لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن النبي موسى والختان واخناتون .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيا
نشر في سودانيل يوم 16 - 04 - 2012

في مقالنا: (السودان في الكتاب المقدس) أوردنا ما ذكرته التوارة من ان موسى تزوج بامراة من بلاد كوش (السودان). ومن هنا تسآءلنا : هل أن شعيبا الذي زوج موسى ابنته كان سودانيا من كوش ؟ تسآءلنا ولم نؤكد أو ننفي تاركين الباب مفتوحا لكل الاحتمالات.
واشفعنا ذلك بايرادنا لوصف ابن جرير الطبري لنبي الله موسى كونه كان "آدما" أي اسمر او بالاحرى أخضر البشرة. جاء ذلك في سياق تفسير الطبري لقوله تعالى مخاطبا موسى:" أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" يقول الطبري: أي من غير بَرص – وكان موسى عليه السلام رجلا آدم أقنى جعدا طوال – فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه". أي عادت إلى لون بشرته كما كانت. وبذلك يشدد الطبري على سواد لون النبي موسى.
وهذه التساؤلات تجد مشروعيتها اضافة إلى هذه الاشارات، في الذاكرة التراثية. ففي السيرة النبوية الشعبية يعتقد قطاع من السودانيين وبخاصة ذوي المشرب الصوفي ان موسى والخضر – عليهما السلام- سودانيان وان قصة صحبة موسى للخضر جرت بالسودان والبحر هو بحر النيل وان مجمع البحرين هو مقرن النيليين الازرق والابيض. لا جدال ان مثل هذا الاعتقاد يفتقر إلى الادلة والشواهد المادية والتاريخية والاثرية ولذلك يظل مجرد اعتقاد، الا أنه لم ينشأ من فراغ وانما فيه أصداء وظلال لاراء ومعتقدات ذات مصادر متعددة. بعض هذه المصادر قديم وهو ما أشرنا إليه وبعضها حديث يتوسل إلى ذلك بالنظر العقلي.
في سياق حديثه عن غزو ملوك السودان (اثيوبيا سابقا) لمصر وسيطرتهم عليها والثابت بالادلة التاريخية والاثرية، يعرض نعوم شقير إلى حكاية زواج النبي موسى " التوراتية" من سودانية. ولكنه يصف هذه الحكاية بالخرافة.
يقول ": وقد رأيت في بعض التواريخ القديمة ان الاثيوبيين غزوا مصر في ايام موسى النبي واكتسحوا البلاد إلى ممفيس. فاستشار المصريون آلهتهم في شأن الاثيوبيين فأوحت إليهم أن يجندوا جيشا ويعقدوا لواءه لرجل من العبرانيين فاختاروا موسى قائما على جيشهم وأطلقوا له الحرية ليفعل ما يشاء لردع الاثيوبيين فزحف موسى بالجيش على عاصمة اثيوبيا ولم يتخذ طريق النيل كما انتظر الاثيوبيين بل سار بطريق الصحراء. قيل وكان في طريقه ارض تموج بالحيات فأخذ معه في أقفاص من البيبورس عددا من طيور ابي منجل المصرية التي تصطاد الحيات. فلما وصل إلى تلك الارض أفلتها من الاقفاص فأهلكت جميع الحيات وفتحت الطريق للجيش فأطبق موسى على الاثيوبيين مفاجئا لهم فانهزموا شر انهزام وانسحبوا إلى عاصمتهم الحصينة فحصرهم فيها وكانوا يخرجون إليه ويناجزونه فيردهم على أعقابهم خاسرين. وكانت ابنة ملك اثيوبيا في قصرها تشاهد القتال فأعجبتها بسالة موسى فوقع حبه في قلبها وعشقته فاسرت بذلك الى بعض رجالها الذين تثق بهم وقالت لهم: اذهبوا الى موسى واخبروه ياتي اسلمه المدينة بشرط انه يتخذني زوجة له فاجاب موسى الى طلبها ودخل وتزوج بها." – انتهى.
الا أن روح المؤرخ تتغلب على نعوم شقير فيصف هذه الحكاية بانها " من القصص التقليدية الخرافية التي لا دليل على صحتها". ولكنه لم يشا ان يكشف عن المصدر الذي أخذ عنه هذه القصة.
