د.علي عبدالقادر – باحث أكاديمي- باريس لعلنا من بين تلك الشعوب التي تحب "اللخبطة" وعدم النظام والتنسيق، فخذ يا "رعاك الله" كل تلك اللخبطة أو الخلطة السحرية التي تستدعى عمل أيام وجهد ليال للقيام باعداد وتحضير خلطة "اللابري" و"عواسته" ! فهل القيمة الغذائية أو حتى الفوائد الصحية "للآبري" مثل "قطع العطش" وغيرها تستحق كل ذلك الجهد، مقارنة بالمشروبات الأخرى. ثم تفاجأ باستمرار اللخبطة حتى على مستوى ال étymologie أي أصل الكلمة في اللغة، فلم يجد الشعب السوداني لتسمية ما سبق تحضيره و"لخه" سوى كلمة "حلومر" آي نصفه حلواً ونصفه مر؟ وتجد نفس تلك "الجلبطة" بين المفاهيم والمعاني في كثير من التعابير مثل "كلام ساكت" و"الليلة بالنهار" وغيرها. وتتمدد تلك العفوية بل قل العشوائية لتصبح أصل لحياة المواطن السوداني ولسياسات الدولة، يوم لإندلاع حرب ويوم إعلان هدنة وتوقيع إتفاقيات مع الفرقاء، وقبل إن يجف المداد الذي وقعت به الاتفاقية يتم إعلان الحرب مرة ثانية، و يفتح اليوم باب الاستيراد ويقفل غداً باب التصدير، في يوم الخميس يمنع تدوال العملة الصعبة وفي يوم السبت تمنح التصريحات وتفتح صرافات سدنة الإنقاذ. قلة قليلة من السودانيين لم تكفر بعد بإمكانية إن "ينعدل" الحال وينصلح بالبلاد، أما البقية فتجدهم يلعنون "سنسفيل" هذا الوطن وبأنه لا أمل البتة في الحاضر او المستقبل لأن النفوس قد خربت والضمائر ماتت وكملاذ أخير يقولون لن يصلحها إلا الله، مع علمهم ً بأنه "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وبأن السماء لا تمطر إصلاحاً. يبقى التسأول هل تلك اللخبطة التي شكلت التناقض في الشخصية السودانية ما هي إلا بقايا الصراع والإضطراب الذي لا ينقطع بين الزنوجة والعروبة ! وكمثال لما سبق نجد أن الجميع يرفض الفساد من الناحية النظريةً ولكنه يمارسه سلوكا، ويعتبر كل منا بإن مايدفعه الاخرون مقابل منفعة ما أو يتلقونه هو رشوة وهي فعل محرم بنص الحديث النبوي، ونفس تلك الفعلة إذا قام بها الواحد منا تعتبر شطارة من باب "مشي إمورك" ! ، تهرب الاخرين من أعمالهم هو تسيب ولكن عندما نفعله نحن هو ظروف إستثنائية، إمتلاك الأخرين للمنازل والفيلات هو من مظاهر الفساد ولكن عندما نقوم به نحن فهو دليل "دردحة" ، ودليل على النجاح والصعود الإجتماعي. إقتناع بل إعتقاد المسؤول بأنه ظل الله في الأرض "الزارعنا غير الله اليجي يقلعنا" وبأن كل إمكانيات البلاد والعباد هي مسخرة لخدمته من أجل تحقيق وتمكين مشروع الدولة الرسالي "هي لله هي لله"، وأن من بين دلالات التمكين تحليل الزواج له بمثنى وثلاث ورباع حتى يعتدل مزاجه ويتفرغ لخدمة البلاد والعباد، وبأن كل من يقول "بغم" هو من أعداء الثورة والدولة ويعمل لحساب جهات خارجية وعليه "إن يلحس كوعه" ! عن أبي الأسود عن ابن أبي عياش عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول : " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" رواه البخاري. جاء في الأثر "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقران"، ولكن في بلادنا فأن السلطان الحاكم هو أس البلاء ومنبت السوء، وهو وطغمته من أدخل الناس في "حيص بيص" .