العقيدة تشكل المرتكز الأساس والمحرك الرئيس للمعالجات التي يركن إليها الأدباء ، و لها دورها المؤثر في تحديد وتوجيه غائية الصراع إلى مفاهيم وآراء وأفكار تستمد وجودها من تأثير العقيده في سلوك الفرد ، وتعامله مع الأحداث وقياده مسار النفس إلى تحقيق معاني الحق والخير والجمال. ولعل أول المبادئ التي التزم بها الأديب الطيب صالح في فنه والتي تتماشي مع مبدأ الصدق ، التزامه جانب المعاصرة والاصالة وهاتان القيمتان هما الركيزتان المحوريتان اللتان يدور حولهما أدب هذا الأديب . فإذا كانت الأصالة التي تستمد معانيها من البيئة السودانية إحدى الركائز التي اعتمد عليها الطيب صالح في فنه ليحتفي من خلالها بمجتمع عاشه فلا ريب أنّ الأديب قادر علي تلمّس روح المجتمع الذي عرفه واحتفي به في قصصه ، وهاهو يعطي صورة حيه لذلك المجتمع الذي عرفه دون الخوض في التفاصيل الدقيقة والأحداث الفردية والمواقف الخاصة من خلال حديث (محمود) مخاطباً (ضوء البيت) .(( ياعبد الله نحن كما تري نعيش تحت ستر المهيمن الديان – حياتنا كد وشظف لكن حياتنا عامرة بالرضي .قابلين بقسمتنا القسمها الله لنا . نصلي فروضنا ، ونحفظ عروضنا ، متحزمين ومتلزمين علي نوائب الزمن وصروف القدر . الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد . القليل العندنا عملناه بسواعدنا ماتعدينا علي حقوق انسان ولا أكلنا ربا ولا سحت . ناس سلام وقت السلام وناس غضب وقت الغضب ... مهما كان نحن قبلناك زي مانقبل الحر والبرد والموت والحياة تقيم معنا لك مالنا وعليك ماعلينا . إذا كانت خير، تجد عندنا كل الخير .وإذا كنت شر ، فالله حسبنا ونعم الوكيل)) ومن خلال ذلك ندرك المعاني الروحية والاسلامية المتغلغلة في نفس المجتمع الذي خرج منه الأديب وبالتالي تعبر بطريق أو بآخر عن أرائه ومفاهيمه نحو الحياة والناس. أما الركيزة الأخرى التي استند عليها الاديب، فتتمثل في تعبيره عن روح العصر الذي عاش فيه ، والمتغيرات السياسية والاجتماعية والتحول الذي يوشك أن يلقي بظلاله علي منظومة المجتمع متخذاً من قرية في شمال السودان تستقي اسمها من اسم رجل صالح عاش فيها (( كان ودحامد في الزمن السالف مملوكاً لرجل فاسق ، وكان من أولياء الله الصالحين ، ويتكتم ايمانه ولا يجرؤ علي الصلاة جهاراً ، حتي لايفتك به سيده الفاسق . ولما ضاق ذرعاً بحياته مع ذلك الكافر ، دعا الله أن ينقذه منه. فهتف به هاتف أن افرش مصلاتك علي الماء، فاذا وقفت بك علي الشاطئ فانزل . وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن . وكان مكاناً خراباً فاقام الرجل وحده يصلي نهاراً فإذا جاء الليل، أتاه امروء ما بصحاف الطعام ويواصل العبادة حتي يطلع عليه الفجر)) هذا هو المكان والمسرح الذي جرت عليه الاحداث و مافي دلالته من تشبع بروح العقيدة والفكر الصوفي الضارب أطنابه في هذا الجزء من السودان (( فالباحث في النزاعات الفلسفية في الفكر السوداني في القديم والحديث، لا يجد باباً أوسع من باب التصوف فهو أبرز دعائم الفكر السوداني علي الإطلاق سواء في العصور الوثنية عندما كان مرتبطاً بالتراث المصري