تيسير ادريس [[email protected]] ما من شك أن نظام الإنقاذ الحاكم قد بدأ يتآكل من الداخل وحلقة الضغوط الخارجية تضيق حول عنقه خاصة بعد تبني المجتمع الدولي لأول مرة بالإجماع قرارًا تحت البند السابع القرار الخاص بوقف الإعمال العدائية بينه وبين دولة الجنوب وحل كافة القضايا العالقة بينهما خلال 90 يوما فقط من تاريخ صدوره من مجلس الأمن في سابقة تعد الأخطر في تاريخ الصراع الشمالي الجنوبي منذ اندلاعه، هذا التآكل والذي وصل حد ينذر بتفتيت ما تبقى من الدولة السودانية تؤكده عدة شواهد سنتطرق إليها في هذا المقال. شواهد التآكل التي ذكرناها كثيرة ومتعددة لن نستطيع الإحاطة بكلياتها وسنكتفي بالأهم والتي تتجلى أولا: في تضارب تصريحات الجهاز التنفيذي في أعلى مستوياته فالمراقب لتصريحات أقطاب النظام المتضاربة بل والمتشاكسة عقب احتلال منطقة هجليج يلمس هذا الأمر بوضوح - راجع تصريحات رئيس النظام الرافض لأي حوار مع دولة الجنوب وقارن بينها وبين تصريحات وزير خارجيته!!- فالتضارب البين لتلك التصريحات تضع النظام بل الدولة السودانية في وضع جد حرج خاصة والقرار الصادر في هذا الخصوص يلزم الطرفين بالعودة لبرتوكولي أديس أبابا الموقع بين عقار ونافع الذي نقضه الرئيس بإيعاز وضغط من منبر خاله والجماعات التكفيرية الملتفة حوله وبالثاني المعروف ببرتوكول الحريات الأربعة الذي أيضا نال ما ناله الأول من تقريع ونكران على يد نفس الجهات التي نصبت نفسها وصيًا وقيمًا على أمر الوطن وقضاياه المصيرية مما يجعل من أمر العودة إليهما اليوم والالتزام بهما فيه حرج ومذلة لنظام الخرطوم غير مسبوقة في تاريخ السياسة السودانية. أما الشاهد الثاني الذي لا تخطئه العين فيتمثل في مسلسل التناحر بين أفراد الطاقم الحكومي من الوزراء وكبار التنفيذيين فلم يكد الناس يولون الظهر لحادثة مسار/ جادين الدراماتيكية والتي طارت فيها رقبة الوزير الهمام على يد أحد موظفيه حتى رفع ستار مسرح العبث الإنقاذي معلنًا بدء ملهاة جديدة لوالي ولاية القضارف الذي اشتبك مع وزير المالية الاتحادي ورجع مغاضبا لولايته ليسرح وزراء حكومته ويهدد بالخروج الصريح عن سلطة المركز التي اتهمها بالجهوية والعنصرية والفساد فتتدخل جهات بعينها ويتم الضغط عليه بالأساليب الإنقاذية المعهودة فيقدم استقالته مكرها!!، وما حدث من والي القضارف وارد حدوثه في أي من ولايات السودان الأخرى خاصة تلك التي استحدثت لدواعي قبلية بدارفور. والشاهد الثالث الذي يعد الأخطر على الإطلاق هو انفضاض قطاعات عريضة من الشباب من حول مشروع الإنقاذ بعد أن انكشفت حقيقته وبارت بضاعته وهذا اتضح جليًا في الهزيمة النكراء لخطاب التعبئة إبان أزمة هجليج الأخيرة الذي أصابه الكساد ولم يجد الاستجابة التي كان يجدها من قبل مما يدل على السقوط المريع للخطاب الفكري التحريضي الذي طال ما دغدغ به النظام مشاعر السذج ودفعهم بلا هدى لمحرقة حروبه الخاسرة، الشيء الذي أجبر أمثال نافع لتسول النصرة والغوث بصور أبنائه في عدة الحرب!! عل بهذا الاستجداء وتلك الحيلة الساذجة يجد مخرجًا من مأزق القناعة التي رسخت في وجدان العامة من الشباب والتي لخصتها مقولة الشارع السوداني الساخرة (ماليزيا تمشوا براكم الجهاد تسوقونا معاكم؟!!). وفي نفس اتجاه هذا الشاهد وتأكيدًا لحقيقة انصراف الشباب عن مشروع الإنقاذ المدمر تأتي نتائج انتخابات الاتحادات الطلابية في الجامعات والتي أصيب فيها المؤتمر الوطني بنكسة كبرى وهزائم متتالية أفقدت منسوبيه الرشد في كل من جامعة "سنار" و"البحر الأحمر" مما أدى