(من كان ينتظر البشير... فإن البشير قد انتهى ... ومن كان ينتظر الله فإن الله حي لا يموت) هناك ثلاث نقاط جوهرية تجعل من رحيل البشير ونظامه بالكامل ضرورة قومية وليس مجرد مطلب من ترف المطالب أو من باب الرفاهية السياسية أو الحنق الشخصي، وسواء استمرت تظاهرات قوى الهامش أم لم تستمر فإن البشير وكامل منظومته في سبيلهم إلى الزوال والأمر أضحى مسألة وقت ومجمل التساؤل الذي يمكننا أن نطرحه الآن هو شكل النهاية الحتمية فهل سيفهم البشير ذلك ويتنحى من تلقاء نفسه بعد أن يفكك المؤتمر الوطني ويستند إلى الجيش ويدعو إلى مؤتمر جامع ، أم أنه سيكون أذناً لبطانته المدمنة على تمليكه كل ما هو مختلق وتزيين الباطل في عينيه حتى ألقت به في هذا المشهد الذي لم يكن يطب لنا أن نراه فيه؟ وبالعودة إلى النقاط الجوهرية فهناك ثلاث مشكلات تتوقف وجوداً وعدما على وجود أو زوال البشير وكامل منظومته : أولاً: الحصار الإقتصادي: كثير من عامة الشعب لا يعلمون ما لحق الإقتصاد القومي من جراء الحصار الاقتصادي الذي فرض علينا بعد إيواء ابن لادن وكارلوس وحماس وغير ذلك من أنشطة معادية لأعراف المجتمع الدولي بصفة عامة وللولايات المتحدة بصفة خاصة. هذا الحصار وقف حجر عثرة أمام حركة التجارة على وجه الخصوص ، وعمليات البنوك ، وقطع الغيار والمواد الأولية ، ..الخ. واستفاد بعض المحسوبين على النظام من محاولات الحكومة الدؤوبة للالتفاف على هذا الحصار مما فتح باباً ضخماً للفساد حين بدأت القوانين واللوائح إما تتسع أو يتم تجاهلها تماماً كما في حالات العقود الحكومية (المناقصات ، المزاديات ، الممارسات) ، وفقدت اللوائح جانبها الضبطي التنظيمي بشكل مشوه جداً. كما أدى الحصار إلى مشاكل جمة في عمليات التمويل الدولي ومن ثم الاستثمار الجاد والحقيقي الذي يحقق مهامه الثلاثة الأولية : خلق فرص عمل وطنية من خلال التدريب والإحلال ، ضخ عملة حرة ، تنمية الموارد ودفع عجلة الإقتصاد. وباستمرار البشير ومنظومته فإن رفع العقوبات عن السودان أمر شبه مستحيل ، ليس فقط لأن النظام أصبح منبوذاً تماماً من قبل المجتمع الدولي فحسب ، ولكن لأن النظام نفسه لم يتعلم الكثير من أخطائه بل -وبكل عجب -فإنه يستنسخ المشكلات بالكربون ، أو يعمق ما هو قائم منها تعميقاً شديداً ، حتى أن آخر وصف وُصِفَ به المتظاهرون كان (شذاذ الآفاق) أي أنهم ليسو (أولاد بلد) وهذا تعميق للمفاهيم العنصرية التي كان على النظام أن يكون قائداً في محاربتها لتحقيق السلام الإجتماعي وليس استقطاب النعرات العنصرية للتخويف من البديل القادم. على العموم فإن مشكلة الحصار لا يمكن بتاتاً إيجاد معالجة جذرية لها مع بقاء نظام البشير. ثانياً: مشكلة دارفور : مشكلة دارفور أصبحت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام ، المجموعات العربية التي كان النظام يستند إليها لخوض معارك بالوكالة وعت الدرس جيداً وأدركت أنها بيعت ولذلك هي الآن (وبشكل واسع) تقف موقف الحياد وإن لم تعلن ذلك صراحة. لكن تعميق النظام لمشكلة دارفور عبر حلول ضعيفة وفيها الكثير من التخبط بدءً من إثارة النعرات العنصرية أو حتى من خلال الترضيات القبلية والجهوية أو عبر حرب غير مؤسسة على