القديم وكان مجاله كله التقرب إلى الآلهة ، أو في العهد المسيحي عندما سعت الفلسفات الداعية إلى فلسفة الخلاص من رق الأبدان ، أبدان الأجساد وأبدان كل ماهو دنيوي علي الاطلاق إلى أن جاء العهد الإسلامي الذي بدأ مع سلطنة الفونج وانتشرت فيه الدعوات الجديدة الجانحة إلى الزهد في الحياة والتمذهب بمذاهب التصوف المختلفة)) في هذا المكان يلعب الزمن دوره في تغيير أوجه الحياة ، وإحداث التحول المتوقع في سير حركة الحياة في ودحامد من نخلة علي الجدول وحتي مريود دون إغفال المتغيرات السياسية والاجتماعية ينقل الكاتب كل ذلك بصدق فني فريد تتلمس فيه معاني الواقعية في نقل الأحداث مع تغليب كل وجوه الحياة ومعانيها بخيرها وشرها (( إنّه يرتد بموهبته إلى المجتمع السوداني ، يستمد من بيئة النماذج الانسانية والحوادث الاجتماعية ، ليعرض لنا أزمات الأفراد والمجتمعات وتقلب ضمائرهم ، وإيمانهم بعقائدهم الموروثة ، وتفسيرهم للتطور الطارئ علي بيئتهم ، وموقفهم من الأحداث التي تمسهم ومساهمتهم بها)) وهاتان هما الركيزتان اللتان بني عليهما صرح أعماله الفنية ، وهما اللتان تساعدان كثيراً في فهم موقف الأديب من الدين بحسبان أنّ الادب والدين كلاهما يصب في قالب المجتمع ، وياخدان بيد المجتمع نحو الاصلاح والارتقاء . والطيب صالح أديب سوداني مسلم تشرّب من نبع الفكر الإسلامي ، فانعكس ذلك علي معالجاته ومواقفه في الكثير من الأحداث والمشاهد التي ينقلها . ولعل بداياته الفنيه تعطي صورة عن طبيعة الافكار والهموم التي تشغل باله صورة الانسان الذي أزرى به القدر و افقره بعد غنى في باكورة انتاجه (نخلة على الجدول) و لكن هذا الانسان يقابل ذلك بايمان راسخ و عزم اكيد و يقين صادق بأنّ بعد العسر يسراً فهو مبتلي من الله و الصبر على الابتلاء ديدن المسلم ((و بشر الصابرين)) ، ((لقد مات الزرع ويبس الضرع وعم القحط فاغرق الاحياء)) والرجل يميل إلى أنّ سبب الابتلاء هو ضيق الناس بالخير بعد أن أبطرتهم النعمة،ونسيان جانب الله علي حسب نبوءة الشيخ ود دوليب وذلك بعد صوفي..المهم أنّه بين حاجاته الدنيوية والامتثال لهذا لحل القريب ((عشرون جنيهاً يستطيع أن يحل منها دينه ، ويشتري ضحيه العيد ،ويكسو نفسه وأهل بيته.)) نظير بيع النخلة التي كانت فاتحة خير عليه يوماً، ولاننسي الطقوس الدينية التي اداها قبل ان يزرعها اول الامر (( ووارها التراب ، وفتح لها الماء بعد ان تلا آيات من القرآن ، وردد في شئ من الخشوع (بسم الله/ ماشاء الله ، لاحول ولا قوهة الا بالله ) مثلما يفعل ابوه كلما غرس شتله او حصر نبتاً.لم ينس أن يصب في الحفرة قليلاً من ماء الإبريق الذي يتوضأ به أبوه تيمناً وتبركاً )) بيع النخلة هو الحل القريب بينما الصبر علي الابتلاء وانتظار الفرج في غير بيعهاهو الحل الأصعب والبعيد فاختار الاصعب والبعيد ملخصاً ذلك في كلمة واحدة (يفتح الله) دلالة علي رفض البيع ((وقاده ذلك الي التفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) الفاتحة، الفرج وأحس لأوّل مرة بأنّ عبارة (يفتح الله) شيئاً اكثر من كلمة تنهي بها المبايعة، وتقفل الباب