من سيحصد الكرة الذهبية 2025؟    كندا وأستراليا وبريطانيا تعترف بدولة فلسطين.. وإسرائيل تستنفر    مدير جهاز الأمن والمخابرات: يدعو لتصنيف مليشيا الدعم السريع "جماعة إرهابية "    الزمالة يبدأ مشواره الأفريقي بخسارة أمام ديكيداها الصومالي    تدشين أجهزة مركز عمليات الطوارئ بالمركز وعدد من الولايات    ترمب .. منعت نشوب حرب بين مصر و إثيوبيا بسبب سد النهضة الإثيوبي    استشهاد أمين عام حكومة ولاية شمال دارفور وزوجته إثر استهداف منزلهما بمسيرة استراتيجية من المليشيا    المفوض العام للعون الإنساني وواليا شمال وغرب كردفان يتفقدون معسكرات النزوح بالأبيض    الارصاد تحذر من هطول أمطار غزيرة بعدد من الولايات    وزارة الطاقة تدعم تأهيل المنشآت الشبابية والرياضية بمحلية الخرطوم    "رسوم التأشيرة" تربك السوق الأميركي.. والبيت الأبيض يوضح    د. معاوية البخاري يكتب: ماذا فعل مرتزقة الدعم السريع في السودان؟    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    إدانة إفريقية لحادثة الفاشر    دعوات لإنهاء أزمة التأشيرات للطلاب السودانيين في مصر    الاجتماع التقليدي الفني: الهلال باللون باللون الأزرق، و جاموس باللون الأحمر الكامل    يا ريجي جر الخمسين وأسعد هلال الملايين    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    الأهلي مدني يبدأ مشواره بالكونفدرالية بانتصار على النجم الساحلي التونسي    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى سادِن العربية "الشيخ الطيب عبد المجيد السراجِّي" .. بقلم: عبد الله الشقليني
نشر في سودانيل يوم 14 - 01 - 2012

في ذكرى سادِن العربية " الشيخ الطيب عبد المجيد السراجِّي"
قال عن نفسه : " هكذا خُلقتُ لا أستطيع أن أغير إهابي."
(1)
عن اللغة القرآنية التي أحبها شيخنا " الطيب عبد المجيد السراجِّي" كتب أبو سليمان الخطابي ( حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب- 388 ه ) وهو يتحدث عن لغة القرآن :
( إن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق الرسل ، وهذه أقسام الكلام الفاضل . فالقسم الأول أعلى طبقة الكلام وأرفعه ، والقسم الثاني أوسطه وأقصده ، والقسم الثالث أدناه وأقربه . فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع من أنواعها شُعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على انفراد في نعوتهما كالمتضادين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعاً من الوعورة . فكأن اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما على الآخر فضيلة خُص بها القرآن)
(2)
ولد في أواخر القرن التاسع عشر ( 1893 أو 1888 ) ورحل عام (1963 ) ، ونستدل من تاريخ ميلاده الذي ثبّته الشاعر " محمد المهدي المجذوب " في رثائه له بالبيت الشِعري :
خمسٌ وسبعون لم تفرَحْ بمُبتَهِجٍ بما فعلتَ ولمْ تَظفَرْ بِمُعتَصِمِ
درس الخلوة ثم الأولية فالابتدائية .عمل كاتباً ومُترجماً للبريطانيين الذين حكموا السودان وانكَبَّ على قراءة تُراث شكسبير . استقال من العمل عام 1946. عمل محاسباً بسكك حديد السودان وعمل أيضاً في مصلحة الوابورات . هاجر إلى مكة المكرمة وعمل مدرساً بمدرسة الفلاح الثانوية . وهب حياته للنهل من تراث اللغة العربية وآدابها وأشعارها . بل اختار حياة الفروسية العربية نهج حياة وصارت مسلكه اليومي طبعاً وتطبعاً . يرتدي اللباس العربي بقبائه الفضفاض ، ويعتمر العمامة الخضراء ويركب فرسه متجولاً في طرقات أم درمان القديمة.