أغلب الظن ان مصدر هذه القصة التراث اليهودي وتفاسير التوراة. وما يؤيد ذلك أن فرويد يذكر في كتابه (موسى والتوحيد) ان الادب التوراتي يتحدث أن موسى كان قد هرب إلى السودان (اثيوبيا) خوفا من حسد عصبة البلاد وغضب الفرعون. وأن شروحات التوارة تتحدث عن مآثر موسى الحربية في السودان. وهنا ننوه بخطأ المفكر جورج طرابيشي – مترجم كتاب فرويد – في ترجمة كلمة أثيوبيا بالحبشة. وقد جاءت إشارة فرويد مقتضبة وهو لم يتوسع في ذلك ليورد تفاصيل زواج موسى من الاميرة السودانية كما اوردها نعوم شقير. ولكن يبدو ان القصة واحدة من حيث التفاصيل والمصدر. ومعلوم ان فرويد يهودي الاصل لكنه لا يدين باليهودية لذلك فهو الاخر يصف هذه القصة بالخرافة. فهو له راي جذري مناهض للتوارة وكل ما جاء فيها بشان النبي موسى.
وسيجموند فرويد Sigmund Freud هو العالم المعروف، مؤسس علم النفس، وهو برغم تكريسه جل نشاطه في الكتابة والتاليف لعرض نظرياته في علم النفس والتحليل النفسي الا انه خصص كتابا كاملا عن النبي موسى انتهج فيه نهج النقد التاريخي القائم على النظر والتحليل العقلي وقد خلص فيه الى ان نبي الله موسى كان مصريا وليس يهوديا. وهي نتيجة لا تبعد كثيرا، كما ترى عن الاعتقاد الشعبي عند بعض السودانيين حول الاصل السوداني لموسى، خاصة اذا اخذنا في الاعتبار الاصل المشترك لحضارة وادي النيل.
صدر كتاب Moses and Monotheism (موسى والتوحيد) سنة 1938 وهي ذات السنة التي توفى فيها فرويد. وقد كان الكتاب بمثابة خيبة امل كبيرة لقطاع كبير من اليهود ممن كانوا يعدون فرويد أحد ابنائهم العباقرة. ورغم تردد فرويد في البداية من نشر الكتاب خوفا من غضب الكنيسة وسخط بني جلدته الا ان الكتاب صدر في النهاية. يقول في مستهله :" ان تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يحتفي به على انه اعظم ابنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفة قلب. ولكن ليس ثمة من اعتبار، مهما جل بقادر على اغوائي بتجاهل الحقيقة باسم مصلحة قومية مزعومة."- ص 7
بنى فرويد فرضيته القائلة بالاصل المصري للنبي موسى على عدد من الشواهد والاستنتاجات العقلية والتاريخية والدينية واللغوية وهي:
1- اسم موسى مصري، وليس عبري اسرائيلي.
2- عادة الختان اخذها اليهود عن المصريين عن طريق موسى.
3- الديانة التوحيدية التي تبناها الفرعون المصري اخناتون.
يرفض فرويد التخريج اليهودي لاسم موسى ويرى ان الكلمة ذات أصل مصري وتعني في المصرية القديمة "طفل" وهو ينقل هنا عن كتاب The Dawn of Conscience " فجر الضمير" لعالم المصرويات الحجة في مجاله، جون برستيد: " من المهم ان نلاحظ ان اسمه موسى كان مصريا. فالكلمة المصرية موسى تعني طفل. هي اختصار لصيغ مثل آمون- موس اي آمون الطفل وبتاح- طفل اي بتاح – الطفل وهذه الصيغ نفسها هي في الاصل كاملة: آمون انجب طفلا او بتاح انجب طفلا. وسرعان ما حلت كلمة طفل محل الاسماء المركبة وهكذا تتكرر كلمة موس بكثرة في الاوابد المصرية . ولا شك ان والد موسى قد اعطى ابنه اسما تدخل في تركيبه لفظة آمون او بتاح فاسقط فيما بعد اسم الاله وبقى اسم الطفل ببساطة موسى – موس. اما حرف السين الموجود في نهاية الكلمة Mosesفقد أضيف اضافة في الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم وهو ليس من اللغة العبرانية التي يلفظ بها هذا الاسم موشي." – انتهى. ص 9
قلت: موسى تلفظ في العبرية، موشي او موشيه، بسبب ان السين تلفظ في العبرية شينا. فسلام تلفظ شالوم وشمس تلفظ شمش كما في اللهجة السودانية تماما وسنة تلفظ شنة الخ..