في وجه من يريد الشراء ، إنّها مفتاح لمن أعسره الضيق وأمضه البوس وأثقلت كاهله أعباء الحياة . وماكان أحوج محجوب الي الفتح والفرج حينئذ)) حتي جاء الفرج علي يد ابنه الغائب في مصر ، والذي بعث له مالاً فقضي حوائجه ، وأراحه من مغبة بيع النخلة . بهذا الروي البسيطة الواضحة عالج الاديب هذه القصة ويبدو واضحاً تاثر الادب بالموروث والقيم الاسلامية في معالجته، ايمانه بالحتمية والقدر، والصبر علي الابتلاء ،وانتظار الفرج من الله ،والايمان بحكمة الغيب كل ذلك لخصه الاديب في هذه القصة التي تعبر عن موقف واضح بسيط تجاه الدين والحياة. فاذا كانت نخلة علي الجدول تعبر عن موقف الاديب الابتدائي من الدين تحت ظل مجتمع عريق راسخ لم تغيره يد المدنية والتطور ، فان قصة دومة ودحامد تمثل مجتمع ود حامد في عصر التحول والانتقال (( اذا بينما كانت نخلة علي الجدول تجسيداً لثبات مجتمع عريق ،فان دومة ودحامد دعوة صريحة إلى مجتمع جديد تتغير فيه القيم )) فاذا بساطة ( نخلة علي الجدول) من بساطة المجتمع ووضوحه . و لما كان التغيير والتطور سنة في الحياة كان لابد أن يتناول الأديب ذلك وينعكس علي موقفه من الدين ليس علي مستوي القيم العليا ولكن في المواقف التي تجسدها شخصياته تجاه التغيير والمدنية حين يصادم الموروث الديني من خلال قصة ( دومة ودحامد) حيث يصور الكاتب الدومة وزمانيتها بحيث يجعلك تحس أنّك أمام المكان الحقيقي ، فالدومة(( تقف شامخة علي ضريح ودحامد تغطي بظلالها الأراضي المزروعة والبيوت وترسل ظلها إلى ماوراء ذلك وكأنّها (عقاب خرافي باسط جناحيه علي البلد بكل مافيها) تقف شامخة علي الضريح كقيمة وراسخة لدي أهل القرية ، حاملة معني الثبات رغم متغيرات الزمن وتعاقب الاجيال، محركة للأحداث عبر الزمن)) فالدومة رمز لموروث عقدي تأصل في نفوس أهل القرية يرتبط عندهم بعالم الغيبيات تمتد راسخة في نفوسهم ، امتدادها في الازمان ((أبناؤنا فتحوا اعينهم فوجدوها تشرف علي البلد ، ونحن حين ترجع بنا الذكريات إلى الطفولة إلى الوراء إلى الحد الفاصل الذي لاتذكر بعده شيئاً ، نجد دومة عملاقة تقف علي شط عقولنا كل مابعده طلاسم ، فكأنّها الحد بين الليل والنهار.)) والناس في القرية لايرون الدومة إلا في أحلامهم بل لايكاد حلم يخلو من الدومة في أحيازه ((تجسدت الدومة كوسيط مادي ملموس ينقلهم من خلالها إلى عالم الاسرار والغيبيات)) وهكذا تضخمت الدومة أو بمعني أصح صاحب الدومة (ودحامد) في أذهان أهل القرية، وارتقي إلى درجة الأسطورة وأصبح يمثل كل الموروث الديني للقرية وهي علي أعتاب التحول من التخلف المادي إلى المدنيّة والتطور،وذلك يفسر سر الغضبة الجماعية العارمة التي حركت أهل البلد،حينما اقتضي التخطيط قيام طلمبة الماء أو محطة الباخرة عند موقع الدومة،لما في ذلك من تجني علي الموروث الديني والروحي لأهل القرية. وهكذا ظلت الدومة عقبة كئوداً امام المسئولين في تنفيذ مشروعات التنمية والتطور في القرية ووقعت مصادمات بين الحكومات المتعاقبة وأهل القرية ودائماً ماكانت الغلبة لأهل القرية.