شهد الأسبوعان الماضيان عدة تطورات مثيرة للاهتمام تتعلق بتطبيق العدالة الدولية على بعض المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في القارة الأفريقية ، فقد أجاز البرلمان السنغالي قراراً بالموافقة على تشكيل محكمة خاصة في إطار النظام العدلي للبلاد بغرض محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين هبرى والذي ظل مقيماً بالسنغال تحت حماية حكومة الرئيس عبد الله واد لأكثر من عقدين من الزمان. جاءت موافقة البرلمان على ضوء الاتفاق الذي تم توقيعه في أغسطس الماضي بين حكومة السنغال والاتحاد الأفريقي والذي يقضي بمحاكمة الرئيس هبري داخل القارة الأفريقية في أول حادثة من نوعها بالنسبة لرئيس دولة. من ناحية أخرى ، أشار رئيس جمهورية ساحل العاج الحسن واتارا خلال زيارة كان يقوم بها لفرنسا أن بلاده قد لا تقوم بتسليم سيمون غباغبا زوجة رئيس البلاد السابق للمحكمة الجنائية الدولية ، وأن هناك اتجاه لمحاكمتها داخل البلاد على الجرائم التي ارتكبتها والتي تشمل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. أما في لاهاي فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بياناً أشارت فيه إلى أنها ستبدأ جلسات الاستماع الخاصة بالتهم الموجهة ضد الرئيس لوران غباغبو نفسه في النصف الثاني من فبراير القادم. غير أن القرار الذي يتوقع أن يثير الكثير من الجدل وردود الأفعال السياسية والقانونية مستقبلاً فهو القرار الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية نفسها الأسبوع الماضي بإسقاط التهم ضد ماثيو تشوي أحد أمراء الحرب في الكونغو الديمقراطية. قُدِم تشوي للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في قضية تتعلق بمجزرة وقعت في قرية بوغورو بشرق الكونغو الديمقراطية عام 2003 فقد فيها مائتان من المواطنين أرواحهم وشهدت خلالها القرية العديد من عمليات النهب والاغتصاب ، كما اتُهم تشوي بتجنيد الاطفال. تقول المحكمة أن قرارها لا يعني بالطبع عدم وقوع الجرائم المذكورة في المكان والزمان المحددين أو خلال فترة الحرب في المنطقة المذكورة ، ومن المتوقع أن تثير الملاحظات التي ألحقت بقرار اسقاط التهم الكثير من النقاط المقلقة بشأن وثيقة روما والقوانين التي يعمل بمقتضاها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. لم تقبل هيئة الاتهام ، كما هو متوقع ، بالحكم وذكرت بأنها ستتقدم باستئناف ضده ، إلا أن بعض القانونيين يقولون أن فرص تعديل قرار المحكمة تبدو ضئيلة للغاية. كان من الطبيعي أن يثير القرار ردود فعل قوية من جانب بعض القانونيين ومنظمات حقوق الإنسان ، فقد أشار أحد المستشارين السابقين لرئيس المحكمة الجنائية الدولية إلى أن نتيجة المحاكمة تدعو لضرورة مراجعة الوسائل والمرجعيات التي يعمل على أساسها مكتب المدعي العام وربما إعادة النظر في كيفية تشكيل المكتب نفسه. كما دعا إلى ضرورة مراجعة القانون بحيث يتاح للمدعي العام من الوسائل ما يمكنه من جمع المعلومات وتحديد الشهود بالصورة التي تساعد على إثبات التهم في مثل هذه المحاكمات التي يكتنفها الكثير من الملابسات والضغوط. ومن جانبه ، يقول أحد الباحثين التابعين لمنظمة هيومان رايتس ووتش أن المحاكمة أكدت أنه من الصعب جداً إثبات مسئولية المتهم عن حادثة بعينها دون النظر للصورة العامة للأحداث والدور الذي قام به المتهم مما قاد ، في اعتقاده ، لتكبيل يدي المدعي العام وبالتالي عدم مقدرته على توفير الأدلة الكافية التي يمكن عن طريقها تحقيق العدالة. وكانت القاضية التي أصدرت الحكم على تشوي قد علقت بما يشير إلى أن المادة القانونية التي دفعت بها المدعي العام والتي أطلقت عليها صفة "المشاركة غير المباشرة في الجريمة" لا مكان لها في وثيقة روما ، رافضة اللجوء للتفسير الشخصي للنظام الأساسي بغرض تجاوز بعض القصور في فقراته بالرغم من سمو الهدف وراء ذلك ، وهو العمل على تحقيق احد أهم أهداف المحكمة الجنائية الدولية والمتمثل في عدم الإفلات من العقاب. وقد دفع القرار بعض منتقدي المحكمة للتساؤل عن الجدوى من إنشاء المحكمة في الأساس. وإذا كانت منظمات حقوق الإنسان وبعض القانونيين قد رفضوا قرار المحكمة الأخير والذي يقولون انه تمسك فقط بحرفية القانون دون أن يأخذ في الاعتبار الظروف المحيطة بالجريمة ، فإن البعض خاصة في القارة الأفريقية ممن يرفضون أسلوب عمل المحكمة الجنائية الدولية ويعتقدون أنها تستهدف الإفريقيين دون غيرهم قد يرون في ردود الفعل على