نحن في أمسّ الحاجة للوفاء للشيخ "الطيب عبد المجيد السراجِّي "، سادن اللغة القرآنية وعاشقها الولهان . كان متفرداً في محبته العربية لغةً وأشعار. تلك اللغة التي تأثرت بها العديد من اللغات كالتركية والفارسية والأمازيغية والكردية والأُردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الإفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية . أحب " سيدنا " كلاسيكيات الشعر والآداب العربية ، وقد شغفته حباً ، فتعلمها كدحاً بلا مُعلم ، وصعد من القريب السهل إلى المُطلق الرسل وعرّج سماوات الرصين الجزِل . وهنا كان كهفه الذي يتعبد في مغاراته .دلف للحياة العربية القديمة وتجول باديتها ،واكتسب ثقافتها مسلكاً ولغةً .
اكتنز محبة عميقة للثقافة العربية في قلبه و وهب حياته لتلك الثقافة ، آدابها وأشعارها . أحب حياة البادية العربية الطلقة في سالف عصرها وتقمصها في مسلكه ، وفي معاشه ،بل أقام جسوراً عبرت منها لغته المتداولة إلى العربية الفصحى . كان محباً للحياة العربية في زمانها القديم ، سليقتها وصفاءها ورونق جرسها من سلاسة ، وبساطة ورقة وجزالة وغرابة ووعورة واستيحاش. هاجر مثل كل المحبين من اللغة التقريرية المباشرة في سنوات الدراسة الأولى إلى سباحة أعماق بحورها في مُقبِل أيامه ، فكان سيدنا من الناهلين من ذاك النبع ، قرءاني المرجع ، بهي اللغة ، رصين الشِعر ، فصيح اللسان ، اغتسل من تصحيف لكنة الأعاجم ، فنطق الحرف فصيحاً قرشياً مُستطاباً.
زامل أبا شرف ،" محمد عمر إدريس "، "خليفة عباس" ،" محمد عثمان عبد الرحيم "، "حسن مدثر ".راسل علماء اللغة وقد اعترف له "انستاس الكرملي "، كما راسل" عبد القادر المغربي" ، و"النشاشيبي" و"الشنقيطي." قال عنه " عباس محمود العقاد " : ( إن الطيبَ بحرٌ متلاطم الأمواج ) .
كان فريداً مختلفاً عن أبناء جيله. فقد درس و وهب حياته للنهل من العلوم والحديث عنها . غلبته الثقافة الشفهية فكانت هي حياته، تماماً كالبُداة في التاريخ القديم ، مثلما كانت حياة اللاحقين من سدنة العربية من أمثال الأستاذ " عبد القادر كرف " أو الأستاذ " الجعيلي " أو البروفيسور " عبد الله الطيب " ، حتى أن الأخير كادت ثقافته الشفهية أن تذهب بالكثير من كنوزه الثقافية لولا البرامج الإذاعية والتلفزيونية المُسجلة . لم تكن للشيخ " الطيب السراجِّي " كتباً مدونة إلا بعض أشعار باللغة الإنجليزية وكتابات متفرقة ، فهنالك دون شك مخطوطات خطها الشيخ ، وحفظتها مكتبته و مكتبة خلصاء أبنائه . فقد امتشق حسامه ابنه الراحل " فرّاج الطيب " وسلك مسلكه ، السهمُ مكان السهم حتى تكسرت النصال على النصال . أحب مثل والده العربية لغة وشعراً ، وسجلت له الإذاعة السودانية برنامجاً شهيراً هو " لسان العرب " الذي ابتناه على الأثر ، وحاول فيه تصحيح الأخطاء الشائعة في اللغة العربية المتداولة بالتحوير وبالتبديل و بالتصحيف . وصحح الكثير من الأغلاط والأخطاء ، وهي طبيعية لازمتْ تنقل اللغة العربية عبر الدول والقارات والشعوب والثقافات وتلونت بألوان البيئة ، لو لا مناهج اللغة الفصيحة التي قاومت ،إلى أن صارت لغة الدرس ومرجعية القواعد والنحو والصرف ، ومضابط الشِعر .