ورغم إيمان أهل القرية بحاجتهم إلى التجديد والتطور شريطة ألا يصادم ذلك شيئاً عزيزاً مقدساً لديهم كالدومة (ليس ثمة ضرورة لقطع الدومة،ليس ثمة داع لإزالة الضريح.الأمر الذي فات علي هؤلاء جميعاً أنّ المكان يتسع لكل هذه الاشياء ،يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة.)) وربما هذه الخاتمة تصور موقف الأديب من الدين في ظلال التجديد والتطور ومقتضيات الحياة الحديثة،حين يعالج الاصطدام بين التطور والتقنية وبين الموروثات الدينية والعقدية والروحية . وفي عرس الزين تصبح التقنيات الحديثة والتطور واقعاً جدياً في ود حامد يجب التعايش معه، مجتمع جديد بواقع جديد ليس كلّ الجدة وأشتات متباينة من المواقف تجاه الموروث الديني ، الحنين من جهه يمثل الموروث الديني التقليدي الراسخ في أذهان أهل البلد، والإمام يمثل رجل الدين في المجتمع المتقدم،وسيف الدين المتأرجح بين الخير والشر، وشخصيات أخري ممسكة بزمام الحياة الاجتماعية في ودحامد (جماعة محجوب) وغيرهم.فالزين لافته يعرض من خلالها نماذج ماخوذة من واقع حياة ودحامد ، ويبدو في الرواية انحياز الفكر الجماعي لأهل القرية للتصوف وأهل الصوفية ممثلاً في الحنين وذلك مايفسر سر العداء الذي يحسونه نحو الإمام (( رجل صعب لايأخد ولا يدي)) (( كان رجلاً ملحاحاً متزمتاً كثير الكلام )) ويفسر أيضاً بواعث الأحداث والمعجزات والخوارق وردها إلى الشيخ الحنين دون سواه (( لم يحفل الإمام بأنّ الحنين،وهو يمثل الجانب الخفي في عالم الروحانيات ( وهو جانب لايعترف به الامام ) كان هو السبب المباشر في توبة سيف الدين)) وبذلك ندرك ان الكاتب ((ينظر الي الاحياء والاشياء نظرة نفاذة تؤمن بان وراء مانراه من اشياء . أشياء وأشياء . وأنّ أساليب التعامل مع هذا الاشياء يتراوح بين التغيير بالوسائل المادية، والتاثير بقوة الروح .ذلك العالم الخفي الذي يتداخل مع علمنا المادي ، ويتغلب عليه أحياناً، رغم عدم التفاتنا إليه الالتفات الواجب)) والدكتور يوسف نور يري في ذلك الموقف الاخير عدم مجاراه للفكر الجماعي والتطور وعدم مواكبة سلم المعتقدات والقيم للتطور((لقد ذهبت الي ان الطيب صالح اراد من المقابلة بين الامام والحنين ان يقدم تصورين مختلفين للمفهوم الديني في القرية في مرحلة التحول ، وكانه أراد ان يقول أنّه بينما تتغير الأحداث المادية في القرية بسرعة عجيبة يظل سلم القيم والمعتقدات غير مواكب لهذا التطور اذ مايزال كثير من الناس يعتبرون التحولات ضروباً من الكرامات والمعجزات ، وينتصرون للحنين الذي يمثل التدين الصوفي علي الامام الذي يمثل التدين السلفي)) ولكن موقف الاديب نفسه من الإمام يبدو فيه عدم المسامحة والعطف،كما أنّ ممارسات الإمام نفسه لم تكن تتماشي مع روح التدين السلفي .وهذا الانحياز من الأديب وأهل القرية مرده إلي سيطرة المعاني والفكر الصوفي علي حياة أهل القرية ،وتلك صورة قريبة الصلة بالواقع السوداني عموماً باعتبار القرية رمز يمثل السودان باختلاف قبائله ومدنه وقراه((وبهذه النظرة الصوفية التقدمية ينظر الطيب صالح الي الناس والارض والزرع وسائر الاحياء.