال نظام السجون في السودان على آلية العقوبات البديلة الى أن: مسألة التوسع في العقوبات البديلة تشريعية بحتة لا صلة لشرطة السجون أو وزارة الداخلية بها باعتبارها جهة منفذة للقانون والأحكام القضائية لا شأن لها بسن القوانين والتشريعات. ويمضي ليقول: لكن بالنظر الى كلفة النزلاء من غذاء وكساء وتأمين وغيرها فيجب التفكير جدياً في اقرار الآلية المذكورة". ويضيف أن التشدد في بعض الأحكام القضائية غير مطلوب في بعض الأحيان وعليه يجب أن تكون اللجوء لعقوبة السجن في نطاق ضيق ممكنا وأيضاً التقليل من توقيع غرامات باهظة لأن الشخص قد يضطر لاختيار السجن لعدم مقدرته على سداد العقوبة المالية التي وقعت عليه. ويتفق الخبير القانوني نبيل أديب مع اللواء سمير بأن العقوبات كما تنص القاعدة الفقهية إيلام مقصود يتناسب مع الجريمة.. وحسب المفهوم التقليدي فإن السجن هو البديل الأصيل للإيلام البدني فيما تأتي العقوبات المالية (الغرامات) استثناءً، لكن في ظل تطور منظومات حقوق الإنسان توجهت الكثير من الدول لاتخاذ تدابير احترازية أخرى بديلة للسجن لاسيما في الجرائم غير الخطيرة وغير العمدية، حيث يجري التركيز على إعادة تأهيل الجاني عوضاً عن سجنه، حتى لا يعود لارتكاب ذات الجريمة أو غيرها في المستقبل مرة اخرى حيث يفرض على المدان أداء خدمة للمجتمع، مثلاً مدرس ضرب بالسجن يمكن الحكم عليه بتدريس حصص إضافية على مدى (25) يوماً بدون مقابل أو نظافة الطرقات أو غيرها حيث يمكن الاستفادة من كل مدان في مجاله لكن مع التؤكيد على أن هذا الأمر يكون مع الجرائم غير الخطيرة أو غير المتعمدة التي تقع بدون قصد جنائي كحوادث السيارات. (2) وأيضاً العقوبات البديلة تكون لجرائم لا تستحق السجن كالجرائم الالكترونية والتعويض بالحق المدني كالشيكات والإيجارات وتعثر السداد، فتلك الفئة من النزلاء تقتضي أعواماً طوالاً في غياهب السجون كان يمكن أن يستفيدوا منها أن تصبح معيناً لهم في العمل وجني المال لإقالة عثرتهم ومن ثم مغادرتهم الزنازين. وقد اشارت وزيرة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم السابقة عفاف احمد عبد الرحمن لقضايا كهذه لنزلاء يقضون مدداً بالسنوات في السجن لعدم تسديد مديونيات. وتساءلت ألم يكن من الأفضل أن تتاح لهم الفرصة للعمل لتسديد ما عليهم من مطالبات بدل البقاء خلف القضبان في انتظار تسوية تقوم بها دواوين أو مؤسسات الدولة أو الخيرين. وهناك شيء آخر في عقوبة السجن تتبدى في أن عقوبة الأب أو الأم لا تقف عندهما وحدهما، بل قد تمتد في أحايين كثيرة لتأخذ أبناءهم في طريقها، إذ يعانون من التشرد والتسرب من المدارس وربما يصبحون صيداً سهلاً لعصابات الجريمة لغياب المراقبة والتوجيه لظروف غياب آبائهم أو أمهاتهم. ويعضد تلك الفرضية اللواء سمير خميس بأن السجن ذا آثار سالبة على الشخص وأسرته. ويؤكد أن السجن يفضي الى تبادل الخبرات في مضمار الجريمة فتسهم في تخريج مجرمين أكثر خبرة ودارية بكيفية ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب.. وهذا عين ما يمضي اليه نبيل أديب أن حبس شخص ما ارتكب جرماً صغيرا، ولم يكن ذا ميول إجرامية فطرية مع عتاة الإجرام مضر بشدة ويمكن أن يقود هذا الاختلاط الى ضرر أكبر في المستقبل إذ يمكن أن يتعلم ذاك الشخص أو تتفتح أعينه على أنماط من الجريمة كانت خافية تماماً عليه. (3) نافلة القول أن العقوبات سواء أكانت توقيفاً في حراسات الشرطة أو حبساً في زنازين السجون، اتسعت بشكل لافت في ظل اتساع مساحات التجريم للمواطنين. مع الأخذ في الاعتبار التخليط في تصنيف الجرائم إذ إن القانون الجنائي لا يفرق كثيراً بين الجناية والجنحة والمخالفة.. وهذا ما استدعى أن تصبح مخالفات عادية كعدم تسديد رسوم النفايات أو فواتير المياه أو العوائد مدعاة وسبباً كافياً لتوفيقك ومحاكمتك بالسجن لحين السداد.. هذا في ظل تناقص الاعتماد على البدائل الأخرى كالضمان والتعهد الشخصي والضمان بمحل السكن أو غيرها من الوسائل المطلوبة للحد من الإجراءات التي يمكن أن تؤدي الى توقيف المطلوبين واقتيادهم الى الحبس. ويؤكد الخبير القانوني نبيل أديب أن ما سبق يندرج تحت بند عدم معقولية بعض القوانين السارية ويمثل بأن قانون النظام العام ينص في إحدى مواده على عدم غسل السيارات إلا في الأماكن المخصصة لها وتبعاً لذلك يمكن بسهولة - حسب أديب - أن تؤدي تلك المخالفة لحبس الشخص الذي قام بارتكابها. ويشير الى أن عدم معقولية القانون قد يصبح مدعاة لعدم خضوع الناس إليه لجهة أن القانون إذا فقد المعقول لا يحترم. ويمكن أن يقاوم بوسائل سرية فمنع تدخين (الشيشة) بقوة القانون قد يسهم في تفشي تعاطيها خفية بعيداً عن أعين القانون.. لكن اذا ارتكزت الحملة على مخاطر التدخين الصحية يمكن أن تلقى تجاوباً أكبر من فرض النهي بالقانون. خالد فتحى [[email protected]]