سافر الشيخ لمصر في أوائل العام 1948 ، وبقي هناك حتَّى عام 1950م، وكان لديه أمل في الانتماء لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة ، ولم يوفق إذ ليس لديه كتب منشورة ، وجلس إلى بعض أدباء مصر واستاء كثيراً من حب بعضهم الإطراء ، وساءتهم صراحته ، وساءه منهم أنهم سألوه : أمِن " الكويت " هو أم مِن " البحرين " !!، وتعجب سيدنا كيف لا تستقيم معرفة العربية بأن يكون المتفقه فيها "سودانياً " !، فرجع إلى وطنه . قال عنه الأستاذ "محجوب عمر باشري " : ( لم ينظر " الطيب " للشعر بمنظار اللغة والفصاحة كما أعتقد الكثيرون، بل نظر إليه بمنظار الخيال والرؤى والصور والإيقاع والكلمة المناسبة.)
عرض عليه الصاغ "صلاح سالم " أن يكون مديراً لإذاعة " صوت العرب " في القاهرة عام 1954 ، فلم يقبل العرض .كان الشيخ شديد الاعتداد بفصاحته وعمق دراسته اللغة العربية ، حتى أنه جاهر بأن لا أحد يتفوق عليه في معرفتها .
(3)
كتب عنه صديقه الأستاذ " خضر حمد" في مذكراته :
( عرفنا الأستاذ " الطيب السراج " منذ عهد الدراسة ، فقد كنا نزوره أحياناً ونحن في السنة النهائية من كلية"غردون "واستمرت العلاقة بيننا تقوى حيناً وتفتر حيناً ، خصوصاً وأن بعضنا قد أبعدتهم ظروف العمل عن العاصمة ولكن عندما تجود الظروف باجتماعنا في أم درمان لا تكاد تنقطع عن داره أو ينقطع عن دورنا وكانت مجالسه مجالس أدب وعلم وفضل لا يعرف العبث ولا يريد أن يضيع لحظة من لحظات الحياة في غير علم أو تعلم .
وأكثر وقت قضيناه معاً كان في سني الحرب فالثورة على الإنجليز والشماتة فيهم وتتبع أخبار الحرب والوقوف إلى جانب النازية وقلة وجود المذياع إلا عند أفراد . كل هذه كانت من الأسباب التي وثقت من أواصر الصلة .
والطيب السراجِّي لا يعيش إلا في الأدب القديم والتاريخ القديم والشعر القديم ولا يتأثر إلا بكل ما هو قديم فأحببنا العربية وذهبنا في تتبع أخبار العرب ومسيرهم وتاريخهم وشعرهم .
ومجالس الشيخ الطيب كانت مجالس علم بحق فهو لا يترك شاردة ولا واردة وإذا تحدث تدفق وانحدر كالسيل فهو لا يعرف أين يقف ،بل لا يريد أن يقف ويقول ما دام هناك علم وما دام هناك طريق إلى هذا العلم ورغبة في الحصول عليه فلماذا لا نسترسل فيه والحديث ذو شجون .
لا شك في أننا أفدنا كثيراً وما من لحظة تمر إلا انتفعنا منها سواء في التاريخ أو اللغة أو السيرة . وقطعنا الشهور العديدة ونحن لا نقرأ إلا القديم ولا يلذ لنا إلا العويص من اللغة حتى حاولنا أن نحفظ أراجيز العرب ونتغنى بأراجيز رؤية العجاج ، ثم سرنا نحاول قراءة" المفضّليات " التي يقول الأستاذ أنها ما زالت بكراً وأن عالماً لم يجرؤ على محاولة تفسيرها وأن ما فعله الأستاذ هارون وزميله إنما كان خداعاً فقد قاما بشرح السهل المعروف وتجاوزا الصعب .