لعودتهم للنهج الترهيب المستخدم في حال الهزائم السياسية من حمل السيخ وافتعال أزمة لإفساد الانتخابات تعقبها هجمة أمنية شرسة لإرهاب واعتقال المعارضين نصرة "للإخوان" ولو أدى ذلك لتعطيل الدراسة وضياع العام الدراسي برمته. والشاهد الرابع الذي حير شعب السودان ويدل دلالة واضحة على حجم التآكل الذي أصاب مؤسسات النظام الحاكم هو غياب أولي الدربة السياسية والاعتدال من أهل الإنقاذ أمثال مهدي إبراهيم وسيد الخطيب وغيرهم طوعا أو كرها عن المشهد الإنقاذي وتسيد شيوخ الفتنة ومنبر الخال الرئاسي للصورة بل وتأثيره الواضح على مجريات الأحداث واتخاذ القرارات التي تمس مصير الأمة والتدخل السافر في رسم سياسات النظام الداخلية والخارجية وبالهتاف الأرعن والخطاب الغارق في العنصرية وأثارت التباغض بين أبناء الوطن بحيث أصبح هذا المنبر الشاذ الناطق الرسمي باسم الحكومة يقبل هذا الاتفاق ويرفض ذاك ويوزع صكوك الوطنية لمن يشاء ويرمي كل من خالفه الرأي بالخيانة والعمالة بل ويدعم جماعات الفتنة التي ترتكب الحماقات كحرق الكنائس وهدم الأضرحة والتعدي على حرمة القبور ويجتمع بها مشجعا وداعما دون رادع !!، مما افقد النظام الحاكم ما تبقى له من مصداقية محليا ودوليا وجعل منه مجرد "شخشخة" خاضعة لابتزاز جماعات الفتنة وظلا بائسا يتبع خطاها التي تقوده والبلاد لشر مستطير ومستقبل أكثر بؤسا. بالإضافة إلى ما ذكرنا من شواهد تكشف فضيحة احتلال منطقة هجليج الإستراتجية بكل تلك السهولة من قبل دولة وليدة لا تزال تحت سن الرشد عن مدى الفوضى التي عمت القوات النظامية وتطرح جملة تساؤلات هامة عن الأسباب التي أدت لهذا التقصير الأمني الخطير حاول النظام التهرب من الإجابة عليها بتدشين حملته الرعناء على القوى الوطنية المعارضة صرفا للأنظار عن حقيقة الانهيار الذي يعانيه الجيش الوطني والقوات النظامية الأخرى كنتيجة طبيعية لسياسة دعم وتفضيل القوات غير النظامية من منسوبي الحزب الحاكم (الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية) عليها ومن ما زاد الطين بله الإصرار والاستمرار في سياسة تشريد الضباط والكفاءات العسكرية غير الموالية وإحالتهم للمعاش المبكر مما ترك الدولة تسير عارية (أم فكوه) من الخبرات العسكرية المحترمة تتناوشها أطماع دول الجوار. وأخيرًا تقف اتفاقية سلام الدوحة الهشة على المحك عارية من أي دعم مالي التزمت به السلطة المركزية كشاهد آخر يفضح مدى الاستهتار والتنصل من المواثيق والعهود فبعد أن بح صوت السيد السيسي وهو يدعو المركز للإيفاء بالتزاماته المالية المتفق عليها ها هو يحمل عصا الترحال بيد "وقرعة" التسول بالأخرى ويجوب العالم بحثا عن ما يسد رمق جماهير دارفور التي وثقت فيه وصدقت حكاية "أم ضبيبينة" ،فانتشار الفساد وعمومه الذي نخر عضد الدولة لم يترك أخضر ولا يابس من مقدراتها إلا وقضى عليه بحيث أصبح مجمل الاقتصاد الوطني على شفا حفرة من الانهيار التام ولم يعد لأهل دارفور أو غيرهم من أهل السودان ما ينتظرونه من نظام بات مصرفه المركزي يشكو من "قلة الجرذان". إذن فنظام الإنقاذ الذي قضى عقدين من الزمان يزرع البلاد بالفتن ويثير النعرة القبلية والجهوية ويغرس الأحقاد العنصرية ويشرد الكفاءات ويعتقل ويقتل المعارضين ويخصخص مشاريع الدولة الناجحة لصالح شيوخه ومنسوبيه ويفرق كي يسود أملا في البقاء ولو كان ذلك على أشلاء وطن ها هو اليوم يجني ثمار ما غرس ويرتد كيده في نحره، فقد بدأت تلوح بشائر انهياره الحتمي في الأفق ليكون مقتله في حصاد ما زرع!!. تيسير حسن إدريس 05/05/2012م