وينتزع منها جميعاً قيمه الاخلاقية وعمله الفني وموقفه الفكري)) أمّا في موسم الهجرة إلى الشمال ، فيتسع المفهوم والموقف باتساع رقعة الصراع، فاذا كان في القصص السابقة يعالج قضية الدين داخل المهاد النظري والتطبيقي للدين الاسلامي في رقعة من مساحة العالم العربي ، فهو هنا يقضي في مواجهة أمة بأمة وحضارة بحضارة وعقيدة بعقيدة يقول الأديب : ((وكانت تدور في ذهني ايضاً فكرة العلاقة الوهمية بين عالمنا العربي الاسلامي وبين الحضارة الغربية الاوربية علي وجه التحديد)) وموضوع الصراع بين الحضارتين العربية والغربية موضوع قديم يعمقه العداء التاريخي المستحكم بين الفريقين. عالجته اقلام الادباء العرب في العديد من اعمالهم (( استهدفت إلى أنّ موضوعاً كصراع الحضارات ليس من الموضوعات التي ابتدعتها الطيب صالح ، اذ هو في حقيقته أحد الموضوعات التي يدور عليها الفكر العربي الاسلامي في هذه الحقبة التي نعايشها)) ولكن الطيب صالح استطاع أن يعطي للتجربة بعداً جديداً ورؤية جديدة ، فصراع الغرب في الرواية مع حضارتين متداخلتين تتميز اي واحده منها بخصائصها وممزاتها وموروثها الثقافي والفكري فاللون الافريقي الاسود والانسان الافريقي اضافة جديدة لتجربة الصراع ولدائرة الصراع . إذا فقد اختار الطيب صالح بطل رواية الصراع بخصائص تختلف نوعاً ما عن أبطال روايات الكتاب العرب ((نعم هذا أنا .وجهي عربي كصحراء الربع الخالي وراسي إفريقي يمور بطفولة شريرة)) وبنظرة إلى مسرح الصراع نجد المعسكر الغربي يملك التقنية والتطور والنهضة العلميه، ومن ذلك ندرك عدم التكافؤ بين المعسكرين بالمقايس المادية وهذا ما أفرز حب السطوة والتسلط في المعسكر الغربي ، وانعاكسات القهر والظلم في نفس الانسان العربي والافريقي لفترة من الزمن ، فترسبت هذه المعاني في نفسه ، وانعكست علي تعامله مع الغرب بكثير من سوء الظن والريبة. وإن كان البعض قد افتتن بجماليات الحياة في الغرب ممثلة في هذا التطور العمراني والنهضة العلمية، فهذا ما أدي إلى اختلاف طبيعة المعالجات لموضوع الصراع،فالبعض تناول الموضوع وهو في حالة من الاندهاش بالحضارة الغربية ماخوذ مفتون بها ناسياً او متناسياً بواعث الصراع القديمة ومسبباته . وعلي هذه الشاكله جاءت معالجات يحي حقي (قنديل ام هاشم) وسهيل ادريس (الحي اللاتيني ) وتوفيق الحكيم ( عصفور من الشرق) ،يقول الطيب صالح:(( هؤلاء كتبوا في المرحلة التي اسمها مرحلة الاندهاش بالغرب . كذلك تلك المرحلة تتميز باننا نظن انهم كتبوا في المرحلة التي اسمها مرحلة الاندهاش بالغرب . كانت تلك المرحلة تتميز باننا نظن ان علاقتنا بالغرب علاقة رومانتيكية)) بهذا المنظور نري الطيب صالح مدركاً تماماً لخلفية الصراع بين الغرب والشرق فحاول أن يعالج الموضوع علاجًا تحري فيه الحيدة والدقة واستصحاب خلفية الصراع في المعالجة، فخلق نموذجه بتروٍ وتان ٍ وشفافية بحيث يختزن البطل في دواخله الذاكرة الجماعية لقرون من الاضطهاد والكبت والقهر والتسلط الغربي فاعتلي قمة المناصب التي تدعو الي الانعتاق من هيمنه الاستعمار ((كان هو رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير افريقيا )) وقد استقبل في