أعلنت جريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعى السودانى، أنها تلقت موافقة مجلس الصحافة والمطبوعات على قبول الأستاذة مديحة عبدالله رئيسة لتحريرها، من بين بضعة مرشحين، لملء المنصب الذى خلا بعد رحيل الأستاذ التيجانى الطيب. وباعتمادها فى هذه المسئولية الرفيعة، حظيت الاستاذة مديحة على ثقة مزدوجة، زملائها من ناحية، والجهة المعنية بأمر الصحف والصحفيين من ناحية ثانية. وللمرة الاولى تتولى امرأة رئاسة تحرير صحيفة حزبية. وهذا هو مبعث الاحتفاء بها. ولم تكن مديحة هى أول النساء ممن باشرن رئاسة تحرير المجلات والصحف فى السودان. فقد سبقتها الى ذلك كوكبة من النساء الرائدات منهن تكوى سركسيان التى أسست مجلة "فتاة الوادى" فى خواتم أربعينات القرن العشرين، واعقبتها الاستاذة فاطمة أحمد ابراهيم باصدار مجلة "صوت المرأة". أعقبتها الاستاذة سعاد الفاتح بتأسيس مجلة "المنار" المنافسة لصوت المرأة. والنساء الثلاثة اقتحمن ميدان العمل الصحفى فى وقت مبكر. لم تكن فيه فكرة المجلات من حيث هى، والنسوية منها على وجه الخصوص أليفة لدى القراء. فكابدن أيما كِبد، بسبب حداثة التجربة وشح الامكانات، فباعن حليهن حيثما اقتضت الحاجة لانجاح مسعاهن. كذلك عانين فى ظرف اتسم بقلة أعداد النساء والفتيات المتعلمات، وعدم تكافؤ الفرص فى المباراة مع كبار الصحفيين أنذاك، أمثال أحمد متولى العتبانى فى صحيفة الرأى العام وبشيرمحمد سعيد و ومحجوب محمد صالح ومحجوب عثمان ‘محجوبان‘ فى صحيفة الأيام، ثم عبدالله رجب فى جريدة الصراحة، ورحمى سليمان فى جريدة الاخبار، ومحمد أحمد السلمابى فى صحيفة الاستقلال، وحسن محجوب فى جريدة الأمة، وحسن الطاهر زروق فى الميدان، وأحمد يوسف هاشم فى صحيفة السودان الجديد، وعلى حامد فى جريدة العلم ومحمد أمين حسين فى صوت السودان ومحمد مكى فى جريدة الناس وغيرهؤلاء. فى سياق مذكراتها قالت فاطمة أحمد بأنها لاقت عنتاً بسبب الاحكام المسبقة لدى بعض المسئولين فى حكومات تلك الفترة الباكرة. وحكت بأنها كتبت ذات مرةً مقالاً ناقداً لحكومة الفريق ابراهيم عبود فى عام 1958 باسمها المستعار ‘الرائدة‘. فاستدعاها الى مكتبه وزير الاعلام انذاك، اللواء محمد طلعت فريد. واستنكر عليها أن تكتب فتاة سودانية فى الصحف السيارة وتتجاسر بالنقد لرأس الدولة. وطلب منها الاعتذار، والكف عن الكتابة فى الصحف، لأن ذلك لايتماشى مع ‘التقاليد السودانية‘. فلم تستجب لمطلبه متحديةً. فهددها مراراً. وفى كل مرة كانت ترد علية بتصميم أشد. وبالرغم من ذلك، وفى سماحته ودعابته المعهودة انتفض واقفاً بحزم عسكرى. وقال لها ‘هلا.. هلا يا بت أخوى. انا أنتر .. وانت تنترى .. عفارم عليك .. اتفضلى أمشى. بس أعملى حسابك شوية‘. وربما واجهت الاستاذة سعاد الفاتح عنتاً مماثلاً بسبب السياسة والاستعلاء