لقد حان الوقت لجهاد النفس بمحاربة الفساد والمفسدين خاصة وأن البلاد تشهد وقفة وطنية جهادية لا ينبغي أن تمر دون وقفة رسمية ضد المظاهر السالبة؛ ولهذا نوجه هذا المقال إلى السيد أبي قناية بصفته المسئول عن ملف محاربة الفساد. ونستشهد هنا بهذه الأبيات من الشعر النبطي لأنها تصف ما آل أليه الوضع في السودان بكل دقة: سد مأرب انهار والسبب فار وحنا بلادنا فيه مليون فاره فيراناً صغار وفيراناً كبار مصاصة الدم أكثرت في الجْحَاره أهل الطمع والجشع ناسن أشرار أكلوا مصالحنا وقالوا شطاره فقد كان سد مارب رمزاً لحضارة عظيمة وإلا لما ورد ذكره في القرآن الكريم على سبيل العبرة والعظة ولكنه انهار بفعل فأر كما أشار الشاعر و هنا تكمن الرمزية. وإن كان الناس في السودان يستخدمون لفظ "تمساح" لمن يتعدى على المال العام و يستغل سلطته فهذا ليس مستغرباً لأن من شأن القوي إذا لم يمنعه وازع أو دين أو خلق أو يردعه قانون أو سلطان أن يستخدم قوته في ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل.وأذكر أننا أيام الدراسة في جامعة الخرطوم عام 1978 قد حضرنا محاضرة للبروفسورعبد الله الطيب فسأله أحد الحاضرين عن قصيدة التمساح المشهورة يا رحمن أرحم بي جودك دلى الغوث ينزل فى بلودك التي جاء فيها: يا الخلفا الحالكم مرضيه يا أهل البيعه العقدوا النيه التمساح سكن الشايقيه خلو اليروح نسيا منسيا فاعتدل شيخنا في جلسته و رد على السائل بإسلوب لا يخلو من الدعابة والسخرية قائلاً " يا أبني إنّ هذه القصيدة قيلت في شأن تمساح ظهر في ديار الشايقية فتوسل المادح بمن ذكرهم حتى يتخلص الناس من ذلك الحيوان المتوحش و ما أكثر التماسيح الآن" فضجت القاعة بالضحك والتصفيق! و يا ترى ماذا كان سيقول أستاذنا رحمه الله إذا شهد ما يحدث الآن من فساد وعلى عينك يا "أبو قناية". وأفضل مثال على تماسيح السودان هو كبار أعضاء مجلس إدارة شركة الأقطان الذين نتمنى أن تطبّق بحقهم كافة القوانين ذات الصلة ويا ليت العقوبة تطال مسئولي الأوقاف الذين امتدت أياديهم الآثمة إلى حقوق المسلمين العامة بسرقة مال الأوقاف الذي هو مال الله بينما كان شرفاء الهمباتة يترفعون عن سرقة مال القبيلة إذا عرفوا وسمه. والتماسيح من هذا النوع لا ترضى بالقليل و إنما هم قوم طمّاعون يتسمون بالجشع لأنهم إنما يريدون سكنى الدور الفاخرة والسيارات الفخمة والحسان من بنات حواء وبالتالي لا تمتد أياديهم إلا إلى المليارات و يحسبون أن ذلك شطارة بينما هي خسة و مرض في النفوس لا يداويه إلا قانون رادع ووقفة قوية من جانب الدولة. ونسأل الله أن يعين الأستاذ أبا قناية الذي ينطوي اسمه على رمزية واضحة: فالقناية هي عصا طويلة نتمنى أن تطال كل من تسول له نفسه العبث بممتلكات الشعب السوداني وثروته دون مراعاة لمكانة أو صلة قرابة من هذا المسئول أو ذاك. أما الفئران " الجرذان" فهم أولئك المندسون في جحور الخدمة المدنية وغيرها من الجهات و يمتصون دماء الناس دون أن يحس بهم أحد أو يلتفت إليهم رقيب ويمارسون أبشع صور الفساد لأنهم يأكلون حقوق الضعفاء بدم بارد وإلا لماذا يدفع العامل أو الموظف الذي يصل سن المعاش بعد أن خدم البلد ما يزيد عن أربعين سنة رشوة حتى يحصل على مكافأة نهاية الخدمة التي لم تعد تساوي شيئاً مقارنة بما يتقاضاه من أكمل سنتين فقط كوزير إقليمي في ولاية فقيرة من ولايات السودان. وشخص يريد أن يستخرج رخصة بناء منزل متواضع بعد أن ظل يشقى من أجله كل العمر فيطالب بما يسميه بعضهم " تسهيلات" أو " حقنا" لا بارك الله فيهم و لعنوا بما قالوا إذ يسمون الأشياء بغير أسمائها تزييناً للباطل. و طالب أكمل الدراسة ويريد استخراج شهادته ليحصل على وظيفة متواضعة (إذا وجد واسطة) لأن أهله ظلوا ينتظرونه حتى يرفع عنهم العناء فيطالب بدفع مبلغ خمسمائة جنيه ليحصل على المطلوب؛ وكل تلك صور و ممارسات لا يقرها شرع ولا عرف. وإذا أردت الحصول على تأشيرة خروج أو تجديد جواز فأقصر الطرق هو التعرف على واحدة من بائعات الشاي أمام إدارات الهجرة والجنسية و سيأتيك ما تريد قبل أن تقوم من مجلسك أو تكمل شراب كأس الشاي الذي سيكون مجاناً أو بالأحرى ضمن البيعة في هذه الحالة. إن من يفعلون ذلك هم في رأي أشرار الناس الذين قصدهم الشاعر عيد العتيبي. وما أكثر الفئران من هذا النوع في المؤسسات المالية و البنوك خاصة الخدمية التي تتعامل مع بعض صغار المستثمرين مثل المزارعين والرعاة في القرى والمدن الصغيرة. إذا استمر هذا الحال فستنهار سدود أشد خطراً من سد مأرب وتعم اللعنة ليس الجناة فقط بل سيمتد أثرها حتى ما يبقى في هذه الأمة أحد إلا و سيصيبه منها شيء وسنبتلى بالقحط والجفاف والفتن والغلاء ذلك لأن السكوت عن الباطل و الفساد كان من الأسباب التي أهلكت من كان قبلنا لأنهم لم يكونوا يتناهون عن منكر فعلوه وأي منكر أشد من أكل المال بالباطل و تسمية الأشياء بغير أسمائها؟ نحن نريد من السيد أبي قناية أن يستخدم عصاه لينبش أو بعبارة أكثر دقة " لينخس" كل جحر يكون مظنة أن يوجد فيه فأر أو تمساح ابتلع شيئاً من أموال الشعب أو استغل سلطته لتوظيف قريب له بدون مؤهل، أو للحصول على تسهيلات مالية من هذا البنك أو تلك المؤسسة بطريقة غير مشروعة؛ وهو إن لم يستخدم الحزم والعزم والصلاحيات المخولة له إن وجدت ستبتلع التماسيح "قنايته" أو ستقضمها الفئران وسيخسر الاقتصاد السوداني تبعاً لذلك مزيداً من المليارات التي ستذهب إلى جيوب الفاسدين وتنتشر المحسوبية والرشوة أكثر مما هي عليه الآن و لات ساعة مندم.