وذهبت إلى مصر ثم جاء الأستاذ "السراجِّي" وحاولنا أن نقدمه إلى رجال المجمع اللغوي وأن ندخله عضواً يمثل السودان وكتبت مذكرة ضافية عن الأستاذ وقدمتها للمجمع وباسم النادي السوداني ، وذهبت يوماً ومعي الأستاذ الكبير "توفيق أحمد البكري" لنقابل الأستاذ " أحمد أمين " وكان مديراً للإدارة الثقافية بالمجمع وتحدثنا معه في شأن الشيخ الطيب وكم أدهشنا وسرنا قول الأستاذ " احمد أمين "
لقد قال أنه رجل نادر لو لم أره ما كنت أصدق ما عرفته عنه أنه من النوع الذي يحمل علمه بين ثنايا ضلوعه لا يرجع إلى مرجع ولا يستشير موسوعة ، ثم أخذ يطنب في مدحه والثناء عليه وتقويم علمه ولكنه أظهر أسفه لأنه لا مجال لقبول الأستاذ عضواً في المجمع لأن العضو تقدمه للمجمع مؤلفاته فهو لا يسأل ولا يمتحن وكما علمت فإنه ليس للأستاذ مؤلف أو مؤلفات تقدمه للأعضاء ، ولكن يجب الانتفاع بهذا الرجل النادر المثال .
والتمسنا رابطة الشعراء أو الأدباء التي كان يرأسها الأستاذ "الدسوقي أباظة" وهيأ له الأستاذ "كامل كيلاني" اجتماعاً مع "دسوقي باشا "وتلامذته ولكن الأستاذ صُدم منهم من أول لحظة لأنهم سألوه هل هو من" الكويت" أو "البحرين" فلم يعجبه السؤال واستنكر عليهم أن ينسبوه إلى بلد غير السودان ثم انصرف عنهم إلى الحديث مع" كامل كيلاني ".
وكلما حاول "كامل كيلاني" أن يلفت نظره إلى الباشا وبقية الأدباء ، كان يقول له أين العلماء هؤلاء " قش " .
وكم شكوته لأصدقائنا وحاولت وحاولوا معي أن يفهموه أن العلماء في مصر يتبادلون الثناء والتقريظ وأنت دائماً تبدأهم بالنقد والنقد الذي يكشف حقيقتهم ويقلل من قيمتهم فكان يقول رحمه الله هكذا خلقت جلفاً لا أستطيع أن أغير إهابي .
وكانت صرامته هذه وحرصه على ذكر الحقيقة هي التي أوصدت أمامه الأبواب فلجأ إلى دار الكتب وكان قد تعرف به أستاذ فاضل يدعى " عبد الله أمين " عرف الشيخ الطيب على حقيقته وحاول أن يصقله نوعاً ما حتى يجد له باباً وبدأ الأستاذ يأخذ بعض المخطوطات ويقرأ منها ويصحح ما فيها من خطأ علمي أو تحريف أو تصحيف .
وعاد إلى السودان فما طابت له الإقامة في مصر وعدنا سيرتنا الأولى نقرأ كل ما هو عربي صميم ونجد في "السراجِّي" المعين الذي لا ينضب .
ومات الشيخ الطيب ولكن كيف مات فذلك سر ما زلنا نعجز عن كشف النقاب عنه ، لقد مات الأستاذ مقتولاً وما كان الأستاذ يوماً ما منذ أن عرفناه يحمل الحقد أو يذكر الناس بسوء أو يتتبع الهفوات بل كان قليل الاتصال بالناس ، قليل الحديث وإذا تحدث فكأنما يهمس همساً .
عرفناه عفا نظيفاً مؤمناً ما مرت بلسانه كلمة أحس بأنها خارجة عن الحدود إلا كان لسانه يسبق بالاستغفار. كان معي قبل موته أو قتله بليلتين فقد كان يفكر في أن يتزوج لأنه كان فارغاً كما يقول .
إنها حكمة الله أرادت لهذا الأستاذ الذي كان يسبح وحده والذي كان يفخر أمامنا دائماً بأنه ليس هناك ابن أنثى أعلم منه بهذه الحروف الثلاثة وما حوت ع .ر.ب أراد الله له أن يموت هكذا موتاً شاذاً غريباً كما كان هو في علمه ومعرفته وحبه للعرب والعروبة شاذا وغريباً ونادر المثال .