استراتيجية عسكرية وخلافه مما هو معلوم للكافة انتج محاكم جنائية دولية وحصار سياسي على البشير وانقسام الكتلة الأفريقية حول تعاملها مع البشير إلى أن صدر القرار الأمريكي الأخير والذي يقطع المعونات عن أي دولة تستضيف البشير مما وضع الدول الأفريقية والتي في أغلبها تتلقى معونات أمريكية في موقف حرج ما بين مصالحها الخاصة ومصلحة البشير وبالتأكيد فإن الكفة لن ترجح للأخير. وفي النهاية فإن نهاية مشكلة دارفور لن تتأتى إلا برحيل البشير وكافة منظومته ، وفي هذا عنت ورهق كبير على النظام لأن المطالبة بالمحاكمة الجنائية الدولية يجعل من النظام في موقف (البحر خلفي والعدو أمامي) ثالثاً: الوضع في لائحة الإرهاب : هو في الواقع من أخطر ما جابه الشعب مباشرة وليس نظام البشير فقط، لأن الجريمة الإرهابية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بجريمة غسل الأموال ، ومن ثم فإن المهاجرين والمغتربين الذين يعولون أسرهم يعانون جداً من تباطؤ التحويلات البنكية والرقابة العالية على عمليات البنوك . كما ترتبط لائحة الإرهاب إرتباطاً وثيقاً بالحصار الإقتصادي وجوداً وعدماً. ورغم محاولات الحكومة الدءوبة لحذف نفسها من لائحة الإرهاب فإن كل محاولاتها باءت بالفشل حيث أنها فقدت ثقة المجتمع الدولي والولايات المتحدة تماماً ، كما أن الحكومة لم تفهم أن لائحة الإرهاب هي لائحة اعتبارية وأن عملية الإصلاح السياسي هي التي يمكنها أن ترد الاعتبار للحكومة بشكل نهائي وليست مجرد تعاون الحكومة مع المخابرات الأمريكية ضد تنظيم القاعدة أو خلافه.ولذلك فإن كل أخطاء الحكومة سواء في دارفور أو على مستوى حقوق الإنسان أو على مستوى الفساد أو على مستوى الشفافية أدت إلى تباطوء أو صرف النظر تماماً من حذف الحكومة من قائمة الراعين للإرهاب. هناك مشكلات أخرى كثيرة كالفساد والمحسوبية والبطالة والعطالة والتضخم وانخفاض القوة الشرائية للنقود رديفاً مع الارتفاع الجنوني للأسعار ، والانفلاتات الامنية بدارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وضعف قدرة الجيش الدفاعية ضد الهجمات من الدول المعادية ، والمناطق المحتلة من قبل الدول المتاخمة ...الخ . لكن كل هذه المشكلات كان بالإمكان الصبر عليها لو أنها كانت مشاكل فرعية إلا أنها هي الأخرى أصبحت مرتبطة ببقاء أو زوال النظام مما يعني أن كل مشكلات الدولة ستظل في عنقها مادام البشير موجوداً في السلطة . ولم تعد اسطوانة الشريعة الإسلامية المشروخة تجدي نفعاً لإثارة انفعالات الشعب أو استقطابه ، لأن الصورة الآن أصبحت واضحة تماماً فما كان صالحاً بالأمس لم يعد صالحاً اليوم مع زيادة الوعي الشعبي ، هذا الوعي الذي انتجته الظروف الضاغطة والمرهقة للمواطن البسيط . إذاً ؛ البشير في سبيله إلى الرحيل ، وأعتقد بأن الخيار الأفضل للبشير هو أن يعقد صفقة واقعية مع القوى السياسية بحيث يسلم السلطة بشكل سلمي في مقابل تعهد القوى السياسية بعدم تسليمه إلى أي دولة أجنبية وعدم محاكمته داخلياً وعدم المساس بأمواله أو أسرته . وأعتقد أننا يمكننا أن نتقبل هذه الصفقة التي سيربح فيها الجميع إذا تجاوزنا مفاهيم الانتقام إلى متطلبات المصلحة الوطنية القومية .