الذكورى. فلهن معاً كل التقدير، لانهن رائدات، سلكن طريقاً غير مطروق، ومهدن، كل بطريقتها لنهضة الصحفيات السودانيات المرموقات، مثل امنة بنت وهب وامال سراج وجواهر سيد أحمد وامال عباس وبخيته أمين، امتداداً الى جيل مديحة عبدالله، وكوكبة الصحفيات المبدعات فى هذه الصحيفة وكل الصحف. وصحيفة الميدان بطبيعة الحال هى لسان حزب سياسى يزخر بالمقتدرين من النساء والرجال فى مضمار الفكر والسياسة، مما يعلى من سقف التوقعات لدى قرائها النابهين. وليس الامر هنا بصدد المفاضلة فى غير محلها. ولكن كما يتوقع المرء فان الصحف الحزبية تتحرك فى مساحة سياسية محسوبة. مما يضاعف من مسئولية محرريها. وفى حالة الأستاذة مديحة فانها تواجه عبء سد الفراغ الذى تركه وراءه الراحل التيجانى الطيب، أحد أيقونات الصحافة السودانية، وأشدهم تدقيقاً فيما يجوز مقالاً وما لايجوز. والأستاذة مديحة قبل مجيئها الى صحيفة الميدان، عملت فى جريدة الأيام العريقة. وانتهلت من تجارب واحد من ارسخ الصحفيين قدماً وأعلاهم مقاماً فى عموم افريقيا – الأستاذ محجوب محمد صالح. فحذقت مهنتها ومهنيتها كواحدة من كتاب الأعمدة المقروءة، لأنها تلتقط الفكرة الجديدة، المثيرة للقارىء اللماح، وتصوغها دون ‘زخرفة‘ فى قالب حَسْن. فى سياق اخر، تواجه صناعة الصحف فى العالم كله ضموراً متزايداً، بسبب عالمية الثقافة المتعددة المشارب، وارتفاع وتائرالسباق لحظة بلحظة مع وسائل نقل المعلومات الكترونياً، مما دفع بعدد من الصحف المرموقة فى العالم للتوقف عن الصدور. والصحف الحزبية على وجه التحديد فقدت كثيراً من رواجها وألقها بسبب التحولات الثقافية واتساع الرغبة فى الاطلاع على الرأى والرأى المعارض بنهم متزايد. لقد اضطرت صحف حزبية كانت ملأ السمع والبصر للوقوف عند حافة الافلاس مثل صحيفة الحزب الشيوعى الروسى ‘برافدا‘. فاشتراها بثمن زهيد مليونير اغريقى. لم يصبر عليها طويلاٌ. فأعاد بيعها الى أهلها الأولين. وصحيفة الحزب الشيوعى الفرنسى الواسع النفوذ وسط النقابات العمالية والمثقفين ‘اومانيتيه‘ تراكمت عليها الديون. فاضطر اصحابها الى تخفيف توجهها الحزبى الصارم ومنحوها براحاً لأرتياد مجالات طالما حسبوها من صميم اختصاص الصحف الليبرالية. وفى ظروف السودان لم تنجح أحزاب عريقة فى اصدار صحف لها أو الابقاء على ما قامت بتأسيسه. والناظر الى قائمة الصحف المتكاثرة يوماً بعد يوم يفتقد من بينها الصحف الحزبية، رغم أهميتها الفائقة فى مضمار التوعية والتنظيم والتعبئة السياسية. مما يدعو الى اعادة النظر فى كل جوانب اصدر الصحيفة الحزبية الناجحة حتى تواكب تطلع القراء للانفتاح والتنوع لترقية ثقافة الحوار، والاصغاء للرأى الاخر. لايضير فى شىء من أى اناء خرج. هذا هو واقع الحال الذى تستشرف فيه الأستاذة مديحة عبدالله مسئوليتها الكبرى.