ولكن فرويد لاحظ ان لفظ موس يرد أيضا في اسماء عديدة لملوك مصريين قدماء مثل: أحمُس وتحتموس ورعموس أو رمسيس. ويستغرب كيف ان برستيد قد اغفل الاشارة إلى ذلك في المقتطف المستشهد به أعلاه. ويتسآءل كيف نفسر ان ما من عالم من العلماء الكثيرين الذين أقروا بالاصل المصري لاسم موسى، قد استنتج أو على الاقل اقترح ان حامل هذا الاسم قد يكون نفسه مصريا؟
ولكن يمكن الرد على فرويد هنا بانه كون ان النبي موسى تسمى باسم مصري لا ينهض دليلا كافيا على أنه هو نفسه من أصل مصري، فبني اسرائيل استقروا حقب عديدة بمصر قبل خروجهم منها بقيادة موسى. فلا عجب ان يتخذوا لمواليدهم بعض الاسماء المصرية القديمة. مثل هذه الحجة لم تغب على بال فرويد ولكنه يوظفها عكسيا ليدلل على هنالك شخصيات تاريخية من اصول اجنبية قادت شعوب لا تنتمي اليها قوميا مثل نابليون بونابرت ذو الاصل الايطالي. لا غرو إذن ان يقود موسى (المصري) حسب فرضية فرويد ، بني اسرائيل. كذلك يستشهد فرويد بعقدة لسان موسى المذكورة في كل من التوراة والقرآن. ويتخذ ذلك دليلا على ان لغة بني اسرائيل كانت اجنبية بالنسبة لموسى.
وهنا لا بد من التنويه بان الخطوط الرئيسية في قصة موسى الواردة في التوراة، هي هي، في القرآن الكريم. قصة ولادته واخفائه في التابوت في النيل وقصته مع فرعون وسحرته وهروبه خارج مصر وعمله راعيا لشعيب وزواجه من بنته وشقه للبحر وقصة التيه في سيناء وعبادة اليهود للعجل ألخ.. ، نعم هنالك اختلاف في التفاصيل. فاسلوب القرآن مجمل يعتمد على الايجاز والاشارة اما التوراة فتغرق في التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل. وهنالك اختلاف مهم آخر وهو أن التوراة تقوم كلها على السرد القصصي. اما القرآن فنزل في صيغة خطاب مباشر من الله سبحانه وتعالى.
وما يقال عن قصة موسى يقال أيضا عن قصص الانبياء المعروفين بالكتب السماوية: آدم ونوح وابراهيم ويعقوب ويوسف وغيرهم. وهذا ما يؤكده قوله تعالي:" وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" وقوله جل شأنه : " ان هذا لفي الصحف الاولى، صحف ابراهيم وموسى". أما مسالة التحريف التي ترد في القرآن الكريم فهي تنصب بصفة أساسية على نكران أهل الكتاب لنبوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
الحجة الثانية التي يعتمد عليها فرويد في فرضية الاصل المصري لموسى، هي الختان. المعلوم ان ختان الذكور عند اليهود ليس مجرد عادة، بل هي من صميم العقيدة عندهم. هي العهد الذي بينهم وبين الله حسب تصورهم. ويرى فرويد ان اليهود اخذوا عادة الختان من قدماء المصريين اثناء بقائهم بمصر. وان النبي موسى لكونه مصريا، هو الذي فرضه عليهم. وتكاد تجمع المراجع التي يستند عليها فرويد بما فيها مؤلفات علماء اللاهوت اليهود والمسيحيين، على أن الختان عند اليهود مصري الاصل.
