وأخيراً واستحقاقاً للمادة 142 من دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005 أصدر السيد/ رئيس الجمهورية مرسوماً بإنشاء المفوضية القومية لحقوق الإنسان. بالرغم من اني لا أعرف معظم الأعضاء المعينين للمفوضية إلا أني أحسب أنهم جميعهم من المشهود لهم بالاستقلالية والكفاءة وعدم الإنتماء الحزبي والحيدة والتجرد وفقاً للفقرة (ج) (1) من المادة السادسة من قانون المفوضية القومية لحقوق الانسان لسنة 2009م. وهنا أرجو أن أزجي لهم التهنئة واتمنى لهم النجاح في تأدية واجباتهم على النحو الذي جاءت به في أحكام القانون. لنجاح المفوضية في أعمالها يجب أن تتوفر الإرادة السياسية لدى السلطة التنفيذية ولدى السلطة التشريعية لمقابلة التزاماتهم الدستورية والقانونية إضافة إلى واجباتهم وفقاً للإتفاقيات الدولية ، المتعلقة بحقوق الإنسان، التي انضم لها السودان. ربما يكون من البداهة أن نذكر بأن انتهاك حقوق الانسان يحدث عادة من السلطة التنفيذية والاجهزة التابعة لها، وهذا قد يضع المفوضية في مواجهة تلك الاجهزة ،والمفوضية قادرة على تجاوز مثل ذلك التناقض. كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أجازت في عام 1993م ولأول مرة مبادئ عامة لإنشاء الجمعيات والمفوضيات المستقلة لحقوق الانسان والتي عرفت فيما بعد بمبادئ باريس .... معظم تلك المبادئ تضمنتها المادة 142 من الدستور الانتقالي وكذلك أحكام قانون المفوضية القومية لحقوق الانسان لسنة 2009م غير أني أود أن أذكر:- أ. التأكيد على استقلال المفوضية واستقلال أعضائها. ب. أن يكون لها التمويل الكافي مع عدم الخضوع لعوائق أو ضوابط مالية تؤثر على استقلاليتها.. ج. أن تكون لها وبموجب القانون السلطات الكافية للتحري وسماع الشكاوي واحالتها للسلطات المختصة. د. أن تكون متاحة للجمهور. تعتمد المفوضية في أداء واجباتها على قضاء مستقل يستطيع حماية الحقوق من تغول السلطة التنفيذية والسلطات التشريعية ،فبدون قضاء مستقل تصبح كافة أنشطة المفوضية كمن يحرث في البحر. قد يكون من المناسب أن تضع المفوضية استراتيجية لعملها تتضمن:- 1.التركيز على وثيقة الحقوق الواردة في الدستور (المواد 27 إلى 48). 2.التركيز على الاتفاقيات الدولية التي انضم لها السودان: أ)اتفاقية الاممالمتحدة للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 والتي صادق عليها السودان في 18/3/1986م. ب) اتفاقية الاممالمتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 والتي صادق عليها السودان في 14/3/1986. ج)اتفاقية الاممالمتحدة لحقوق الطفل لسنة 1989م والتي وقع عليها السودان في 24/7/1990م وصادق عليها في 3/8/1990م، على أن تنتقل المفوضية بعد ذلك لمعالجة بقية الاتفاقيات. 3.تكوين لجان من شخصيات مستقلة ومتجردة وتحت الاشراف المباشر للمفوضية لمساعدتها في كافة واجباتها، في البال حصر القوانين المتعارضة مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية التي أصبح السودان طرفاً فيها(المادة 10(1) (ب) من قانون المفوضية) ، كما يمكن للمفوضية الاستعانة أيضاً بمنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الانسان. 4.الاستعانة بمجلس حقوق الانسان ومكتب المفوض السامي لحقوق الانسان التابعين للأمم المتحدة وذلك لبناء قدرات كوادر المفوضية القانونية والادارية وغيرها وفقاً للأولويات التي تضعها المفوضية، مثال ذلك:- أ) رصد القوانين المتعارضة مع الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها السودان. ب)التدريب على التحري في الشكاوى الخاصة بالأفراد والجماعات. ج) المساعدة في وضع الخطط للحملات الاعلامية لتثقيف الجمهور. د)وضع المناهج التعليمية الخاصة بحقوق الانسان. ه)إعداد التقارير الدورية والسنوية والتي تتطلبها أحكام القانون ونصوص الاتفاقيات الدولية. و/ إعداد قواعد تطبيقية لممارسة بعض حقوق الانسان مثل حرية التجمع السلمي وحرية التنظيم وحرية الصحافة... مثل هذه القواعد يجب أن تصدر بقانون بعد إجراء مشاروات واسعة... المراقب للساحة الآن يجد أن حرية الصحافة مقيدة بقانون الأمن الوطني وكذلك حرية التجمع السلمي وكلاهما يحتاجان لقواعد مفصلة تسمح بحرية ممارستهما، إستناداً على المادة التاسعة من قانون المفوضية والتي تنص على اختصاص المفوضية بالتقدم إلى الحكومة والمجلس الوطني بالطلب لإعادة النظر في النصوص التشريعية أو القرارات الإدارية. أرجو أن أشير أيضاً للمادة 19 من قانون المفوضية والتي تنص على أن (يقوم مجلس الوزراء بإنتداب ستة ممثلين للجهات الحكومية ذات الصلة للمشاركة في أعمال المفوضية بصفة استشارية)، أرى أن هذه المادة قد تؤثر على استقلالية المفوضية ، ويمكن أن يترك للمفوضية الاستعانة بمن تراه وذلك وفقاً للمادة 10 (1) (ب) دون أن تنتدب لها الحكومة مستشارين حكوميين وكما يقولون فإنه لا يكفي أن تطبق العدل بل يجب أن ترى العدل وهو يطبق (Justice must not only be done ,it must be seen done) وعليه ربما رأت المفوضية التقدم بطلب تعديل هذه المادة تأكيداً لاستقلاليتها. لقد أثير جدل قانوني عما إذا كان للمحاكم السودانية صلاحية في تطبيق اتفاقيات حقوق الانسان التي انضم لها السودان في وجود قوانين متعارضة معها، صحيح أنه عند التصديق على مثل تلك الاتفاقيات فأنها تصبح جزءاً من قوانينا الداخلية ولكنه صحيح أيضاً أن بعض ما تعطيه هذه الاتفاقيات من حقوق تأخذه القوانين باليد الأخرى والمثل الساطع هنا هو قانون الأمن الوطني الذي يستطيع أن يوقف ويصادر الصحف دون اللجوء للقضاء ، والمدهش أنه وعندما تلجأ الصحف للقضاء يصدر الحكم بالتأكيد على سلطة الأمن تلك ودونكم الحكم الصادر من المحكمة الدستورية في هذا الخصوص، ولحل هذا التناقض يجب أن تعدل كافة القوانين المتعارضة مع تلك الاتفاقيات ومنع اي تشريع في المستقبل ينتقص من تلك الحقوق ،وفي بعض الحالات يمكن أن تفرغ تلك الاتفاقيات في قوانين منفصلة كما حدث بالنسبة لقانون الطفل. وأني إذ اتمنى لكم التوفيق ،ادرك أن مهمتكم دقيقة وليس بالمهمة السهلة وأن كل الأعين موجهة نحوكم، أعين الجمهور وأعين منظمات المجتمع المدني والرأي العام السوداني بصفة عامة والهيئات الاقليمية والدولية التي تعني بحقوق الانسان وكلهم يرصدون ما تفعلون، وسيحكمون لكم أو عليكم وفقاً لأدائكم . elfatih yousif [[email protected]]