الغرب بالترحاب وان كانت صورة الترحاب مفتعلة أراد بها الغرب أن يثبت تحرره من الافكار والتقاليد والممارسات القديمة، ودعواه إلى مجتمع تستوي فيه الانسانية بجميع أجناسها وأعراقها بحيث يستقبل هذا الأسود ليذوب في بوتقة الحياة الغربية دون عوائق قومية أو إجتماعية ، ولكن لم يخف ذلك علي البطل ((إنّهم جلبوا إلينا جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم ياسادتي إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً .عطيلاً كان أكذوبة)) وهكذا تحدد الهدف ، وإن كان البطل قد لجأ إلى ميكافيلية الوسيلة ، إلا أنّه يعترف بينه و نفسه حين تأوي إحدي الفتيات إلى مخدعه ((إنّما أنا لا أطلب المجد ،فمثلي لايطلب المجد)) ولا يخفي مافي مدلول هذه العبارة من صراع داخلي روحي عنيف لتعارض الوسيلة مع الموروث الديني والروحي للبطل. وقد نقل البطل إلى غرفته معالم التراث العربي الافريقي ،البخور والند وريش النعام والصندل والعاج ،وغيرها من ملامح التراث العربي الافريقي . فمثلما للغرب سحره وإدهاشه للشرق كذلك ذات السحر والادهاش . وهكذا سار البطل مستصحباً معه تراثه في غرفته التي تمثل الحضارة العربية الافريقية في قلب الحضارة الاوربية الغربية ،حتي اصطدم بصخرة جين مورس الكئود التي تمثل الحضارة الغربية بصلفها وغرورها وتفسخها وانحلالها، فما عادت عناصر الادهاش تلعب دورها في التاثير وأصبح أمر المواجهة حتمًا بعد أن حطمت جين مورس أشياءه العزيزة الثمينة التي يحتفظ بها كرموز لانتمائه حتي المصلاة ((اشارت إلي مصلاة من حرير أصفهان ، أهدتني إياها مسز روبنسن عند رحيلي من القاهرة أثمن شئ عندي ،وأعز هدية علي قلبي )) ولايخفي مافي دلالة أهمية المصلاة كرمز إسلامي ، ومصدر من مصادر تركيبة البطل النفسية والفكرية والحضارية ،من تشرّبه بهذا المورد . ولعل احتراقها يفسر كثيراً كلمة (( إنّما أنا لا اطلب المجد ، فمثلي لايطلب المجد)) مهما يكن، فقد أصبحت المواجهة أمراً حتمياً وبعد زواجه بها تبين استحالة تعايشه معها إشارة إلى معني أعمق وأكبر يصب في صميم العلاقة بين المعسكرين . وزاد التجربة مرارة ممارسات جين مورس غيرالاخلاقية فتحركت في دواخل البطل كوامن الداء القديم واستفحل فكان القصاص. كان من الطبيعي أن يعود البطل إلى النبع الأصلي الذي جاء منه،ويشكل ذلك انحيازاً للموروث الحضاري العربي الافريقي ،فاستقر في قرية علي ضفاف النيل هي ودحامد،حيث تزوج بفتاة من القرية ،وثاب إلى رشده وأصبح شخصاً عاملاًً منتجاً. ولعل الكاتب أراد ان يجعله ينجب من هذه الفتاه القروية دون سائر الفتيات اللآتي عرفهن في اوروبا. عاد البطل إذاً عضواً فاعلاً في المجتمع ، يسهم في دفع حركة الانتاج والتطور في القرية بروح جديدة وعزم صادق، حتي أزفت نهايته (( عز الصيف في شهر يوليو العنيد. النهر اللامبالي فاض كما لم يفض منذ ثلاثين عاماً الظلام يصهر عناصر الطبيعة كلها في عنصر واحد. أقدم من النهر ذاته،وأقل منه اكتراثاً هكذا يجب أن تكون نهاية هذا البطل)) مثلما كان لحياته هدف ومغزي ( وإن اخطأ إليه الوسيلة) ، كان لموته مغزي آخر(( لقد مات مصطفي سعيد ميتة كبيرة لها مغزاها.