الحكم والتي تم التعبير عنها حتى الآن حقيقة تؤكد الأهداف السياسية لمن يقفون وراء المحكمة. ظلت الحكومات الأفريقية كما هو معلوم ترفض في غالبها مثول زعماء القارة أو حتى المسئولين فيها أمام محكمة الجنايات الدولية ، وربما كان ما أشرنا له أعلاه حول محاكمة الرئيس حسين هبري المزمعة أو تصريحات رئيس جمهورية ساحل العاج بشأن زوجة الرئيس السابق للبلاد خطوة نحو تأكيد مقدرة دول القارة على محاكمة مواطنيها الذين تجاوزوا حدود القانون في القضايا المتعلقة بجرائم الحرب. لا شك ان أسعد الناس بعد المتهم الذي بُرِأَت ساحته إثنان من المرشحين في الانتخابات الكينية هما اوهورو كينياتا وويليام روتو اللذان يرأسان حتى الآن التذكرة الانتخابية لتحالف اليوبيل الذهبي. فقد كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أوردت في مطلع هذا العام اسميهما تحت قائمة المتهمين في أحداث العنف القبلي التي أعقبت الانتخابات الكينية في عام 2007 والتي راح ضحية لها ما بين 1300 و1600 قتيل وتسببت في نزوح مئات الآلاف عن ديارهم. وبما أن التهم الموجهة لهما ترد تحت نفس المادة التي حوكم بها أمير الحرب الكونغولي فقد صرح أحد محاميي كينياتا أن على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بن سودة أن تقوم الآن بسحب التهمة الموجهة لموكله تماماً أو تطالب على الأقل بتأجيل النظر في القضية إلى حين حسم أمر المواد التي أثارتها القاضية وتفسيراتها. كانت هذه التهم سبباً في اضعاف فرص المرشحين بالفوز في الانتخابات ، كما أن جلسة الاستماع الأولى للقضية ستكون قبل يوم واحد من الموعد المضروب لجولة الإعادة للانتخابات الرئاسية الكينية في أبريل القادم. وقد وردت للمرشحين عدة نصائح آخرها من السيد كوفي عنان مراقب الاتحاد الأفريقي للانتخابات الكينية بضرورة الانسحاب من قائمة المرشحين إذ أن فوزهما سيضع البلاد في مواجهة مع المجتمع الدولي ، وأنه في حالة فوزهما بمونصبي الرئيس ونائبه سيكون من الصعب جداً عليهما أن يقوما بواجباتهما لخدمة المواطن الكيني. أثار قرار المحكمة ببراءة أمير الحرب تشوي قضية مهمة وهي ما أشار له مسئول هيومان رايتس ووتش بأن الاعتماد فقط على الأدلة القانونية قد لا يساعد في تحقيق العدالة بالنسبة للضحايا خاصة إذا كان الحكم متعلقاً بحادثة محددة دون الأخذ في الاعتبار علاقتها بأحداث الحرب الأخرى. ولعل هذا ما أشارت له رئيسة المحكمة في تعليقها على الحكم عندما قالت أن الأدلة القانونية تشير إلى أن المتهم "غير مذنب" ولكنه لا يمكن القطع بأنه برئ ، وقد عزت ذلك لعجز الاتهام من إثبات الدعوى ضده بشأن الحادثة المعنية بسبب عدم توفر الأدلة القانونية بالاضافة للشكوك التي رافقت إفادات الشهود. غير أنه وبالرغم من فداحة الأحداث إلا أن الاعتماد على قرائن الأحوال قد يفتح الباب واسعاً أمام محاكمات ذات طبيعة سياسية مما يفقد العدالة الدولية سمتها الأهم ويجعل عمل المحكمة خاضعاً لرغبات القوى الكبرى التي تتمتع بنفوذ واسع على الساحة الدولية. وليس من المستبعد أن يتم في المسقبل مراجعة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بغرض منحها المزيد من الصلاحيات لضمان محاكمة مجرمي الحرب ومنفذي الجرائم ضد الانسانية. هناك بعض الأصوات التي تنادي بأن تتم محاكمة المسئولين الأفريقيين عن الجرائم ضد الانسانية داخل القارة الأفريقية كما حدث بالنسبة للمحكمة الدولية لرواندا والتي تقترب الآن وبعد 17 عاماً من اختتام أعمالها في مدينة أروشا بتنزانيا ، وقد أصدرت المحكمة آخر حكم لها يوم السبت الماضي وهي تدخل الآن مرحلة النظر في طلبات الاستئناف. تواجه محكمة أروشا ، كما هو معلوم بعض الانتقاد باعتبار أنها طبقت قانون المنتصر إذ أن أحكامها لم تطال أياً من منتسبي الجبهة الرواندية الوطنية التي آلت لها مقاليد الأمور بعد الحرب ، كما أنها لم تطال جهات أوربية قامت بتوفير التمويل للطرف المنتصر في الحرب. ومما لا شك فيه أن لأفريقيا تجاربها الخاصة في تطبيق العدالة والوفاق التي حققت درجات متفاوتة من النجاح. ولعل أبرزها تجربة جنوب أفريقيا المتمثلة في مفوضية الحقيقة والمصالحة ، فضلاً عن الكثير من المؤسسات التقليدية للمصالحة في الدول الأفريقية الأخرى وهي مؤسسات تحتاج للقليل من الاجتهاد وإعمال الفكر والالتزام بمبادئ حقوق الانسان من جانب النخبة الحاكمة للاستفادة منها في تحقيق السلام الاجتماعي بما يغني هذه الدول عن اللجوء للمحاكم الدولية. Mahjoub Basha [[email protected]]