ورغم ذلك فيبقى القول بإن محاربة الفساد من قبل الأنظمة والأجهزة العدلية والبوليس وغيرها يجب أن يسبقه ممارسة للنزاهة من قبل المواطن حاكماً كان أم محكوماً. فلا يمكن للفرد ان يكتب الكتب أو يؤلف النظريات أو يجعر بالشكوى لطوب الارض من الفساد في حين تجد أنه يمارسه حتى في صلاته وعلاقته مع أقرب الأقربين اليه. صحيح ان الشعب قد "قنع" من الانقاذ ومن "إي خير فيها"، ولكن قبل إن نتوجه بالنقد لحال البلد وما آلت اليه من وضع كارثي، يجب على كل منا ان يشدد على نفسه السؤال مثنى وثلاث ورباع وعندما يرتد اليه السؤال و"هو حسير" مخبراً بأن لكل منا مسئولية كبيرة في ذلك الإنهيار االخطير ! وان كل مناً مشارك بصورة أو أخرى في إحدى ثلاث مصائب كبرى، الا وهى : -استنزاف موارد البلاد، وأهمها المواطن السوداني الذي قتل منه مئات الالاف في حروب الجنوب، مجازر دارفور،حروب جنوب النيل الازرق، جبال النوبة، وشرد منه مئات الآلآف إلى معسكرات النازحين داخل وخارج البلاد. ;إضطرار بل إجبار ألالاف الكفاْءات والخبرات على الهجرة خارح البلاد، ومن ذلك أيضا التجارة في المنتجات المنتهية الصلاحية او ردئية الجودة، تجارة العملة الصعبة، عدم التفانى في العمل والتسيب ناهيك عن أولئك الذين يستلمون مرتبات ومخصصات "ماهية" مقابل تسجيل اسمائهم في كشف العاملين في مؤسسة حكومية ما، في حين انه لا تطأ أقدامهم مكان العمل الا مرة واحدة في الشهر ألا وهي عند استلام الراتب . - تبديد ثروات البلاد ومثال لذلك ممارسة جميع أنواع التهريب، ومنها ملايين الدولارات التي تهرب من خزينة الدولة بصورة منتظمة الى أرصدة الإنقاذيين بالبنوك الاجنبية، أراضي البلاد وخيراتها المعدنية التي تمنح لشركاء الانقاذ من المستثمرين الأجانب شبه مجانا،غسيل الأموال والرخص التجارية العشوائية لتصدير خيرات البلاد وأحيانا إبادتها كتصاريح صيد الحيوانات البرية، وكذلك التهرب من الضرائب والجمارك. -تضييع الاوقات في التنظير و"الكلام الفارغ" ، البعض منا يناقش ويحلل بل يدعي معرفته لحل كل مشاكل الشرق الأوسط وأزمة الاقتصاد العالمي خلال "قعدة" شراب الشاي "العصرية"، وإطالة الجلوس تحت الاشجار او ضل "الحيطة"، و جلسات بالساعات مع ستات الشاي والقهوة، أو متابعة المسلسلات المصرية والتركية والجنوب أمريكية، غيرها في القنوات الفضائية في محاولة لقتل "الوقت"، بدلاً عن محاولة تطوير كل فرد لنفسه. عودة على بدء، نقول بأن الثورة تبدأ في النفوس ضد كل مظاهر الظلم والفساد،على كل منا أن يساهم من خلال موقعه ولو بقدر يسير لإيقاف ذلك التدهور المريع والفظيع للعباد والبلاد نحو هاوية التفتت والتلاشي بسبب القبلية ودواعي الحروب الاهلية وتأصل الأنانية، وحتى يكون كل منا إيجابي، ولعلها ألف باء الإحساس بالإنتماء وإحياء روح المواطنة ويائها هو العصيان المدني الكامل، فليبدأ ببناء نفسه وتوعيتها، وليغرسلو فسيلة "شتلة" أمام منزله ويتعهد بأن ينظف أمام بيته، كمساهمة منه لإيقاد شمعة أمل من خلال سلوكه اليومي وبهذا النهج الحضاري تحت شعار "قلبي على وطني" ، هنا يمكن أن نقول قد "ينعدل" الحال. لنفرح ونردد عملاً لا قولاً "أبداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا". [email protected]