رحم الله أستاذنا بقدر حبه للغة القرآن وحرصه عليها وإخلاصه لها وحث الناس عليها ورحمه الله بقدر ما كره الاستعمار والنفاق والخداع . )
(4)
رثاه الشاعر " محمد المهدي المجذوب " في ديوانه " نار المجاذيب " بقصيدة من اثنين وخمسين بيتاً عند مصرعه ، ومنها هذه الأبيات :
الشطُّ لا تدنُ منه اليومَ شطُّ دَمِ فإن ظمئتَ فعاقِر دمعَ منتَقِمِ
أَتبع جفونَكَ إن أبصرتَ راحلةً بين المناكبِ تُلقيها إلى الظُّلَمِ
وأَقبل الفجر هل أبدى بنظرته قصراً هنالكَ فوق الشطّ لم يَرِمِ
ما روعةُ القمم الطولى مُجردةً من صيحةِ النسرِ تَدعُو الصبح للقممِ
في شاطئ النيلِ صلبانٌ مُضرَّجةٌ من حولها الصمتُ بُركانٌ بلا حِممُ
أودى السِّراجيُّ لا الأقلامُ مانعةٌ ولا السيوفُ ولا البُقْيا من الذِّممِ
نَديُمكَ السيفُ كم ناجيتَ شفرتَه وكان عندكَ خِلاًّ غيرَ مُتَّهمِ
قضى عَلِيَّا وكَم ْقاضَى به نَفَراً لا يَسْمعُونَ بِغيرِ السَّيْفِ مِنْ حَكَم
رفعتَ وجهَك إذ أَبصرتَ بارِقه وقد علمتَ فلَمْ تَجْزَعْ ولم تخِمِ
لقَيتَهُ بجبينٍ كَمْ شَمَخَتْ بِه وَقَدْ لقيتَ ذِئابَ الأِنْسِ في الأَجَم
*
جالستُ عندَك أوطاراً ظفِرتُ بها كأساً وشِعراً وأَزْلاَماً على صنمِ
بِتنَا المَجَازَ وفي أَرحالِنَا رَجَزٌ يثورُ كالبحْرِ في الأَوزانِ الكَلِمِ
تُصغي وجبْهَتُكَ الشمَّاءُ لاذ بِها ضفيرتانِ لياذَ العُصم بالقِمَمِ
نقيمُ هَيكَلَ عِشتارٍ وندْخُلُه مقرَّبينَ مع الأَسرارِ في حَرَمِ
(5)
غيابه الأبدي :
كتب الشاعر " محمد المهدي المجذوب " في مقدمة قصيدة رثائه :
" دخل عليه قاتله ففلق رأس الشيخ بسيفه المعلق بجانبه ".
لم يُعرف عن سيدنا " الطيب " إلا سيرته الطيبة ووده وعميق ثقافته ومحبته للعلم . ليس بينه وبين الآخرين إلا كثير محبة . لم تَعرف " أم درمان الستينات " جرائم اغتيال ،إلا ما كانوا يسمونها " قتيلة الشنطة " ومصرع الأستاذ " الطيب السراجِّي " . كتب الكاتب الأم درماني المخضرم " الأستاذ " شوقي بدري " الكثير عنه . وتدور الأحاجي والأساطير حول مصرع سيدنا ، وكيف حاك الغموض قميص رحيله . منها أن لصوصاً قتلوه ، ولكن سطوة الأسطورة التي تلتف حول عنق "الطائفية "، سوداوية البطش ، هي صاحبة القدح المعلى في غيبة شيخنا الراحل .
ألف رحمة ونور عليه ، ونهيرٌ عذبٌ من سلسبيل الجنان ، يسري بإذن مولاه من تحت مرقده ، وأن ينال صُحبة الذين أحب في دنياه وأن يكون بينهم في مآلهم بإذن صاحب الوقت ومالك الأرواح .
عبد الله الشقليني
14/1/ 2012
abdalla shiglini [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.