كما هو الحال بالنسبة لكل الدول فإن العديد من العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية تحكم العلاقات بين جنوب أفريقيا وزمبابوي ، فاعتماد زمبابوي الكبير على جنوب أفريقيا باعتبارها منفذها الأهم إلى البحر ، والدور المهم الذي تلعبه حكومة جنوب أفريقيا في المجالين الاقتصادي والسياسي لجارتها جعل بعض المراقبين يطلقون على زمبابوي صفة المحافظة الحادية عشر لجمهورية جنوب أفريقيا. من جانب آخر ، كانت زمبابوي تقف دائماً إلى جانب حركة التحرير في جنوب أفريقيا خلال فترة النضال الطويلة ضد نظام الفصل العنصري هناك ، ولعب الرئيس موغابي شخصياً باعتباره زعيماً لدول المواجهة في الجنوب الأفريقي في ذلك الوقت دوراً مقدراً في إحكام الحصار السياسي والاقتصادي على النظام العنصري مما أدى في النهاية لانهياره وتحقيق حكم الأغلبية. ولا شك أن حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا تحس بالامتنان للدور الذي قامت به زمبابوي بدعمها لشعب جنوب أفريقيا ونضاله ضد حكم الأقلية. انعكس هذا الامتنان في الموقف المتحفظ الذي اتخذته حكومة جنوب أفريقيا حيال قضايا حقوق الإنسان في زمبابوي والتي أثارت الكثير من الدوائر خاصة في الغرب. غير أن حكومة جنوب أفريقيا خاصة على أيام الرئيس السابق تابو مبيكي لم تقف موقف المتفرج ، بل ظلت تسعى لمساعدة نظام الرئيس موغابي للخروج من المأزق الذي وجد نفسه فيه سواء أن كان ذلك عن طريق العمل على تحقيق الوفاق الوطني داخل زمبابوي نفسها ، أو عبر محاولات التوسط لتخفيف حدة التوتر بين الحكومة الزمبابوية والمجتمع الدولي. شهد الأسبوع الماضي حادثاً قد ينعكس بصورة سلبية على العلاقات بين البلدين ، فقد أصدرت محكمة عليا في بريتوريا حكما يلزم حكومة جنوب أفريقيا بالتحري في تهم بانتهاك حقوق الانسان تتورط فيها الحكومة في زمبابوي. جاء حكم المحكمة بناء على دعوى تقدم بها منتدى اللاجئين الزمبابويين ومركز جنوب أفريقيا للتقاضي يطالبان فيها بتعليق قرار حكومة جنوب أفريقيا القاضي بعدم التحري في التهم الموجهة لمسئولين حكوميين من زمبابوي يعتقد أنهم شاركوا في عام 2007 في ارتكاب انتهاكات لحقوق الانسان وجرائم ضد الانسانية عندما قامت الشرطة باقتحام مكاتب "الحركة من أجل التغيير الديمقراطي" واعتقال مائة مواطن تم التحقيق معهم واخضاعهم لعمليات تعذيب. يقول مركز التقاضي الذي تقدم بالشكوى انه قام في وقت سابق بتقديم مذكرة مفصلة تحتوى على كل المعلومات حول الموضوع للمدعي العام إلذي تجاهل الأمر تماماً. استند القاضي في حكمه على حقيقة أن حكومة جنوب أفريقيا بمصادقتها على النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية تكون ملزمة بالقانون الدولي والقوانين المحلية بالتحري في أي جرائم ضد الإنسانية يرتكبها أشخاص من مواطنيها أو غيرهم ، حتى وإن وقعت الجريمة نفسها خارج حدود الدولة. وكان برلمان جنوب أفريقيا قد أجاز في عام 2002 ما يعرف بقانون المحكمة الجنائية الدولية والذي يمنح المحاكم في جنوب أفريقيا حق محاكمة أي متهم في القضايا التي تقع تحت طائلة القانون الدولي خاصة فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية. غير أن الحكومة قررت عدم التحري في القضايا المرفوعة ضد بعض المسئولين في زمبابوي مما حدا بالمنظمتين لرفع الأمر للمحكمة المذكورة. وتشير تقارير أخبارية إلى أن عدداً من المسئولين الزمابويين المتهمين بارتكاب جرائم التعذيب في الحادثة المعنية ظلوا يزورون جنوب أفريقيا من حين لآخر دون أن تتعرض لهم السلطات بالاعتقال أو المساءلة. بل إن منتدى لاجئي زمبابوي بجنوب أفريقيا يهدد برفع أسماء بعض المسئولين في حكومة جنوب أفريقيا نفسها للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة مشاركتهم في ترحيل عدد من المعارضين للرئيس موغابي إلى هراري حيث لقي أحدهم حتفه ولا زال بعضهم يقبع في السجون حسب رواية المسئولين عن المنتدى. كما هو متوقع فقد رحبت منظمات حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا بالحكم الذي وصفه بعضها بأنه تاريخي ، واشار ممثلون عن مركز جنوب افريقيا للتقاضي ومنظمة محامون من أجل حقوق الانسان أن الحكم يلقي على عاتق حكومة جنوب أفريقيا تبعة التحقيق في مثل هذه الجرائم ليس في دول الجوار وحسب بل وفي أي مكان من العالم في حالة عبور المتهمين بارتكابها الحدود الدولية لجنوب أفريقيا. ويرى الكثير من المراقبين أن القرار لن ينعكس على علاقات جنوب أفريقيا مع زمبابوي وحسب ، بل قد ينسحب على علاقاتها مع دول اخرى تطالب المحكمة الجنائية الدولية باعتقال مسئولين فيها لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية. لم يصدر بعد رد فعل من جانب حكومة جنوب أفريقيا غير أن الواضح أنها غير مرتاحة لقرار المحكمة ، فهي من جانب لا تريد لعلاقاتها مع دول مهمة مثل زمبابوي أن تتأثر بمثل هذه القضايا ، كما أنه سيكون من الصعب جداً عليها أن تتجاهل القرار. ويرى بعض المراقبين أن الاحتمال الأكبر هو أن الحكومة ستقوم باستئناف القرار وأن المرافعات القانونية قد تستغرق وقتاً طويلاً يسمح لها بفسحة مهمة من الوقت تستطيع خلالها ترتيب الأمور بالصورة التي تقلل من الضرر، كما تساعد على صب الماء البارد على القضية بما يفقدها فورة الحماس التي قوبلت بها مع صدور قرار المحكمة ، عملاً بحكمة "البعير أو الأمير أو الفقير". جاء رد فعل حكومة زمبابوي على حكم المحكمة العليا في بريتوريا سريعاً على لسان وزير العدل والشئون القانونية الذي قلل كثيراً من قيمته مشيراً إلى أنه حكم عام بدون أي تفاصيل ، وانه يسئ للنظام القضائي في جنوب أفريقيا قبل أن يسئ لحكومة زمبابوي. ومضي الوزير للقول بأن الغرض الأساس منه هو استهداف الحكومة في هراري والسعي لإسقاطها مشيراً بأصابع الاتهام لبعض "الروديسيين" البيض الذين لجأوا إلى جنوب أفريقيا بعد أن هجروا زمبابوي بسبب رفضهم لسياسة الحكومة حول حيازة الأراضي الزراعية. المعروف أن الرئيس موغابي قام بتطبيق سياسة للإصلاح الزراعي في التسعينات من القرن الماضي تهدف إلى إعادة توزيع الأراضي التي كان البيض يملكون 70% منها بينما لا يشكلون سوى نسبة 1% فقط من جملة سكان البلاد. بالرغم من الهدف السامي وراء سياسة الاصلاح الزراعي إلا أنه رافق تطبيقها الكثير من التجاوزات مما وضع