كما كان كل شئ في حياته له مغزاه. ولعل النهر نفسه أراد أن يتطهر بالنور الذي وصل إليه مصطفي سعيد بعد تجارب شاقة وبعد اصطدام جاد وامتزاج عنيف بالحضارة الاوربية. لعل مصطفي سعيد نفسه أراد أن يتطهر هو ايضاً من آثامه الفكرية والجسدية في هذا النهر المقدس لأنه مصدر الحياة التي تدب علي شطآنه)) وهناك بعد آخر في زوايا القضية ومغزي الموت،اذا رجحنا غرق مصطفي سعيد مثلما رجحه الاديب بتلميحاته الذكية مغلباً هذا الراي علي غيره من الاحتمالات، يتمثل في ان روح مصطفي سعيد صعدت وهو في الجنوب حيث الحضارة العربية ولكن جسده مضي حتماً الي الشمال حيث الحضارة الغربية وفي ذلك تصنيف عميق لطبيعة الحضارتين، فالحضارة العربية روحية يغلب عليها هذا الجانب والحضارة الغربية مادية تخضع في جميع امورها لقوانين المادة والبطل عايش الحضارتين واحس غربة الروح في الغرب فقفل راجعا الى حضارة الروح ونبعة الاصلي حيث فاضت روحه بعد ان فارقت الوحشة والغربة في بلاد الغرب. يقول الطيب صالح ((وفي تخطيطي لموسم الهجرة كنت اريد طبعا من ناحية فيها نوع من القصد ان اقلب شخصية الزين، ان احول الوجه الاخر للعملة. الزين شخصية كلها قلب وحب يعطي ولايطلب)) بينما مصطفى سعيد شخصية كلها عقل ومن غريب الصدف أننا لودمجنا الشخصتين لخرجنا بفلسفة صوفية إشراقية وبالفعل كانت الفلسفة الصوفية خلاصة تجربة الاديب الروحية، ونهاية جهاده الاكبر مع النفس تلك التي تبدو في آخر اعماله ضو البيت ومريود. ومثلما تهيأ الاديب لهذا النقلة الصوفية الفلسفية، تهيأت البلد باسرها وتهيأ الزمان لاستقبال هذه الفكرة الجديدة والموضوع الجديد ((فجأة اختل ذلك التناسق في الكون. فاذا نحن بين عشية وضحاها، لاندري ماهو موضعنا في الزمان والمكان)) فانهيار مايمكن ان نسميه في اصطلاح المحدثين مراكز القوى في القرية(جماعة محجوب) يشكل ايذان بعهد جديد (كان محجوب مثل نمر هرم، جالسا جلسته القديمة رغم السنين والعلة ابدا كانه يتحفز للوثوب، معتمدا بيديه على عصاه، وذقنه على يديه، متلفعا ثوبه على راسه فوق العمامة ،عمقت الأخاديد التي على خديه عند الفم ، والتجاعيد على الجبهة، وفي العينين تحولت تلك الحدة مع مرور الايام، وذكريات المعارك والهزائم ولاشك، لم يعد في العينين إلا الغضب)) شاخت الوجوه والاجساد وشاخت الافكار، ولابد أن ينشأ جيل جديد وفكر جديد. إذاً تهيأ المكان والزمان والشخوص لاستقبال الحدث الجديد والفكر الجديد، ليولد تحوطه هالة من الغموض والأسرار، والغموض يشكل ابرز صفحات التصوف والفكر الصوفي . في هذا الجو الذي يكتنفه الغموض تجري أحداث الروايتين وتبدا سلسلة من الغرائب والاساطير تأخذ حيزا في حياة أهل ود حامد،مجئ ضو البيت عن طريق النهر، وأسطورة بندر شاه وحفيده مريود تلك الاسرة التي يجهل الناس تاريخها وأصلها وتضاربت الأقوال حولهم ((لقد كان مجئ ضو البيت بداية عهد جديد في ود حامد، عهد تبدلت فيه الحياة، وبدأ الابناء يطالبون بحقهم الذي سلبهم اياه الآباء عهد تأمر فيه بندر شاه مع مريود لتغويض سلطة الآباء، وذلك تفسير الحذر الشديد الذي