الشعوب تحتفي برموزها لا تجهلهم، فهي تحفظ ذاكرة مشعة لا تنطفي. والشعوب وفية لكل من ترك أثراً لديها. وهذا الحال للرموز التي لا ترقى أن تكون أسطورة.. فكيف الأمر إذا تجاوزت هذه الرموز من مجرد الرمز إلى أسطورة حقيقية. عندما رحل الزعيم جمال عبد الناصر خرجت مصر عن بكرة أبيها في جنازة مهيبة ما تزال الذاكرة المصرية تحفظها. وعندما رحلت أم كلثوم وعبد الحليم وقبلهم غاندي وتشرشل ظهرت مكانة هؤلاء لدى شعوبهم. ومحمد وردي لا يقل أثراً وتأثيراً عن هؤلاء. هو أسطورة تكفي للإحتفاء، وأيقونة متوهجة سطع نورها في سماء الفن اكثر من خمسين عاماً دون أن يخفت بريقها، أو يضعف. محمد وردي الفنان الأسطورة ... ليس مجرد مغني، هو ذاكرة لعصر كامل ، كان شاهداً عليه ومشاركاً فيه ومتفاعلاً معه. محمد وردي مثل الوطن ظل شامخاً صامداً لم يبدل مواقفه أو يتزحزح عنها. حافظ على مبادئه وجاهد للمنافحة عنها، فأحترمه مناهضوه قبل مريديه. ومن ذاك غير محمد وردي... أيقونة الفن والتاريخ وذاكرة شعبه. عطاء غير محدود لأكثر من خمسين عاماً كانت كفيلة أن تشكل الوجدان السوداني وتصوغ خارطته الإبداعية. محمد وردي جسد الصورة المثلى للفنان الحقيقي، وهي صورة بالضرورة ألا تنفصل عن الجانب الإنساني والأخلاقي، وارتباط الفنان بقضايا شعبه وهمومه، لا ينفصل عنها أو يبتعد منها حتى إن ناله من ذلك رزاز النقد ومحاولات التشويه لهذه المواقف الإنسانية التي لم يملك منها فكاكاً ... لأنه فنان إنسان. عندما نقف على أي تجربة وتحديد عبقريتها ربما لن نجد معياراً للتقييم أكثر من معيار خلود التجربة. شكسبير كان عبقرياً ومعيار هذه العبقرية هو خلود أعماله التي تناقلتها الأجيال واحداً بعد الآخر ... لم تجد الأجيال اللاحقة صعوبة في استيعاب أعماله أو الاستمتاع بها... وذلك هو سر العبقرية. ومحمد وردي تجلت عبقريته في خلود أعماله، فصارت صالحة لكل الأجيال. فنانون كثيرون عبروا على ساحة الفن فأخذوا زمنهم ثم مضوا لكنهم لم يفلحوا أن يخلدوا أعمالهم للأجيال الجديدة، فظلت أعمالهم حبيسة لجيلهم دون أن تخترق أجيالاً لاحقة. لكن عبقرية وردي تتجلى أن معجبيه هم الشباب والأطفال والشيوخ. عبقرية وردي تتمظهر كذلك في تمكنه من إختراق الأذن السودانية في كل مكان بهذه الأرض... هو فنان السودانيين –كلهم- بتنوعهم الإجتماعي والعرقي والجهوي. وردي الصوت المتفرد والكلمة المتفردة، والقضايا الكبرى بعيداً عن المزايدة والهتافية. كان دائماً يقول أنه يغني للوطن، وينتمي لحزب الغلابة والمساكين والشعب، وهو سر آخر من أسرار العبقرية التي لن تتاتى إلا لوردي. صحيح أن الشعوب تحتفي برموزها، لكنها لا تحزن لرحيل هذه الرموز إلا إن كانت فوق العادة تضعها في مصاف الأساطير مثل الراحل محمد وردي، فقد عم الحزن كل أرجاء السودان حاضره وبواديه ... ريفه ومدنه.. بل حتى النخيل قد مالت أعسافها حزناً على الفقد الجلد كما عبر عن ذلك بصدق أحد أصدقاء الراحل بقريته صوادرة. برحيل وردي يفقد السودان هرماً من أهراماته، وأيقونة ساطعة كان شعاعها يضيء تاريخنا وحاضرنا. رحم الله محمد وردي وأبدله داراً خيراً من داره ... رحمه الله بقدر ما أسعد هذا الشعب وبقدر الفرح الذي تمدد لوجداننا وانداح لمسام مشاعرنا. Ayman Abo El Hassen [[email protected]]