الرئيس موغابي في مواجهة مع المجتمع الدولي وبصفة خاصة المؤسسات الاقتصادية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كان من نتائج السياسة أيضاً هجرة الكثير من المزارعين والمستثمرين البيض إلى جنوب أفريقيا حيث استقر بهم المقام وواصلوا نشاطهم الاقتصادي بسبب الأجواء المشجعة للاستثمار في ذلك البلد. من جهة أخرى ، اشار وزير العدل الزمبابوي إلى أن طرح القضية في هذا الوقت بالذات لا يعدو كونه محاولة لوضع سجل زمبابوي في مجال حقوق الانسان تحت المجهر خلال الزيارة التي ستقوم بها مفوضة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان للبلاد. لم ينس الوزير كذلك أن يهاجم المحكمة الجنائية الدولية التي قال إنها أنشئت خصيصاً لمحاكمة المسئولين الأفريقيين في القارة الأوربية في محاولة يائسة لعودة الاستعمار للقارة. ومضى للقول أن أحكام المحكمة الجنائية الدولية لا تنطبق على زمبابوي التي لم توقع على نظامها الأساس لأنها لا ترغب أن تكون طرفاً في هذا النوع من العدالة المسيسة. من جانبها فإن حكومة جنوب أفريقيا لا زالت تتابع الأمر بهدوء تام ، إلا أن ذلك لا يعني بالطبع أنها لا تهتم بما قد تقود له تطورات القضية في المستقبل. فجنوب أفريقيا من الدول التي صادقت على القانون التأسيسي للمحكمة الجنائية الدولية ، بل إن البرلمان اصدر - كما أشرنا أعلاه - قانوناً يحدد بوضوح التزامات الدولة حيال المحكمة. ولا تريد الحكومة بالطبع أن تدخل في جدل مع المحكمة العليا في بريتوريا مما قد يقدح في مدى جديتها للالتزام بمسئولياتها الدولية. غير أنها تعرف أن الانصياع لقرار المحكمة العليا سيقود لأزمة في علاقاتها مع زمبابوي وربما ينعكس كذلك على علاقاتها مع العديد من الدول الأفريقية التي يرفض الكثير منها التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية. وتهتم حكومة جنوب أفريقيا بعلاقاتها مع زمبابوي لعدة أسباب من بينها أنها تسعى بالوساطة بين مختلف القوى السياسية هناك للاتفاق حول نظام للحكم يتسم بالحرية والديمقراطية ويضمن انتقالاً سلساً للسلطة في حالة وفاة الرئيس موغابي الذي زاحم عمره التسعين عاماً ، ويساعد في رفع العقوبات الدولية المفروضة على الحكومة في زمبابوي. ولا شك أن حكم المحكمة العليا يشكل أيضاً عقبة في طريق نجاح مساعي حكومة جنوب أفريقيا لتطبيع علاقات زمبابوي مع المجتمع الدولي ، ولعل ما صدر عن سفير الاتحاد الأوربي في هراري مؤخرا من تصريحات بأن المنظمة لن ترفع العقوبات المفروضة على الرئيس موغابي والدائرة المحيطة به إلا بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة تؤكد أن الطريق أمام جهود حكومة جنوب أفريقيا لا زالت طويلة ووعرة. تأتي تصريحات السفير بالرغم من أن الاتحاد الأوربي أعرب مؤخراً عن ترحيبه بالتقدم الذي حدث في زمبابوي منذ تكوين حكومة الوحدة الوطنية بالبلاد في عام 2009 ، كما تأتي رداً على ما ورد في الصحافة الزمبابوية ، عند تغطيتها لزيارة وفد وزاري كبير من زمبابوي لرئاسة الاتحاد الأوربي ، بأن الاتحاد الاوربي سيرفع العقوبات المذكورة في المستقبل القريب. Mahjoub Basha [[email protected]]