قوبلت به هذه الأسرة التي اعتبرها البعض غريبة عن القرية، كما اعتبرها الاخر تاريخا جديدا لها، وقلة هي التي اعتبرت الحذر الذي قوبل به بندر شاه وحفيده مريود من قبيل الحسد وسوء الظن)) وفي ركن هادي من هذه الاحداث تجري علاقة روحية صافية تلك التي ربطت بين قطب زمانه الشيخ نصرالله ودحبيب واحد مريدية الصالحين ذلك هو بلال الذي فجر طاقة الحب الهائلة في تعلقه بالله، ووفائه لشيخه ((لم يرفع بلال في نظر المجتمع حسبه أو نسبة بل رفعه تواضعه ودينه وخبته. لقد أصبح من أهل الحضرة، وأصبح اعتقاد الناس جميعا فيه عظيما وهكذا استطاع أن يزيل كل الحواجزمن طريق ابنه في أن يصبح شيئا في مجتمع هو غريب عنه، وقد تعلم الاثنين الدرس جيدا، وفحواه أنّ الصداقة والحب سران من أسرار الحياة العظيمة)) والطاهر ودبلال ثمرة ليلة واحدة قضاها ذلك الزاهد بلال مع حواء بنت العربي، التي أحبت بلالا حبا عظيما، وبإيعاز من شيخه نصرالله ودحبيب وامتثالا لطلبه الذي يصور رؤيته لطبيعة العلاقات بين الاشياء والناس في فلسفة عميقة غارقة في التصوف ((يابلال. إنّ دروب الوصول مثل الصعود في مسالك الجبال الوعرة.مشيئة الحق غامضة. يابلال، إنّ حب بعض العباد من حب الله وهذه المسكينة تحبك حبا لا أجده من جنس حب أهل الدنيا، فعسى الحق أن يكون أرسلها إليك لأمر أراده. عساه جلت مشيئته أراد لك أن تختبر مقدار حبك بميزان حب هذه المسكينة لك، فإما صحوت وأنقطع سبيلك، واما ازددت ظمأ الي كاس الحب السرمدي. ويكون سبحانه وتعالى قد أنفذ مشيئته باذلالك في إرادته القصوى)) فكان الزواج امتثالا لمشيئة الحق و نزولا إلى رغبة الشيخ . دخل بها بلال ليلة واحدة كان ثمرتها الطاهرالذي يقول مخاطبا الراوي ((الانسان، الدنيا يامحيميد مافيها غير حاجتين اثنين.. الصداقة والمحبة. ماتقول لي لاحسب ولانسب، ولاجاه ولامال.. ابن ادم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان. وأنا المولي عز وجل أكرمني بالحيل.أنعم علي بدل النعمة نعمتين.. أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار)) ومثلما لخص الاديب في مقدمة رواية مريود فلسفته في الحياة من خلال ذلك النص الآسر الذي اقتبسه من كتاب كليلة ودمنة، والذي تصور انصراف الناس، وانشغالهم بامر الدنيا، وطيب العيش ولذاذاته، ونسيانهم للمصير المحتوم الذي ينتظرهم، يضع الاديب مبضعة على مكمن الداء، ليستاصل شافته، ويرد الناس والاحياء الى جادة الصواب، وطريق الحق والفضيلة ((يامريود انت لاشئ. انت لا أحد أنت اخترت جدك وجدك اختارك لأنكما أرجح في موازين أهل الدنيا. وأبوك أرجح مثل ومن جدك في ميزان العدل. لقد أحب بلاملل، وأعطى بلاأمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل. حلم أحلام الضعفاء، وتذوّد من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها)) هكذا يشير في الختام إلى هوان أمر الدنيا عند الله، وذلك ماينبغي أن تكون عليه عند الناس. وهى دعوة صريحة ألى الزهد في هذه الحطام الفانية، والزهد يشكل أحد الدعائم الاساسية التي يقوم عليها التصوف. Alteraify abdella Yousif [[email protected]]