كذلك يستشهد فرويد في ذلك بتاريخ هيرودت. يقول هيرودت :" المصريون ينفردون عن سواهم في العالم بالختان ولعل هنالك من يشاركونهم هذه العادة وهؤلاء اخذوا هذا التقليد عنهم." وأغلب الظن أن هيرودت يتحدث هنا عن ختان الذكور إذ لم ترد في كتابه أي اشارة في كتابه إلى ختان الاناث. هذا، ولا يعرف اليهود ختان الاناث. وقد أثبتت الكشوف الاثرية والموميات ورسوم جدران الاضرحة، صحة ما ذكره هيرودت عن عادة ختان الذكور عند قدماء المصريين.
ويُلمِح هيرودوت الى احتمال ان يكون أصل الختان سودانيا إذ يقول انه لا يدري اذا كان المصريون اخذوه عن السودانيين:" الختان معروف عند المصريين والاثيوبيين منذ اقدم العصور. وهذا أمر يقر به الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون إنما أخذوا هذا التقليد من المصريين. أما الاثيوبيون فلا أملك أن اجزم إن كانوا أخذوا بهذا التقليد عن المصريين، أم أن المصريين يقتدون بهم في اتباعه ولكن مما لا ريب فيه أنه يعود إلى تاريخ بالغ القدم في اثيوبيا". ص 178- هنا نُذكِر ان اثيوبيا عند الاغريق هي السودان الحاضر. - انظر مقالنا : السودان في آثار حضارة الاغريق.
يقول فرويد:" لم يهب موسى اليهود دينا جديدا فحسب- بل أسس أيضا – هذا مؤكد - عادة الختان التي لها اهميتها القصوى من منظور المشكلة التي تستأثر باهتمامنا. ومع ذلك فان هذه الواقعة لم تقدر حق قدرها". ص 35
إلا انه يمكن الرد أيضا على فرويد هنا بان بني اسرائيل عرفوا ختان الذكور قبل نبي الله موسى. فوارد في التوارة والاسلام ان ابراهيم ابو الانبياء هو الذي سن عادة الختان. ولكن لم تغب هذه الحقيقة عن بال فرويد. يقول :" صحيح ان الرواية التوراتية كثيرا ما ترجع الختان اولا الى عصر الآباء باعتباره أياه علامة الحلف المعقود بين الله وابراهيم". ص35
ولكن يجوز لفرويد ان يرد على ذلك بان ابراهيم انما اخذ هذه العادة من مصر وهذا ما لم يذكره. فتخبرنا التوارة وتؤيدها في ذلك كتب السيرة الاسلامية ان ابراهيم أقام في مصر فترة من الزمان هو وزوجته سارة وهنالك تزوج هاجر المصرية (أم هي كوشية) ثم توجه إلى الحجاز لاقامة قواعد البيت بمكة. وتخبرنا المصادر الاسلامية والتوراتية ان ابراهيم ختن نفسه في سن متقدمة بقدوم!! فهل في ذلك إشارة إلى انه عرف عادة الختان بعد زيارته لمصر؟
الحجة الثالثة والاخيرة التي يقيم عليها فرويد فرضيته بمصرية نبي الله موسى، الدعوة التوحيدية التي جاء بها. معلوم ان الديانة المصرية القديمة تعددية وثنية. كانت هنالك عددا من الالهة على راسهم الاله رع أو آمون رع إله الشمس. ولكن شذ عن ذلك فرعون مصري واحد هو أمنحوتب الرابع الذي اعتلى العرش سنة 1375 ق .م وسمى نفسه فيما بعد اخناتون. أنكر اخناتون تعدد الالهة واتخذ الها واحدا هو الاله آتون واقامه مكان الاله آمون وفرض عبادته وحده على المصريين ونبذ السحر والتنجيم. وظلت الديانة التوحيدية الجديدة طوال عهد الاسرة الثامنة عشر حتى وفاة اخناتون وبعد وفاته عاد المصريون مرة اخرى لمذهبهم التعددي السابق. وهذه الديانة الجديدة هي، التي يفترض فرويد أن موسى قد دعا إليها بني اسرائيل.
ولكن يمكن أن يُرد على فرويد بان آباء بني اسرائيل عرفوا دين التوحيد قبل موسى. وذلك من لدن ابراهيم ويعقوب واسحاق ويوسف وغيرهم. الا اننا يمكن ان نستنتج من قصة عبادة قوم موسى للعجل الواردة في كل من التوارة والقرآن، أن بني اسرائيل قد نسوا أثناء اقامتهم بمصر الديانات التوحيدية لابائهم الاوائل. وعبادتهم للعجل في صحراء سيناء اثناء غياب موسى عنهم لفترة يؤكد هذا التاثر بديانة المصريين. فالمعروف ان الاله الثور" إبيس" هو أحد آلهة المصريين القدماء (انظر مقالنا: تاثير الاساطير الافرواسيوية في اللغات الاوربية). ومن هنا يصح القول - إذا أخذنا بفرضية فرويد، أن موسى قد أحيا النزعة التوحيدية في بني اسرائيل بعد أن اندثرت بسبب اقامتهم في مصر.
وبالرجوع إلى المؤرخين وعلماء الاثار الذين وصفوا قدماء المصريين في العصور الاولى للحضارة المصرية، نجد أن ثلة من هؤلاء العلماء يرى ان قدماء المصريين الاوائل أفارقة الاصل ولكن تغيرت سحناتهم وملامحهم بتوالي العصور والغزوات المتكررة لمصر. يقول Wallis Budge واليس بيدج، عالم المصرويات الشهير وصاحب كتاب "آلهة المصريين" وغيره من الكتب الهامة في تاريخ حضارة وادي النيل، يقول في كتابه " مصر" :
“The prehistoric native of Egypt, both in the old and new Stone Ages, was African, and there is every reason for saying that the earliest settlers came from the South."
وفي كتابه The Dawn of Civilization يقول غاستون ماسبيرو ( 1846- 1916):"
“By the almost unanimous of ancient historians, they (the Egyptians) belong to an African race which first settled in Ethiopia on the middle Nile, following the course of the river they gradually reached the sea.'
والاشارة إلى اثيوبيا هنا المقصود بها السودان كما سبق التنويه مرارا بدليل عبارة أواسط نهر النيل.( انظر- Diop, Civilization Or Barbarism
وهنا تلتقي فرضية فرويد القائلة بمصرية النبي موسى، بوصفه في تفاسير القرآن الكريم بالسواد، باعتقاد بعض السودانيين بسودانيته.
بقى أن نؤكد أن دافعنا لمثل هذه البحوث ليس محاولة انتحال هوية متوهمة كما يظن البعض. إنما هي روح البحث والتنقيب. والبحث في هذه القضايا كان على الدوام ولا يزال في بؤرة اهتمام الباحثيين والدارسين من مختلف الاجناس في علوم التاريخ والاثار واللاهوت والانثروبلوجيا وعلم الاديان المقارن وفقه اللغة المقارن.
ومن اواخر الاصدارات العربية في هذا المجال كتاب (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة) للباحث والمفكر المصري، محمود سيد القمني، المكون من عدة أجزاء، والذي لم اطلع عليه حتى الان رغم اطلاعي على جميع كتبه الاخرى تقريبا. ولا أدري هل نحى فيه منحى فرويد ام كان له مذهبا آخر. كذلك علمنا ان النيَّل ابو قرون قد أًصدر كتابا عن (النبي موسى عليه السلام ) ولم يقع في يدنا بعد. ولا ادري ما هي حيثياته وإلى أي مدى اعتمد المادة التاريخية والدينية التي اشرنا إليها وكيف كانت تأويلاته لها.
مصادر
1- سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت ط 2004
2- هيرودت، تاريخ هيرودت، ترجمة عبد الاله الملاح ، مراجعة: د. أحمد السقاف ود. حمد بن صراي، المجمع الثقافي، ابو ظبي ، 2001
3- نعوم شقير، تاريخ وجغرافية السودان، دار الثقافة بيروت، لبنان.
4- الطبري، قصص الانبياء، دار الفكر بيروت ، ط 2002.
5- Anta Deiop, Civilization Or Barbarism ,Lawrence Hill Books,1991
abdou alfaya [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.